إجتمعت حزمة خصائص نادرة ميزت هوية جيل أبكار الدبلوماسيين السودانيين الذين حملوا راية التصدى والتحدى وحازوا على الجدارة والكفاءة وعرفوا بالتميز والابداع وأسهموا فى وضع اللبنات الاولى لوزارة الخارجية والاساس الراسخ للدبلوماسية السودانية فى المرحلة التى تلت إستقلال السودان فى عام 1956. وعلى سبيل المثال لا الحصر ، كان السفير فخر الدين محمد من الرعيل الأول بالخارجية هو أول سفير سودانى يعمل فى الدولتين العظميين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الامريكية. ووصفه السفير احمد دياب فى كتابه خواطر وذكريات دبلوماسية بأنه "عرف بدرايته وسعة إطلاعه وإلمامه بأساليب البروتوكول ومعاملة الفرنجة معاملة متحضرة ". وكان السفير فخر الدين موهوبا فى فنون النحاته وصياغة الذهب والفضة وبارعا فى الرسم حيث علُقت لوحاته فى ردهات السفارة السودانية بموسكو.
ومنهم السفير الراحل د. بشير البكرى القانونى ذو المواهب المتعددة وذى الباع الكبير فى عوالم الدبلوماسية والصحافة والمصارف؛ ومن اوائل الذين حازوا على درجة الدكتوراة فى الاقتصاد من جامعة السوربون. وكان اول سفير للسودان معتمدا لدى فرنسا فى عام 1957 ؛ ومن أعضاء وفد السودان المؤسس لمنظمة الوحدة الافريقية فى عام 1963 ؛ كما عمل مستشارا لمدير اليونسكو ؛ وله ديوان شعر مطبوع بعنوان باليه الشاعر.
ومن جيل السفراء الرواد من ملك ناصية الأدب واللغة العربية والمتحدث بالأمهرية والراصد لتطورات القارة الافريقية مثل السفير- الوزير الراحل جمال محمد احمد ؛ الذى كتب عن الوطنية المصرية وسالى فو حمر ووجدان افريقيا ، وهو المزاوج ما بين مقام السفير ذى الخطر والشأن ومقام المترجم الذى عده الراحل الروائى على المك مبعوثا إلى اللغات الاخرى ؛ وكلاهما على حد قول جمال" يضربان فى البرية البعيدة ليعودا بما يقرب ويختزل ... ". وكانت تربطنى بالأ ستاذ جمال محمد احمد علاقة حميمة عندما كان رئيسا لإتحاد الكتاب السودانيين ؛ ويومها كنت لا ازال طالبا بكلية القانون ما يدل على تواضعه الجم.
وكان يدعونى الى بيته مرات عديدة حيث تضع زوجه شاى المساء والبسكويت فيما يجيب جمال على اسئلتى حول الدبلوماسية والعلاقات الدولية وأفريقيا والادب والشعر. ويبدو أن شخصية جمال شكلت إلمامى بماهية الدبلوماسى والدبلوماسية وانا فى السنة الرابعة بكلية القانون حيث كان يدرسنا القانون الدولى - وهى مادة وثيقة الصلة بالعلاقات الدولة والدبلوماسية- الدكتور الراحل فتح الرحمن عبدالله الشيخ القادم لتوه من جامعة كمبريدج والذى سبقه فى تدريسنا القانون الدولى العام الراحل د.عمر يوسف العجب الذى حصل على فى وقت لاحق على إجازة الدكتوراة فى القانون الدولى من جامعة اكسفورد وظل يدرس القانون الدولى بجامعة سيتى البريطاينة إلى حين وفاته قبل عامين. وأثرّت علاقتى بالاستاذ جمال فى تفضيلى الإلتحاق بوزارة الخارجية بدلا من مواصلة مهنة المحاماة ؛ لا سيما ان جمال اهدانى كتابا من مؤلفات هنرى كسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة السابق إختاره من رف فى مكتبته وكتب فى الإهداء " لكى تكتب مثله فى المستقبل" وانا بعد طالب قانون ؛ ولقد دعانى ذلك إلى الاحساس بالزهو والحبور إلى هذا اليوم.
