الدروس الظاهرة والمخفيّة فى المسألة الصومالية: “والكلام ليك يا المطيِّر عينيك!”

 


 

 

aelhassan@gmail.com
بدايةً، لابدّ أن أعترف بأننى مُنحاز للصومال والصوماليين، ومُعجبٌ و"مشروق" بصلابتهم وبسالتهم وجسارتهم وصبرهم الذى لايدوم على المكاره والفقر وقسوة الطبيعة ، و"خمج" الحُكّام والحكومات ،وبافتخارهم الشديد بصومالايتهم وبعزّتهم. ومُعجبٌ أكثر ب"جعليّتهم" و"جنّهم المصرّم" الذى أذاق اﻷمريكان والجيران وبلاد المهاجِر رأس سوطهم ولا يزال! وهم فى رأيى الشعب الوحيد الذى "يقعد ويقوم على كيفو"، بينما يُغنّيها اﻵخرون ويَعرِضُون على إيقاعِها!
كنت دائماً أقول ﻷصدقائى الصوماليين أنهم شعب رائد ، شقّ طريقاً جديداً غير مسبوق فى تسيير شئون البلاد والعباد، وشعبٌ مُعلّم علم "العالم أجمع" كيف يستغنى عن الحكومات والدول. ألم يُحقق نبوءة كارل ماركس ب"تلاشى الدولة" حتى صارت صفراً ، ودعوة الرئيس ريجان بتقصير ظلّ الحكومة حتى اختفى الظلُّ والعود؟؟ عشرون عاماً ونيف منذ أن نبذ شعب الصومال "الدولة" و"الحكومة" ، ولا يبدو أنه يفتقدهما. ورغم اﻹقتتال الشرس الذى لا يهدأ إلّا ليستعر، ورغم النزوح والهجرة، ورغم عوادى الطبيعة من جفاف ماحق وفيضانات عارمة و"تسونامى" مدمّر، تسير الحياة فى الصومال وسط حقول اﻷلغام وانهار الدماء، ويزدهر الاقتصاد والتجارة، وتتدفق اﻹستثمارات الصومالية من داخل الصومال ومن المهاجر، وتنشط حركة الصادر والوارد، وتنشأ فى البلاد نحو سبع شركات خاصّة للهاتف المحمول وسبع شركات خاصة للطيران  وأكفأ شركات تحويل اﻷموال، ويظلّ الشلن الصومالى مُبرئاً للذمّة فى غياب البنك المركزى ووزارة المالية.  وقد أدّت المنافسة و"التحرير" الحقيقى للاقتصاد إلى وفرة السلع وتدنى اﻷسعار. كلّ هذا فى غياب تام وطويل لرئيس الجمهورية والوزراء وولاة اﻷقاليم ووزارات المالية والتجارة والصحة والتعليم وشئون الشباب والمرأة، واﻷمن "القومى" والجيش والشرطة وخفر السواحل وحرس الصيد، والبنك المركزى والنقل الميكانيكى ووزارة اﻷشغال والهيئة القومية لكذا واﻷمانة العامة لكذا. وقد أدرك الصوماليون باستقلاليتهم وفطرتهم،  وعشقهم للحرية واﻹنعتاق أن الدولة عبء ثقيل غير ضرورى، وعالة تقتات وتنمو على دمائهم، تمحق ثرواتهم ومواردهم، وترهن مستقبل أجيالهم، وتهدر أموالهم فيما لا طائل ورائه من مشاريع "عملاقة" وهمية وصرف بذخى على مظاهر الدولة والسلطان. تفتح الباب على مصراعيه للقائمين على أمرها، هم وأسرهم وبطانتهم ومنافقيهم، لينهبوا اﻷموال العامة ويكتنزوها فى مصارف بعيدةً وآمنة، فنبذوها غير نادمين ولا يزالوا. إذ ماذا فعلت لهم الدولة؟ تركتهم فريسة للفقر والجهل والمرض، وضحية لجبروت جيشها وشرطتها وقوات أمنها الظاهرة والمستترة، وبقرةً حلوب لجباياتها وضرائبها ومكوسها، وحقل تجارب لنظريات الهندسة اﻹجتماعية البائرة. تُكمم أفواههم وتُقيّد حركتهم وتسومهم العذاب والتعذيب والهوان والتشريد، وتُريد منهم بعد كل ذلك أن يخرجوا مههلّلين هاتفين مُسبحين بحمدها! وحين فاض كيلهم، نبذوا الدولة، وكفروا بمؤسساتها وقوانينها، واختاروا فوضى غياب الحكومة، وانطلقوا يذبّحون بعضهم ويدمّرون بلادهم بيد، ويصنعون الحياة واﻷعاجيب باليد اﻷخرى.
