الدكتورة ” نعمات عبد الله رجب” … بقلم: عبد الله الشقليني

 


 

 

 

abdallashiglini@hotmail.com

 

    لا يعرف المرء من أين يبدأ نعيم العُمر . قد تضرب شواطئك أمواج الحنين أنك برفقة تُغسل عنك أفاعيل غِربان الكآبة فيأتيك صُبح  النورس تملأ طيوره سماءك والبحر الصادِح أزرق والدُنيا مركِب هادئ المسير. منذ البداية الأولى يعرف المرء أن السعيد هو سعيد الرفقة ، والثمر الحُلو النضير ، الذي اعتنينا بأشجاره من قبل .

 

 قال صاحب القول الفصل والذكرى  العطِرة الطيبة : " المرء مع من أحب " .

 

    هذا هو العُمر  وتلك مفاتيح بساتينه في اليد وبوابته أوسع من فضاء الأحلام . إنها رفيقتنا في العُمر : " الدكتورة نعمات عبد الله رجب "  ،جمَّلت ذلك العُمر  ولم تزلْ. أعطتنا برفقة الحياة على امتدادها زهرتين  هما الآن في مُقتبل العُمر  وبيت هُلامي على وعد أن يكون ملمسه حقيقة في الوطن . هي فيه الأب والأم والمُعلمة وسيدة البيت والمجتمع ، تصل الصغير والكبير وتبرّ الأهل و الأقربين وأصدقاء العُمر  بالشراكة في السراء والضراء بقدر ما يسمح زمانها المجدول بالخبايا  . وأنا لم أزل في غيبة المهاجر نبتاً كشجر الصبار في تلال المنافي . قليل من الماء يُحييه ، والكثير منه  يَقْتُل .

 

   تجولتْ الدكتورة " نعمات  عبد الله رجب "  في دروب العمل العام : ضابطة في مصلحة العمل ، باحثة اجتماعية في كلية الطب  بجامعة الخرطوم ، مسجل كلية التمريض العالي  ، والتحقت بهيئة التدريس  بجامعة النيلين آخر المطاف . خبرات امتدت عُمراً . في التحصيل الأكاديمي أنجزت بكالوريوس العلوم في علم الاجتماع و الأنثربولوجيا  من كلية الاقتصاد والعلوم الاجتماعية بجامعة الخرطوم ، كورس تمهيدي في إدارة العمل بمركز إدارة العمل  الذي يتبع لمنظمة العمل الدولية " بنيروبي -كينيا ". كورس في التحرير الطبي في جامعة "بريستول " بالمملكة المتحدة . دبلوم  الفلكلور من معهد الدراسات الأفريقية والأسيوية بجامعة الخرطوم . ماجستير العلوم الاجتماعية  من جامعة الخرطوم . دكتوراه الفلسفة في العلوم الاجتماعية  بجامعة النيلين ، وسلسلة من المباحث الاجتماعية والمشاركة في المؤتمرات و ورش العمل  داخل وخارج الوطن  مع الإسهام في بث نور الإعلام بما يسعها من زمان  . هي عضو بجمعية تنظيم الأسرة السودانية بالخرطوم . عضو بالشبكة الأفريقية للعلوم الاجتماعية والطبية ( SOMA  ) ومقرها  "نيروبي " . عضو جمعية العلوم الاجتماعية لشرق و وسط إفريقيا     ( OSRIA  )  ومقرها     " أديس أبابا "

 

   نعرف المهاجر وأعباءها . ترحل طيور العُمر في الصيف وفي الشتاء . وتختبئ في كهوف الأمان إن كان للكهوف البعيدة من  أمان . حياة مُقسمة بين الوطن الأم و وطن ثانٍ وطريق السفر المفتوح على الترحاب ساعة القدوم .فتخضَر قاعات الاستقبال في المطارات  ويُزهر المكان والزمان  من وهج الحضور وأفراحه . سلة صغيرة من ثمر السودان الأسمر وروائحه المميزة تأتيك مع القادمين . والرحيل بِجماره نطأها عند الوداع ،حتى صرنا وصار الفِراق مُجنزرة تطحن الأجساد والأرواح .

 

    في إحدى أيامها الناضرات عندما كانت تزورنا ذات صيف  ، جلست وقدمت محاضرة لطالبات الصيف في مدينة العين الإماراتية  عن تاريخ البحر والرزق عند الإماراتيين في الزمن الغابر بدعوة من مركز زايد للتُرات . فكان كتابها ناصعاً . أحببنها الذين جلسوا بين يديها . انتزعت من مغازل ذاكرتهُنَّ كل حنين الأجداد لمهنة البحر : صيده ولؤلئه. أفراحه وخيباته .وفتحت بوابة للتعليم المُشترك الذي يُسهم فيه الطلاب بثراء المادة ورفد شرايينها بدماء وتذكارات الزمن الغابر وأثاث صار كله في مُتحف التُراث ، وفي خميرة الوجدان  : كيف كانت لقمة العيش على الكفاف حلوة المذاق وعزيزة على النفس .