وادركت من تجربتى مع الشعراء والأدباء مصطفى سند وجمال محمد أحمد ومحمد المكى ابراهيم ود. عمر عبد الماجد وسيد احمد الحردلو وعبد الهادى الصديق وفضيلى جماع انهم اكثر عدلا وانقى سريرة من الساسة السودانيين. فهم يشيدون بامكانيتك ويبينون لك عوجك لكى يستقيم عودك فتخرج منهم وانت اكثر عزما واشد مضاء ؛ اما الساسة فهم مستريبون بطبعهم ومتوجسون من ذوى الاستعداد القيادى فى منظماتهم ؛ فإن عرفوا لك إمكانية أخصوها فأن إنتقدتهم سلقوك بألسنة حداد ؛ وإن ضمنوا وفاءك لهم قربوك لبعض الوقت حتى تأتى الفرصة ليجعلوك كبش فداء ؛ وإن نافستهم شانوك وإن مدحتهم زانوك فإن توقفت قدحوك وإن عبرت خطوطهم الحمر وما اكثرها حرقوك بنارها ؛ كل ذلك كيلا يبقى فى مضمار اللعبة السياسية فاعل متحرك غيرهم. أما على عهد الانقاذ فاصبحت السياسة منهلا يشربون منه ماء النيل صفوا ويشرب غيرهم كدرا وطينا. المثنوية الجائزة فى عالم الشعراء لا تجوز فى السياسة السودانية بعد ؛ فالشعراء ان لم يجدوها ابدعوها – قفا نبك ؛ وحتى حين لا يجد الشاعر من يثنّيه فإنه يصطنعه ويخاطبه خيالا أو يخاطب دابته مثل عنتره ( وشكا إلى بعبرة وتحمحم). والشعراء والادباء رومانسيون يرون بقلوبهم حيث قال الاديب جمال محمد احمد فى كتابه وجدان أفريقيا " إن رومانسيتى ما حمتنى أن ارى الشقوق والتجاعيد"..
ومن جمهرة السفراء الثوّار ممن جمع بين الدبلوماسية الثنائية والتمثيل الوطنى والدبلوماسية متعددة الاطراف والعمل بالامم المتحدة السفير– الوزير ابراهيم طه ايوب والذى كان ينقل وهو سفير معتمد بنيروبى اخبار انتفاضة ابريل 1985 للاعلام الدولى ولقد اجمع الدبلوماسيون السودانيون فى اجتماع للكلية الدبلوماسية بالوزارة بعيد الانتفاضة على إختياره وزيرا للخارجية فى الحكومة التى كان يرأس مجلسها العسكرى الفريق سوار الذهب ؛ ويرأس مجلس وزرائها الدكتور الجزولى دفعالله. وكنت وما زلت ألتقيه كلما قدم إلى لندن ؛ وهو شخص ذو عقل ثاقب وطرفة فريدة ؛ مقدام لا يخشى فى الحق لومة لائم ؛ وهو لا يزال يتفقد أحوال لدبلوماسين المفصولين فى الداخل والخارج بوصفه الاب الروحى لجيلهم ولا ينفك ناشطا فى المضمار الوطنى يتطلع مع غيره من اهل السودان لبزوغ فجر ديمقراطى جديد ويتنافس على تشكيله مع المتنافسين.
ومن جمهرة السفراء ممن إشتهر بشعر الملاحم أمثال السفراء الراحلين سيد احمد الحردلو وصلاح احمد ابراهيم صاحب ديوان غابة الابنوس ؛ ومنهم السفير الفرانكوفونى المناضل وشاعر الأكتوبريات محمد المكى إبراهيم صاحب ديوان امتى ؛ والذى لا يزال يمشى بقلب امة ؛ ولكن لا شك بعد عودته من الولايات المتحدة إلى الوطن ان الامة التى كتب فيها قصيده الوطنى قد الفاها وقد شيك قلبها الكبير بالشوكة المسمومة فأهريقت دماؤها. ولما التقيته قبل بضع سنين فى لندن فى ندوة سياسية عامة شارك فيها بادرنى بالسؤال: اين انتهت تجربتك الشعرية يأ بُنىّ؟ فقلت له لقد تركت الشعر منذ ان وصفتنى ب " تذهين الشعر" وانا سكرتير ثالث يومها عندما كنت انت سفيرا للسودان فى باكستان ؛ ولعلك تذكر ان مسودة ديوانى " ام درمان تصحو" كانت ضمن محتويات حقيبة سفرك وانت تطالعها لتمحضنى النصح ثم عاد ت ادراجها الى ام درمان موشاة بملاحظاتكم التى اعتز بها ؛ فدُهش. وكان يقصد اننى اقيّد الشعر بعقلى اكثر مما انظمه بقلبى وبعبارة اخرى إننى لا اترك عقلى غافيا حين الاقبال على كتابة الشعر؛ ولا شك ان سعادة السفير المكى قد فاته اننى من جيل اطلق عليه فى الثمانينات " جيل الصحوة" ؛ فبعد إن اصاب الاسلامويون صحوتنا فى مقتل ؛ صرنا ان غفونا فإننا نغفو بعين واحدة من شدة موتان الآمال وإنكسار الطموحات والتشتت فى البلدان مما يذكرنى باغنية المغنى المصرى أحمد عدّوية " توهان ...عالم مليان دخان" .
