الدروس المُستفادة من إلهام الإنتفاضتين التونسية والمصرية -2-

 


 

 


مهدي إسماعيل مهدي/ بريتوريا    
mahdica2001@yahoo.com
نواصل ما بدأناه في المقال السابق بذات العنوان، بالتعليق أولاً على بعض الرسائل البريدية الكثيرة التي وردتني إضافةً أو إتفاقاً أو إعتراضاً على ما جاء في المقال، والتي تركز جُلُها على جُزئية واحدة إلا وهي موضوع قومية أو لا قومية القوات المُسلحة وموقفها في حالة حدوث ثورة شعبية، وكان مُعظم المُعلقين من الضُباط المُتقاعدين الذين أمنوا على كلامي بنبرة لا تخلو من التحسُر الممزوج بالألم والغضب من تحويل القوات المُساحة السودانية ذات التاريخ العريق إلى مجرد مليشيا حزبية تابعة لتنظيم الإخوان المُسلمين (وإن تعددت المُسميات) يتحكم فيها مدنيون يصدرون قرارات النقل والرفت من وراء حجاب، ولذلك فإن أولئك الضُباط وضُباط الصف يعتقدون بأن الرئيس المُشير، خان المؤسسة التي ينتمي إليها وغرر بها وكذب حتى على بعض زُملائه في مجلس قيادة الثورة المُنحل. وأشار كثير من هؤلاء المُتداخلين إلى قرار إعدام (أو بالأصح) قتل ضُباط حركة رمضان التصحيحية دون مُحاكمة من أي نوع، وتساءلوا بأسى عن من أصدر ذلك القرار الذي طعن الزمالة وشرف العسكرية في مقتل؟؟!!.
بما أن الغرض من هذه المقالات يتمثل في محاولة إستقراء تجربتي الإنتفاضتين التونسية والمصرية (حسبما يشي العنوان)، فينبغي أن يكون أول هم للثورة القادمة لا ريب فيها، هو إصلاح القوات المسُلحة وإعادة كافة منسوبيها من الضُباط وضُباط الصف والجنود، الذين فُصلوا من الخدمة بدون وجه حق، إلى العمل فوراً والإلتحاق بوحداتهم العسكرية (وبرتب زملائهم الذين استمروا في الخدمة) وذلك لحين النظر في أمرهم وإحالة من بلغ منهم سن التقاعد بطريقة لائقة تحفظ كرامتهم الأدبية وتصون حقوقهم المادية، ولعل عمليات الإحالة للتقاعد والفصل من الخدمة التي حدثت ُعقب زيارة البشير مؤخراً للوحدات العسكرية، أسطع دليل على تذمر هذه المؤسسة وإستمرار توجس المؤتمر الوطني خوفاً منها.  
كذلك قال بعض القُراء الكرام "إن الأحرى بنا الإستفادة من دروس ثورتي أكتوبر 1964 و أبريل 1985 وإنتفاضات الهامش في دارفور والشرق قبل أن نلتمس الحكمة من وراء الحدود"، وبلا شك فإنهم مُحقون فيما ذهبوا إليه، ولكننا نزعم بأننا أشرنا لذلك عندما قُلنا إن إجهاض وسرقة ثورتي أكتوبر وأبريل يُعد من الأسباب الجذرية لتأخُر إندلاع إنتفاضة السودان (رغم توافر كُل الظروف الموضوعية)، وأضفنا بما معناه أن ثورات الهامش تؤكد أن التغيير الحقيقي يجب أن يتم في الخرطوم (مركز السُلطة والقرار)، وأبرزنا أهمية أن يكتوى الذين يشعلون ويُديرون الحروب والفتن بنيرانها وقُلنا (من يوقد النار عليه أن يتدفأ أو يحترق بها أولاً) ولا ينبغي أن تقتصر التضحية والقتل على المدنيين الأبرياء في وهاد ونجوع الشرق والغرب والوسط وأقصى الشمال.
وفي ذات السياق قال قارئ ثالث "أن حكومات الأنظمة العربية ليست أكثر من عصابات من الحرامية واللصوص والأهل والأقارب والمُنتفعين، إذ تأكد أن أجهزة أمنها وجماهير أحزابها ليست سوى أعجاز نخلٍ خاوية، وإذا غاب (أو غُيب) رئيس العصابة إنفض السامر". وأضاف هؤلاء قائلين "بإجراء دراسة جدوى بسيطة، نجد أنه لا داعي لسقوط مئات المدنيين العُزل المساكين والتضحية بأرتال من الشُهداء، والتكلفة البشرية الكبيرة (كما يحدث في ليبيا الآن) وإنما على الشعوب إبتداع وسائل نضالية أكثر نجاعة وأقل تكُلفة، كما أفصح وأفتى الداعية الإسلامي/ د. يوسف القرضاوي!!!!. وعموماً، أنا لست لبيباً مثل زين الهاربين بن علي، لذا لم أفهم ماذا يقصد هؤلاء القُراء، ولو فهمتم ماذا يقصدون، أرجو إفادتي !!!