 

   اختارت للدراسات الميدانية لرسالة الدكتوراه  ثلاث بيئات متنوعة الأصول الثقافية و العرقية والاقتصادية : بيئة أم درمان المدينة القديمة ، تلك التي تتوسط الطبقات ، وتؤول الطبقة الوسطى فيها  الآن للحصار الخانق . واختارت بيئة الميسورين كأنموذج  آخر ، واختارت ثالثاً سكناً نبتَ عشوائياً وثبتته الدولة سكناً للفقراء والنازحين. وبدأ النول يعمل في نسج كل تلك الأحزمة السكانية التي تلونت طبقياً و اجتماعياً وأثّرت الحياة الثقافية بثقلها في تلوين هذي وتلك . تناول مبحثها في علم الاجتماع الطبي ذلك التنوع الهائل في طرق الحياة ، وجلست لمعملها وخرجت منه بالنفائس ، وعرفنا أن الجميع يشتركون في وطن ثقافي واحد ، يختلفون في بعضه ويتفقون في البعض الآخر  . وكيف تجاورت تلك المجتمعات وتعاملت مع صعاب الحياة وبدأت تؤثر وتتأثر ، وتمتد جسور الوصال بخيط دقيق  ، يشتد حينا ويلين أحياناً أخرى  ولا ينقطِع .

سوف يتخمَّر هذا اللقاء الهجين بين الثقافات والأعراق من بعد زمان للطهي والانسجام في مُقبِل الأيام. مدت سيدتنا  يداً جسورة تنظر وتدرس  وتُقارن وتتناول و تحلل ذاك البنيان العميق الذي يشترك فيه الجميع  بثقافات  مجتمعات متنوعة . حول الأمراض ، كيف تأتي وكيف يتم  مكافحتها وفق الميسور من المعرفة والمُتداول من ثقافة التراث والمجتمع والمعرفة بالطب والتطبيب في دروب الحياة الوعرة والمصادر المأمونة وغيرها.  جمعت الدكتورة  " نعمات " مادة خام للكثير من الدراسات التي تصلح لاحقاً لمباحث موغلة في بطون الحياة الثقافية للمتوطِّنين  منذ زمان وللمهاجرين الذين  وفدوا العاصمة ،مستهم  الضراء والبأساء من نيران الحروب والجفاف والهجرات القسرية داخل الوطن ، وهجرات الأهل والأحباب عنهم إلى خارجه .

 

   أجيال تخرجت على يد الدكتورة  ، وقدمت مع رفاقها  ورفيقاتها في أعضاء هيئة التدريس  بجامعة النيلين الخير المبثوث . شموعٌ تذوب وضوء العلم يُرسل أنواره في سماوات العقول  ، وهذا هو الأهم .

 

    بدأت الدكتورة " نعمات عبد الله رجب "  طريق المباحث الأكاديمية من مسح ميداني بدأته أول مشوارها مع " أغاني البنات " تلك التي نبتت من تراث المجتمع وثقافته قبل أن تغزوها المِهن والاحتراف . كانت الأغاني على طبيعتها وعفويتها نتاج ثقافة مُركبة الأصول . تحكي حياة المجتمع بين الطموح والأحلام الصغيرة والكبيرة ، وصراع الطبقات والثقافات ، تُترجمها بيوت الأفراح والمناسبات المتنوعة . من ضوئها الخافت يتعرف المرء على  خلفية غنية من آداب الشعوب وفنونه ، أفراحه وأتراحه ، أحلامه التي تراود الجميع ، طبقاته وثقافاتها والصراع  والاختلاف و مواطنه.

 

   تُرى أي إرث ذاك الذي ربطها بالتراث العلمي للمجتمعات ، وخصت المرأة بكم هائل من الاهتمام ؟ . إن  لتعقيد حياة الأنثى في مجتمعاتنا والظلم الكبير الذي  لحق ولم يزل يلحق بها في كل منعطف من منعطفات الحياة هو حافز للنظر بعمق في ذلك الجرح المفتوح على تراث مجتمعنا وآلامه التي لم تلق ما يستحق من الهمة للعمل الجاد لتغييره.

 

     إن ذهبتَ بهدوء لتاريخ الأسرة تكتشف ظلال والدها الراحل الذي خضَّر مزرعة  الصحافة السودانية ، العصامي الأستاذ / عبد الله رجب . فتعرف مورد ذلك الكم الهائل من الصبر على المسير في أرض المباحث بحجارتها السميكة على القَدَم  الحافية في سيرها ، أو دروبها الوعرة إن رغِبت أن تُنجز أعمالاً مُميزة .

 

   التهنئة القلبية لكل سيدة تخطت حواجز المُجتمع السميكة وأعرافه الثقيلة والغليظة على القلوب الرحيمة  وقبضت بيد واثقة على ألجمة الأفراس في انطلاقها : إن التقدم من نصيب المرأة التي يكون حافزها  " صناعة الخير " . وفي خاتمة المطاف يعود الخير عند اكتمال دورته إلى المنبع الذي انطلق منه .

 

ألف تحية لها وألف سلام على مثيلاتها في الزمان .

 

عبد الله الشقليني

 09/06/09

 

آراء