الشاهد ان " ام درمان تصحو" و"فلوّنيا وزغاريد الفنجفانج" لا يزالان مسودتان رهن حقيبة اغراضى الخاصة حتى التقى لو مد الله فى الآجال شعراءنا العظام مجددا محمد المكى ابراهيم ود. عمر عبد الماجد عبد الرحمن ولكل منهم خصوصية وطعم متفرد فى القصيد.
ومن السفراء العظام ممن اشتهر بالتسفار والترحال حتى انه طوّف اكثر من 80 دولة وكتب فى ادب الرحلات والجغرافيا البشرية والدبلوماسية كتابه الضخم " السودان وسنوات التيه مشوار لم يكتمل " والصادر من دار مكتبة جزيرة الورد بالقاهرة ؛ السفير والوكيل السابق الفرنكوفونى فاروق عبدالرحمن ؛ والذى لم يتمكن بعض - ابناء الضهارى- الذين عاصرتهم فى الخارجية - من نيل شرف تمثيل السودان فى اوربا الا بعد تعيينه وكيلا لوزارة الخارجية عقب إنتفاضة ابريل 1985. واكن للسفير فاروق معزة خاصة ؛ حيث اذكر اننى لما كنت سكرتيرا ثالثا بالوزارة فى اول عام مهنى ؛ جاء فاروق الذى كان سفيرا فى بانغى فى افريقيا الوسطى فى اجازته السنوية ؛ وكان بحاجة ماسة إلى سكرتير ثالث يتحدث الفرنسية ؛ فلما علم بى لم يرسل "المراسله" ليستدعينى او يتصل على بالهاتف ؛ بل جاء بنفسه يبحث عنى وأخبرنى بحاجة سفارته الى سكرتير ثالث؛ ؛ ثم ارددف قائلا : هذا اذا كنت لا ترى مندوحة فى الخدمة بمناطق الشدة التى لا يحبها ابناء المصارين البيض ؛ فأكدت له اننى على يقين من اننى من ابناء المصارين السود وعلى استعداد للذهاب معه ؛ ولكنى سمعت السفير احمد الكردفانى يقول للمستشار عبد الهادى الصديق –الشاب هذا لا يزال اسمه مكتوبا بقلم الرصاص ! أى اننى لا ازال دبلوماسيا حديث التعيين بالوزارة.
ثم ان السفير سيد شريف مدير المراسم عندما عملت معه قبل انتقالى للادارة القانونية استدعانى مرة بعد ظهور مقال لى بصفحة اليوميات بصحيفة الايام -وكان رئيس تحريرها الاستاذ الراحل حسن ساتى والأستاذ مرتضى الغالى محرر الصفحة- ووبّخنى بقوله: لماذا تكتب فى الصحف وانت دبلوماسى ؟ ألا تعلم إن الدبلوماسيين ممنوعين من الكتابة فى الصحف ؛ ثم يمسك ورقة صفراء من دفتر مذكراته الانيق الذى يجاوره قلم حبر باركر اكثر أناقة من الدفتر وينفخ فيها حتى " تطير" فى الهواء ويقول: يا إبنى انت لا تزال مكتوبا بقلم الرصاص فى كشف الدبلوماسيين. ولقد طلب السفير فاروق من وكيل الخارجية آنذاك – الاستاذ الراحل هاشم عثمان- ان يخلى سبيلى وينقلنى الى بانغى لأنه بعد ان ضمن قبولى للعرض سوف لن يجد بديلا يبدى الاستعداد نفسه للعمل بمناطق الشدة ؛ ولكن السفير-الوزير هاشم عثمان تحفظ أيضا بدعوى حداثة تعيينى.