إن من أبرز دروس الثورتين التونسية والمصرية، وضوح المطالب وبالتالي الشعارات المُعبرة عنها؛ ولعل شعار "يسقط يسقط حُسني مبارك" يوضح الهدف النهائي للثورة في أربعة كلمات لا غير، وكما تعلمون فقد سقط حُسني مُبارك ولكن لم يسقط نظامه حتى الآن!! رغم أن الجماهير كانت تصرخ أيضاً "الشعب يُريد إسقاط النظام"،  وإذا ما قارنا هذه الشعارات بشعاراتنا التي على شاكلة "عاش كفاح الشعب السوداني" – "تسقط تسقط أمريكا- Down Down U.S.A. – داون داون يو. أس. أي." (التي كُنا نُرددها ونحن إيفاع - داون داون يونس وين!!!)، نُدرك البون الشاسع بين رومانسية وضبابية شعاراتنا وبين براجماتيتهم ووضوحهم، وبمناسبة الشعارات لا أعتقد أن الثورة الليبية موفقة في ترداد الشعار المصري "الشعب يُريد إسقاط النظام"، إذ قد إتضح أنه لا يوجد نظام في ليبيا وإنما مجنون طاغية وإبن على شاكلته، فانطبق عليهم المثل القائل" هذا الجرو من ذاك الكلب".
-    بعد إنكشاف المستور وتبيان مدى الفساد الأسطوري الذي انحدرت إليه الأنظمة العربية الحاكمة والثروات الهائلة التي راكمتها حاشيتها وسدنتها، تبرز مسألة تعويض أُسر الشُهداء تعويضاً مُجزياً ولذا ينبغي أن تعوض أُسر هؤلاء الشُهداء بالأخذ من أموال قتلتهم وسارقي قوت الشعب، وأرجو أن لا يُساء فهم هذا الأمر وتصويره وكأنه  ثمناً للوطنية والتضحية، كلا وألف كلا فروح الشهيد لا مُكافئ ولا مُقابل لها، ولكن لنكن عمليين فجُل الشُهداء على شاكلة البوعزيزي، يرحلون ويتركون أمهات مكلومات وأرامل حزينات وأبناء زُغب الرياش،  فلماذا لا يُخصص مليون دولار لكُل شهيد، وبعملية حسابية بسيطة نجد أن تعويضات أُسر الثلاثمائة شهيد مصري لا تُكلف سوى 300 مليون دولار (تُعادل 5% فقط من ثروة أحمد عز المُقدرة بستة مليار دولار) أو (0.5% من الستين مليار التي نهبها حُسنى مُبارك وعائلته)، فهل يُستكثر عليهم ذلك، وعلى كُل حال فالدية والتعويض حقوق أصيلة في التشريعات الدينية والمدنية.
-    إتضح بلا أدنى جدال مدى الدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه الإعلام في إنجاح وتأجيج الثورات وأوضح مثال لذلك قناة الجزيرة الاخبارية، ولكن علينا أن نضع في الحُسبان أن قناة الجزيرة لن تكون مُتحمسة لثورة شعبية في السودان، نتيجة الفهم المغلوط والإنطباع السائد في أوساط النخب العربية والإسلامية عن النظام السوداني الحالي، وهُنا يمكن للجاليات السودانية في الخارج أن تلعب دوراً كبيراً في هذا الصدد وتكون بمثابة الصوت الإعلامي للثورة.
-    أثبتت تجربتي مصر وتونس ضرورة وجود مجلس تنسيق لقيادة الإنتفاضة القادمة، ويُصبح الأمر أكثر إلحاحاً في الحالة السودانية، خاصةً بعد تكاثُر المُبادرات وتعدد التنظيمات الداعية للثورة والإنتفاض، وحسب قانون الغلة المُتناقصة (Law of diminishing returns)  فإن الشئ إن فات حده إنقلب إلى ضده. وعلى مجلس التنسيق هذا؛ إعداد خارطة طريق مُتفق عليها لقيادة وتوجيه خُطى العمل خلال اللحظات الحاسمة، والتي دائماً ما يتسلل خلالها الإنتهازيين للإنحراف بمسيرة الثورة. ولعله من نافلة القول التذكير بأهمية وجود مشروع أو برنامج وطني بالحد الأدنى، وفي هذا الصدد يُمكن الإستفادة من إرثنا المشهود في تدبيج المواثيق والدساتير وصياغة الإتفاقيات "التي نُجيد نقضها وإفراغها من محتواها" ولكُم في الدستور الإنتقالي الحالي (المُدغمس) أسوةً حسنة.