أو لا يستحق وضع الصومال الغريب هذا  وقفةً متأمّلةً، ودراسةً فاحصة ﻹستخلاص العبر والدروس الظاهرة والمستترة؟  نُدرك أن خروج اﻷمريكان  المتعجل الحانق من الصومال بعد دخولهم الظافر فى1992، وخروج قوات اﻷمم المتحدة بعدهم، أفلح فى أن يجعل العالم ، بمنظماته الدولية واﻹقليمية وحكوماته الراشدة وغير الراشدة، يدير ظهره للصومال إلّا قليلاً، ويصمُّ أذنيه عن صرخات استغاثة نسائه وأطفاله وشيوخه، وفى منعِه من استخلاص الدروس الواضحة والحقيقية من أزمة الصومال ، وندرك كذلك أن حكوماتنا لا تتعظ  بتجارب وأخطاء اﻵخرين. ولكن رغم ذلك نسوق بعضاً من هذه الدروس عسى أن يفتح الله البصائر :
الدرس اﻷول، ليس من الضرورة أن تنشب الحروب اﻷهلية الطاحنة بسبب خلافات عرقية أو دينية أو جهوية، وانظر ،هداك  الله وأنار بصيرتك، الى الصومال المتجانس الذى ينحدر جلّ، أو قُل كلّ، سكانه من نفس العرق ويدين بنفس الديانة ويتحدث نفس اللغة، ولم يُثنِهم ذلك عن تقتيل بعضهم وتشريد الملايين من أهلهم داخل وخارج الصومال وتدمير بلادهم، ولا يزالون. وانظر كذلك الى "فسيفساء" تكوينات دول الجوار والمنطقة، كالسودان وأثيوبيا وكينيا ويوغندا والكنغو ونيجيريا وغيرها، وادعو الله أن يلطف بها.
الدرس الثانى، القبول ببقاء الدولة وسلطتها واستمرار ممارسة هذه السلطة ليست أمراً حتمياً أو تلقائياً كما بيّنت لنا التجربة الصومالية. وقد توافق الناس عبر تطوّر المجتمعات على التنازل عن قدر كبير من حرّياتهم لصالح الدولة وتركوا لها احتكار القوة المسلّحة وسلطة تنظيم المجتمع وحمايته وإدارة شئونه وفرض الضرائب وتقديم الخدمات الضرورية وحماية الحدود وصون السيادة الوطنية وموارد البلاد. وحين فشلت الدولة فى القيام بهذا الدور على نحو معقول، كما حدث فى الصومال، نُبذت نبذ النواة، وطفق الصوماليون يبحثون عن مؤسسات جديدة تقوم بدور الدولة، أو بعضاً منه، فالتجأووا إلى القبيلة والعشيرة والبطون واﻷُسر وأمراء الحرب والمغامرين والمحاكم اﻹسلامية وشيوخ الدين وغيرهم. ورغم الوساطات والتدخلات اﻹقليمية والدولية المستمرة، ومؤتمرات الصلح والمصالحة التي لا تنفضّ الا لتنعقد، ما زال الصوماليون ، كما يبدو، يُفضّلون الفوضى الدامية والمعاناة على الدولة المركزية غير الرشيدة التى خبروا واكتووا بنارها.
الدرس الثالث، فشل الدولة المركزية أو عجزها فى لعب دورها، أو غيابها التام كما هو الحال فى الصومال، قد يدفع المجتمع، أو بعض فئاته، إلى لعب هذا الدور بما فى ذلك امتلاك واستخدام القوّة المسلّحة وتنظيم شئون المجتمع من إدارة للاقتصاد وفرض للضرائب وتقديم للخدمات، وحتّى صون السيادة والموارد الوطنية. وما ظاهرة "القرصنة" فى مياه المحيط الهندى وبحر العرب (فى بعض جوانبها) إلّا محاولة لبعض الصوماليين لحماية الثروة السمكية للصومال من تغوّل ونهب أساطيل صيد اﻷسماك التابعة لبعض الدول، ومنع رمى النفايات الضّارة قبالة الشواطئ الصومالية.
الدرس الرابع، تشير التجربة إلى أن معظم دول أفريقيا تُسبّح بحمد النظام الفدرالى واللامركزية ولكنها فى واقع اﻷمر تواصل هيمنتها الخانقة على أقاليمها، تمتص دماءها وتُفقرها وتُهمّشها، بينما تنمو العواصم والنُخب الحاكمة نمواّ سرطانياً وتنفرد بالخدمات واﻹستثمارات وبالسلطة والثروة. وقد كشفت التجربة الصومالية أن غياب الدولة المركزية المُهيمنة ، رغم خطورة تبعاته، فيه بعض الخير. ومن ذلك نمو حكم لامركزى حقيقى اقتضاه هذا الغياب الطويل (ومن قبله اﻹهمال المريع) ، فقد نشأت خلال العقدين الماصيين مراكز ادارية وحضرية واقتصادية جديدة فى أقاليم الصومال المختلفة، تدير شئونها واقتصادها وخدماتها، وتبني الجامعات و المطارات والموانئ وتتاجر مع بلدان الدنيا. ومن المؤكد أن أى حكومة قادمة (إذا قيّض الله للصوماليين أن يتفقوا) لن تستطيع العودة إلى "سيرتها اﻷولى" وفرض الهيمنة المركزية الخانقة واﻹستئثار بالسطة والثروة على حساب اﻷقاليم المهمشة.