ومن السفراء الفرانكوفون لغة ودراسة والحائز على الدكتوراة فى التاريخ الافريقى من احدى جامعات فرنسا وصاحب اسرار تمبكتو القديمة ومهرجان العصافير والأراك ؛ السفير الاديب د. عمر عبد الماجد عبد الرحمن ؛ الذى قضيت معه فترة الشدة التى لابد ان يمر بها الدبلوماسى حتى يعجم عوده ويشتد ساعده؛ وعملت معه فى سفارة السودان بالكنغو الديمقراطية- زائير- على عهد الرئيس موبوتو على ايام الديمقراطية الثالثة وحكومة السيد الصادق المهدى. ولقد أفدت كثيرا من رعايته وشعره وانسه ومرحه وفرنكفونيته وروحانيته ؛ وكان يعرض علىّ اشعاره التى كتبها فى الكنغو والتى حواها ديوانه مهرجان العصافير وهى طازجة. وكان أحد الدبلوماسيين ممن خبر عمل السفارت وسلبيات العمل فى الخارج ذكّرنى عندما اقترب كشف التنقلات بقوله: لا تحفل بالموقع الذى تنقل له ولكن تأكد من السفير الذى سوف تعمل معه! ولا اريد ان اذكر اى تفاصيل سوى ان الذين " ارجعوا" من السفارات بامكانهم الكتابة عن باطن الدبلوماسية وانا لم اخبر سوى مخبرها.
وعشت تجربة وسطوة حكم المارشالات العسكريين وتصرفاتهم السياسية حينما يمسكون بسدة السلطة ! لقد منح الرئيس موبوتو نفسه رتبة المارشال وحكم بحزب واحد واحادى بموجب دستوره يولد المواطن الكنغولى وهو مسجل فى عضويته رغم أنفه ؛ وكان يردد مرارا فى خطبه السياسية " نريد الزائير يدا واحدة ولغة واحدة وابا واحدا ( موبوتو) واما واحدة ( زوجه) وحزبا واحدا وهو حزبه الحاكم (الحركة الشعبية للثورة) و يعنى بذلك نفى التعددية السياسية. ولم اكن اتوقع ان يعاد انتاج مارشالية موبوتو بحزبها الاحادى فى السودان ولمدة تناهز فترة حكمه لأن موبوتو لم يزعم انه مثالى او متدين او جاء ليطبق شرعة الانجيل.
واذكر اننا لما اصطحبنا سعادة السفير د. عمر عبد الماجد مع طاقم السفارة لتقديم اوراق اعتماده لفت نظرى ان قصر موبوتو الرئاسى الذى تحيط به حديقة كبيرة جدا قد شيد فى مساحة واسعة تكفى لبناء ملعب اولمبى بكل المقاييس. واثناء دخولنا إلى مكتب الرئيس -المارشال موبوتو يحادث السفير ضمن أريحية التشريفات المراسمية ؛ ثم أشار فجأة بيده قائلا: " السيد السفير هل رأيت الفهد الذى يقبع خلف منضدتى؛ انه فهدى ". فأتجهت اعيننا بشكل درامى ومفاجىء إلى فهد الرئيس موبوتو وهو طوطم الملك فى مملكته. وكان يساورنى الخوف تارة وتأخذنى الدهشة تارة اخرى عسى ان يفلت ذلك الفهد ويدخلنا فى مأزق وحرج دبلوماسى ؛ لا سيما ان فترتنا التدريبية اقتصرت على جوانب مهمة من بينها تعليم التصويب بالسلاح النارى اوالمسدس الالمانى الفيلتزر وتركيب المسدس من قطع متناثرة فى خلال عشر ثوانى فقط والوقوف على اهبة التسديد ؛ وذلك بجناح قادة كتائب مدرسة المشاة بالكلية الحربية بكررى فى ايلول عام 1982 والذى تم تحت إدارة وإشراف قائد مدرسة المشاة عميد أ.ح. عثمان إدريس بلول وقائد جناح قادة الكتائب عقيد أ.ح. فاروق على محمد ؛ وفى القيادة العامة للقوات المسلحة اشتمل التدريب على الالمام بقواعد الامن الوطنى وخوض تجربة عملية للتخليص من قبضة رهائن داخل السفارة ؛ اما شقها الاكاديمى فكان تحت إشراف د. حسن أبشر الطيب بأكاديمية السودان للعلوم الادارية ؛ لدراسة المبادىء الاساسية لسياسة السودان الخارجية واستراتيجيات السياسة الخارجية والمنظمات الدولية والاقليمية وقضايا التنمية الاقتصادية وعمليات الادارة وإتخاذ القرارات والعلاقة بين السياسة والادارة ؛ وذلك قبل الابتعاث إلى القاهرة لقضاء فترة عام بمعهد الدراسات الدبلوماسية بوزارة الخارجية بمصر؛ ولم يشتمل التدريب الداخلى ولا الخارجى على كيفية التماسك امام الكواسر والضوارى.