هُنالك عدة عوامل تستدعي التريث قليلاً قبل تفجير الإنتفاضة، نوجزها في الآتي:
-    حرص المجتمع الدولي والحركة الشعبية على إستمرار النظام الحالي حتى الثامن من يوليو القادم على أقل تقدير، لضمان ولادة دولة السودان الجنوبي بلا تشويش.
-    إنقشاع الضباب حول موقف زعيم حزب الأُمة القومي "الصادق المهدي" إذ عليه الإختيار بين الإلتحاق بمقطورة الحُكم (ومن ثم مواجهة خطر ثورة شباب حزبه وإنقسامه إنقساماً حقيقياً هذه المرة)، أو الإنصياع  لإرادة قواعده والإصطفاف مع جماهيره (ولهذا الحزب ثقله وإن تناقص كثيراً جداً، بسبب مواقف قيادته المُتذبذبة والمُهادنة).
-    لقد إتضح جلياً أن الميرغني في صف المؤتمر الوطني، وعلى جماهير الإتحاديين (أبناء وأحفاد مُبارك زروق والشريف حسين الهندي وموسى المُبارك وصالح محمود إسماعيل ومحمد جُبارة العوض ومحي الدين صابر،،، إلخ) تصحيح الخطأ التاريخي للزعيم الأزهري المتمثل في قراره بالعودة لاحضان الطائفية بعد أن تحررمنها، وعلى المُستنيرين من الإتحاديين إعادة بعث الحزب الوطني الإتحادي وإنقاذ الحركة الإتحادية من براثن أولئك الذين سرقوا الإرث المادي والسياسي للأزهري وحسين الهندي، وعموماً فإن كان لإنضمام الميرغني والصادق من فائدة، فقد تكمن في إستغناء الإنقاذ عن الدقير ومسار ونهار وغيرهم من الذين أفسدوا الحياة السياسية، لأنه (إذا حضر الماء بطل التيمم).
-    لا خلاف أن قطاع الشمال يعيش حالة إنتقالية تتميز بعدم وضوح الرؤيا، وسوف تستمر هذه الحالة حتى الإعلان رسمياً عن ميلاد دولة السودان الجنوبي في التاسع من يوليو القادم، وليس من الفطنة السياسية الإستهانة بجماهير السودان الجديد المنضوية تحت لواء قطاع الشمال بالحركة الشعبية، ولن يُضير الثورة المُرتفبة شيئاً التريث حتى تلتقط هذه القوى أنفاسها بعد تسونامي الإنفصال المُر.  
-    كذلك سوف تتضح خلال الشهور القادمة مآلات المشورة الشعبية في النيل الأزرق وجبال النوبة، بالإضافة إلى معرفة مصير منطقة أبيي والتداعيات التي سوف تترتب عن ذلك، وخاصةً ما يتصل بموقف قبيلة المسيرية التي سبق وأن قام المؤتمر الوطني بتسليحها حتى أسنانها، وكل الدلائل تُشير إلى أنها سوف تنقلب على حكومة الإنقاذ.
-    بعد إعلان إنفصال جنوب السودان رسمياً، سوف تتصدر دارفور واجهة الأحداث، كما من المتوقع تفعيل ورقة المحكمة الجنائية الدولية، وحينها يكون نظام الإنقاذ مكشوفاً تماماً وظهره إلى الحائط، خاصةً مع فقدان عائدات البترول وتفاقم الأزمة الإقتصادية.