الدرس الخامس، أثبتت التجربة الصومالية صحّة المثل العربى "ما حكّ جلدك مثل ظفرك"، إذ ليس أقدر على حلّ مشاكل البلاد من أهلها.  يأتى الوسطاء والمتدخلون وقد لوّنت رؤيتهم مصالحهم وأجندتهم الخاصة. وإن حسُنت النوايا ، لا يتيسر لهم الفهم الصحيح لوضع البلاد وأسباب مشاكلها وسبل حلولها. وقد شهد الصومال سيلاً يكاد لا ينقطع من الوساطات والتدخلات الدبلوماسية حيناً والعسكرية حينا آخر، والمناشدات والتهديدات، ولم يثمر كل ذلك إلّا مزيداً من القتال، وتبدُّل للمُقاتلين واﻷعداء ، واستمرار معاناة الشعب الصومالى المنكوب. ولن ينفرج الوضع إلّا بتوفر الرغبة الصادقة للصوماليين أنفسهم فى الوصول إلى حلٍ، مما يمكنهم من الوصول إلى مثل هذا الحل وإلى تمكّن اﻵخرين من عونهم.
الدرس السادس، الشباب وقود الحروب اﻷهلية الرئيسى وجنودها، يدفعهم الفقر واﻹحباط الدائم واليأس المطبق واضطراب اﻷوضاع وفقدان اﻷمل فى المستقبل وضيق فرص التعليم والعمل والحياة الكريمة  إلى اﻹمساك بالكلاشنكوف، يمنحهم وهم المشاركة والفعل والقوة والزهو ومصدر الرزق، تُسكرهم  أبخرة البارود والدم والهوس الديني، فلا يريدون لمثل هذا الوضع تبديلاً. فالمعالجة الحصيفة لابدّ أن تبدأ اذن بهم،  وهم غالب أهل البلاد. والعناية بهم تعنى العناية بأهلهم وبالبلاد، وهذه بداية الحكم الراشد.
الدرس السابع، يتوجّس "المجتمع الدولى" بمنظماته وحكوماته وبلدان جواره ممّا يحدث فى الصومال أﻻن، ويحاول، بجهد المُقِل بعد طول تجاهل، أن يعالج أعراض المرض الصومالى من فوضى عارمة، واقتتال شرس، وفقر ومجاعة، ونزوح وفرار للمدنيين العُزّل، وتفتت لوحدة البلاد، وتهديد ﻷمن المنطقة بأسرها، ونشوء للأصولية المعتدلة والمتطرّفة، وتدفق للسلاح، وقرصنة بلغت أعالى البحار، ولكنه لا يتوقّف كثيراً عند أسّ البلاء،ولا يُشخّص المرض ولا يعالجه.  والمرض فى رأيى يكمُن فيما "زرعته" حكومات الصومال المتعاقبة، وخاصّة حكومة سياد برى ، من فساد وإفساد، واهدار للوقت والمال، واهمال لاحتياجات الصوماليين اﻷساسية، وقمع للمواطنين، واستخدام مُفرط للقوة ضد الشمال، وتخبط فى السياسات والتوجهات. وما نراه اﻵن ولما يزيد عن العقدين من الزمان هو الحصاد المُر، والخاسر أولاً وأخيراً هو شعب الصومال.
الدرس الثامن، يتوجّب على حكومات العالم، قويُّها وضعيفها، وعلى منظماته اﻷقليمية والدولية،الفاعلة والهامدة، وعلى مُنظّريه، ألّا يستهينوا باﻷفراد والشعوب وأن بانت عليهم الذلّة والمسكنة، وبقوّتهم الكامنة، المدمّرة إن استُثيرت، والخلّاقة إن استُغلّت، وبغضبهم الحارق إن اشتعل أو أُشْعِل. وانظر إلى ما حاق باﻷمريكان حين نزلوا فى 1992 على شواطئ مقديشو، مزهوّين بخمر اﻹنفراد وقد دانت لهم الدنيا بانهيار اﻹتحاد السوفيتى، وحسبوا أنهم يستطيعون "ترتيب" العالم وبيوت اﻵخرين. رأوا الصوماليين وقد أصابهم الهزال وضمرت وجووههم وغارت أعينهم، نصف عراة إلّا من إزار "قُرباب" يلفّ خصورهم النحيلة، حفاة إلّا من "تموت تخلّى" ينتعله السعداء منهم، فاستهانوا بهم وبمقدرتهم، ليس على المقاومة فحسب، بل حتى على الغضب المدمّر.
الدروس الصومالية، الظاهرة والمخفيّة، لا حصر لها لكل من يتفكّر فيها، وإذ اكتفِى بهذا القدر، أسأل الله أن يقيل عثرة أهل الصومال، وأن يهديهم و"يهدئ سرّهم"، وأن يجازيهم على صبرهم ومعاناتهم حُكماً راشداً يرتضون، وأن يفتح بصائر الجميع ليأخذوا العبرة والعظة من دروس الصومال،….."والكلام ليك يا المطيّر عينيك!”
-------
"نُشر قبل سنوات، ولا يزال ساري المفعول!"


 

آراء