بالطبع لم اظن ان فهد الرئيس موبوتو البدين إذا أفلت من قفصه سيمزقنا إربا لأنه بالضرورة كان اشبع من فقراء الزائير فى أحياء ماتونغى وكازافوبو وبندال. ولكنى وانا اتأمل فى الهدوء التام الذى بدا على سحنة الفهد الكنغولى وهو يصوب نظراته العميقة تجاهنا ؛ تخيلت انه ذا أفلت سيقصد بشكل مباشر سعادة السفير عمر عبد الماجد لأنه كان يرتدى زيا لم يره النمر الرئاسى من قبل حيث كان يرتدى على عادة السفراء السودانيين الجلباب السودانى والعمامة والقفطان. وكان حذاء السفير د. عمر عبد الماجد سيثير فضول الفهد الرئاسى ؛ والذى كان ينتعل مركوبا من جلد الفهد الذى درج السفراء على انتعاله لدى تقديم اوراق الإعتماد.
كانت تلك آول وآخر مره أجلس فيها بجوار الفهود والضوارى فى غرفة واحدة دعك من زيارتها فى حدائق الحيوان. ولعل تجربة العمل بالكنغو والالتقاء بالرئيس موبوتو ذى الصيت والهيبة والكاريزما قلصت الخوف فى نفسى وأعادت تعريفه لا سيما ان فترة عملنا تزامنت مع إنتشار وباء الأيدز ؛ حتى اننى كتبت الى وكيل الوزارة حينها – السفير فاروق عبد الرحمن – بشكل خاص طالبا منه ان يمنح طاقم السفارة علاوة الايدز لاننا نعمل فى منطقة موبوءة بالطاعون ؛ ناهيك عن الملاريا التى كانت تخبط خبط عشواء مرة فى الشهر على الاقل لولا كرم الطبيب المصرى الدكتور طه الذى كان يعالجنا فى مستوصفه بلا مقابل. رغم انى حينما اشتدت بى وعكة عرض على صديق دبلوماسى بالسفارة الامريكية القدوم للسفارة الامريكية بكنشاسا ليقوم بفحصى طبيبهم الأمريكى الخاص ففعلت ، وأحطت السفير علما فأستحسن ذلك واعتبره مهارسة دبلوماسية جديرة بالاعتبار وابدى موافقته بقولته المشهورة- برافو عليك- .
وبعد ربع قرن ؛ لشد ما ادهشنى ان سعادة الوكيل السفير فاروق عبد الرحمن دعانا كعادته الى عشاء بشقته فى لندن ومن بين المدعوين دبلوماسيين سابقين (أحمد عمر البشير وابراهيم عبد المنعم وأحمد حامد الفكى والراحل السفير الطيب حميده والسفير عصام ابو جديرى) ؛ وبعد العشاء وريثما يتم إعداد الشاى لا حظت انه يقلب فى صفحات ملف كبير ؛ وفجأة اخرج منه الخطاب الذى كتبته له بخط يدى من الكونغو فى عام 1987 مطالبا بعلاوة الايدز ! وعلى كل من بعث برسالة خاصة إلى سعادة السفير فاروق ان يطمئن ، إنها محفوظة فى ملف أضابيره دلالة على تقييمه لكتابات الناس حتى وإن قل شأنهم حيث كنت مجرد سكرتير ثانى حينها.