إن التريث لا يعني بأي حال من الأحوال الإسترخاء وترك زمام الأمر للحكومة، وإنما ينبغي الإستمرار في المعارضة والتعبئة وحشد الطاقات والتنسيق وعلاج السلبيات والدخول في إضرابات مطلبية وغيرها، عملاً بالمثل العامي (سهر الجداد ولا نومه)، وفي هذا الصدد لا بُد من السعي لإنجاز المهام العملية العاجلة التالية:
-    حث الشباب والطُلاب على السيطرة على إتحادات الطُلاب في الجامعات والمعاهد العُليا، وهذا لن يحدث إلا بتشكيل تحالفات حقيقية تكون نواة ومثالاً للتحالف العريض المُناط به قيادة الثورة.
-    بعد تعذر إنتزاع النقابات من قبضة جهاز الأمن، لا بُد من تشكيل منظمات مُجتمع مدني ونقابات ديمقراطية موازية وبديلة للتنظيمات النقابية الكرتونية، وهُنا لا بُد من الإشادة بالتنظيمات والنقابات البديلة للأطباء والمُهندسين والمُحامين والإعلاميين.
-    حث المُغتربين والمهاجرين واللاجئين على التخلي عن السلبية والإتكالية، وحضهم على إنتزاع منظماتهم المدنية من أيدي السفارات التي تحولت إلى أوكار لأجهزة الأمن، وإنه لعار وأي عار أن يُسلم المشردون قيادهم لمن ساموهم سوء العذاب وكانوا سبباً في إبعادهم عن الأهل والوطن.
-    كذلك لا بُد من مُناشدة طرفي نزاع الجبهة الوطنية العريضة ومطالبتهم بعقد مؤتمر إستثنائي لعلاج الخلاف بطريقة ديمقراطية تُعيد الثقة في هذا التنظيم الذي علق عليه الجميع آمالاً عريضة.
ختاماً: ليطمئن الجميع؛ فالثورة السودانية قادمة ومُنتصرة، والشعب السوداني ليس غافلاً ولا جباناً ولا كسولاً، وله إرث باذخ في الإنتفاض والثورة على الطُغاة وإسقاطهم، ولكنه السكون الذي يسبق العاصفة أو لعلها الحكمة التي إستفادها من تجربتي ثورة أكتوبر 1964 و أبريل 1985، وكأني به يرنو مُتبسماً إلى شعوب مصر وتونس وليبيا واليمن والجزائر والبحرين،،، إلخ، ويقول هذه دروب خبرناها وعرفنا مغاليقها، ولذا لن نقوم مرةً ثالثة بثورة ندعو الجيش في آخر مطافها ونستعطفه لكي يستولي علي الحُكم !!! ولعل هذا هو الدرس الأول المُستفاد من ثورتي مصر وتونس يا ذوي الألباب.     
 

 

آراء