ومن المواقف المدهشة التى تعلق بالذاكرة ان الجالية السودانية بالكنغو تضم عددا كبيرا من التجار المقيمين فى مناطق شرق الزائير وبونيا وبينى وغيرها. وكنت قد اصطحبت السفير د. عمر عبد الماجد فى زيارة رسمية تفقدية بصفتى مشرفا على العمل القنصلى بعد توقف ابتعاث القناصل من جهاز الامن على عهد الرئيس النميرى. ولكن طيران إير زائير المنتظم تحت إشراف شركة الطيران البلجيكية سابينا ينتهى فى غوما عاصمة شرق الزائير. ومنها لمن اراد ان يسافر شمالا ان يستخدم طائرة فوكرز لا تسع إلا لأثين وثالثهما الكابتن البلجيكى. واذكر ان سيدة اعمال كنغولية قالت لى قبل الرحلة بشىء من السخرية - اريد ان أذكرك يا مسيو ادريس ان الطائرة التى ستقلكم إلى بونيا ذات محرك واحد فقط ؛ فإذا تعطل المحرك اسمح لى بأن اعزيك مقدما لأنك سوف تشهد تجربة الطيران التى قام بها البشر فى اوقات سابقة بدون توفر التقنية اللازمة ؛ ولسوف تكون نهايتكم على قمة اشجار الكنغو الباسقة. واردفت قائلة بمكر: لا تبتأس فقد قضى داج همرشولد سكرتير عام الامم المتحدة من قبل فى حادث طيران وهو دبلوماسى اممى وسط غابات الكونغو التى يبدو انها لا تعشق سوى الدبلوماسيين الاجانب! ولجأت إلى قراءة سورة يس التى احفظها ضمن ما احفظ من سور القرآن العظيم لتبديد الهم والغم. وكانت تلك اطول رحلة مخوفة استمرت أكثر من أربع ساعات وسط حقول اشجار الكنغو الباسقة تماما كما قالت لى سيدة الاعمال والتى يبدو انها كانت تقل تلك الطائرة الوحيدة ضمن رحلات أعمالها فالتجارة تتطلب ركوب المخاطر وكذلك الدبلوماسية. ولكن اثر الوصول الى بونيا والتفكير فى رحلة العودة الى غوما ؛ أتى رئيس الجالية السيد عبد المنعم والمعروف هناك ب "عبدول" والمتحدث بلغة اللينغالا بطلاقة ؛ ليؤكد لنا ان اعدادا غفيرة من السودانيين المتواجدين بمناطق بينى وأبا وبوتيمبو على الحدود السودانية- الاوغندية- الكنغولية لم يتمكنوا من الحضور إلى بونيا. وينبغى التوجه الى تلك الاصقاع الحدودية النائية لتقديم الخدمات القنصلية وتجديد الجوازات حتى لا تنقطع اقاماتهم بسبب نفاد امد الجواز السودانى الذى يجدد لفترة سنتين فقط . ولكن كيف سنسافر الى مناطق الحدود وعمليات الحركة الشعبية وجنودها قريبة من تلك المناطق حيث أفادنى بذلك احد معارضى الرئيس موبوتو والناشط فى الحركة اللوممبية وذى صلة خاصة بقيادات من حركة التحرير الفلسطينية. وبحساب المخاطر بدأت إطمئن نفسى اذا وقعنا فى اسر الحركة الشعبية لتحرير السودان فلربما اسعفنا معرفة الاخ الور دينغ وكان زميل دفعة بالخارجية ( عين وزيرا للخارجية بعد توقيع اتفاقية السلام مع الحركة الشعبية )؛ وهناك ايضا زميلنا بكلية القانون بجامعة الخرطوم نيال ويليام دينغ ؛ هذا اذا لم يقلبوا لنا ظهر المجن ويعدوننا مجرد مندوكورات فى خدمة حكومة السودان عدوهم الرئيس. يا لطيف ؛ ستقلنا مجددا طائرة فوكرز يقودها طيار بلجيكى فى الصباح الباكر. ولما جلسنا على مقاعدنا ونحن على اهبة الاستعداد للاقلاع فأجأنا الطيار بلكنة فرنسية بلجيكية: سعادة السفير ارجو ان انوه بأن الطائرة ذات محرك واحد ؛ وارجو ان نعود قبل مغيب الشمس لأن المدرج الذى سوف نقلع منه وكما رأيتموه عيانا بدائى ومحلى ولا توجد به إضاءه لاحمراء ولا صفراء ناهيك عن وجود برج مراقبة. أكد له السفير اننا اجتزنا تجربة الطيران على طائرة بمحرك واحد قبل بضعة ايام وهذه المرة سوف تمر بسلام ان شاء الله واننا سننهى جولتنا التفقدية فى وقت مبكر بعد الظهيرة حتى نتمكن من العودة والهبوط قبل مغيب الشمس.
ولكن تجرى طائرات المحرك الواحد والاجواء الكنغولية بما لا يشتهى السفراء. ففى رحلة العودة الى بونيا وقبل الوصول بحوالى نصف ساعة حاصرتنا موجة من السحب الكثيفة حتى اظلمت الدنيا فى اعيينا. ثم تعرضت الطائرة لشد وجذب تلك السحب واصبحت مثل لعبة الاطفال بوجه وعتو الرياح الاستوائية بشكل يثير الإشفاق. وساد الصمت والترقب؛ ليفاجئنا الطيار بقوله: سيدى السفير يؤسفنى ان اقول بأننا نتعرض الى متاعب وان السحب التى تحاصرنا ابطأت كثيرا من انسياب الطائرة وأخشى ان يحول ذلك العامل غير المحسوب فى الحيلولة دون الهبوط قبل مغيب الشمس حسبما هو مأمول. وبعد مدة ساد فيها الصمت مجددا اكد الطيار ان الشمس قد غابت بالفعل وبدأ ظلام افريقيا الاستوائية يرخى سدوله فى إباء وشمم حتى لكأنه يزيد الوضع الحرج أصلا مزياد من الإحراج. وقال الطيار انه سوف يكتفى بالدوران حول جبل شاهق اعترض مسار الطائرة ليتسنى له تبين خط النهاية. وتذكرت مزاح سيدة الاعمال الكنغولية التى يبدو انها مرت بتجربة مماثلة آثرت عدم سرد تفاصيلها؛ فقد حكى لى رجل اعمال هندى تعرفت عليه فى كنشاسا انه لم يتمكن من التغلب على هلعه حين مرة بتجربه مماثلة فبال فى لباسه وكانت طائرته بوينغ فسيحة ولطيفة وليست مثل التى تقلنا بمحرك واحد ومجال محود ضيق .
وأكد الطيار ان المسافة المقطوعة بحساب الاميال الجوية تفيد بأننا نحلق فوق منطقة المدرج ولكنه لا يراه بسبب هبوط الليل. وحينها تذكرت ولعنت سيدة الاعمال التى يبدو انها قارئة اقدار ماهرة . وفجأة التفت نحوى السفير عمر عبد الماجد قائلا: ود الفكى حافظ سورة يسن؟ نعم بالحيل ، أقراها . وشرعت فى قراءة سورة يس فى عجل حتى اكملها فى أقصر مدة ممكنه. ولما وصلت إلى نصفها جاء صوت الطيار ليقول لنا ؛ انه تمكن من تجاوز عقبة الجبل الذى كان يزيد من اثر الظلمة وسوف يحاول خفض ارتفاع الطائرة شيئا فشيئا ؛ ولما أكملتها قال الطيار انه يرى بإ لكاد بداية مستطيل اسود مستقيم على الأرض وانه يعتقد ان ذلك هو المدرج وأنه لا يملك اى خيار سوى الهبوط فى ذلك المستطيل والصمت سيد الموقف.
ثم دنا اكثر وأكد انه واثق الآن حسب خبرتة فى الطيران ان ذلك المستطيل المظلم واحد من شيئين: اما هو المدرج الذى يبدو سواده اكثر مما حوله واما هو مصير أسود ينتظرنا ؛ وكلما انخفضت الطائرة يزداد تميز المستطيل المسود حتى هبط متوكلا على الله بسلام . وكانت تلك كما يقول اهلنا فى درافور " زرّة مرفعين طلعت ليهو الشمس فى الحِلّه" . وليت الدبلوماسين يحكون عن "زراتهم" حتى يعلم الغير ان فى وردية مهنتهم اشواك مثل شوك اللعوت والكيتر. اردت من سرد تلك القصص إيضاح استعداد الدبلوماسى المحترف لمجابهة التحديات وتجشم المخاطر لتمثيل السودان والسودانيين حتى وكأنه يستعير شعار العسكريين " العسكرية تصّرف " ؛ وهناك من الزملاء الدبلوماسيين من منحوا أنوا ط الشجاعة تقدير لدورهم فى معايشة احلك الظروف فى احداث الحروب فى بعض مناطق التمثيل الدبلوماسى فى شاد والعراق اذكر منهم احمد عمر البشير.