الدكتور إدريس البنّا: مثقف مكين وابن بلد أصيل وحصيف افتقدناه

 


 

 

 

Khaldoon90@hotmail.com

انتقل الى رحاب الله الطاهرة خلال الايام القليلة الماضية ، الدكتور إدريس عبد الله البنا ١٩٢٣ - ٢٠٢١م ، بعد عمر مديد ومبارك عامر بجلائل الاعمال وباهر الانجازات ، ناهز القرن طولاً بفضل الله. لقد كان رحمه الله ، رجلاً أمة بكل ما تحمل هذه الصفة من معاني. فقد كان ابن بجدتها وجذيلها المحكّك في مجالات التربية والتعليم والثقافة والسياسة والادب والشعر والترجمة جميعها.
ولقد أحسن الكاتب الصحفي جمال عنقرة عندما أفاض في بيان هذه المعاني في مقال تأبيني ضافٍ نشره بعد وفاته بقليل فقال:
" غادر دنيانا الفانية إلى دار البقاء ، الشاعر المجيد والأديب الأريب والسياسي الحصيف والمُحنّك ، والأستاذ العلاّمة إدريس عبد الله البنا ... الرجل الإعلامي العلم ، بعد حياة حافلة ، صال فيها وجال في ميادين التعليم والإعلام والسياسة ( معارضاً شرساً وحاكماً وقورا ) ، والصحافة والثقافة والأدب والشعر نثراً وغناءً وروايةً ومسرحا " أ. ه
كان الفقيد الكبير الدكتور إدريس البنا ، عميد الجيل الثالث من أسرة علم وأدب وشعر وفن وغناء وفروسية وصيد وطَرَد ، ألا وهي أسرة البنّا الكبير الشيخ محمد عمر البنّا شاعر المهدية الاول ، ورائد النهضة الشعرية الحديثة في السودان دون منازع ، وذلك من خلال قصيدة الإحياء الكلاسيكية المنسوجة على منوال الشعر العربي الفصيح في أبهى نماذجه كما في العصرين الأموي والعباسي ، وقد تمثل ذلك في قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
الحربُ صبرٌ واللقاءُ ثباتُ
والموتُ في شأنِ الإله حياةُ
أما والده فهو الشيخ الأستاذ عبد الله محمد عمر البنا شاعر البطانة المصقع وأستاذ اللغة العربية بكلية غردون التذكارية وغيرها من المدارس الثانوية مثل الاحفاد وحنتوب.
ونبغ كذلك عمه شاعر الحقيبة ومغنيها المجيد ، الاستاذ عمر محمد عمر البنا. ومن روائعه اغنية:
أشوف نعيم دنيتي وسعودا
إمتى أرجعْ لامدُر واعودا
التي أجاد في أدائها الفنان الكبير عبد العزيز محمد داؤود وكذلك أغنية:
آه الأهيف
أبى ما يلين
من بعدو
صار قلبي رهين بى نار الفُرقة
التي بعثها فنان الشباب الراحل محمود عبد العزيز من مرقدها بعد سبات طويل في اوائل تسعينيات القرن الماضي.
وبمناسبة الحديث عن الجانب الفني والغنائي لهذه الاسرة المبدعة ، فقد تعرضت أسرة البنا لما يشبه الأسطرة من قبل المجتمع السوداني ، من فرط ارتباطها بفن الغناء بالتحديد ، وظهور عدد معتبر من المطربين المميزين فيها. ومن ذلك ما جاء في الرواية الأسطورية الطريفة التي تقول إن الجد الأعلى لآل البناء قد وافى ليلة القدر في رمضان ، فأراد أن يدعو الله أن يحقق له أمنية غالية ، فبدل أن يقول: " يا ربي تديني الغِنى بكسر الغين ، لى جنى الجنى " زعموا أنه قال: " يا ربي تديني الغُنا بضم الغين ، لى جنى الجنى " ، قالوا: فاستجيب دعاؤه !!.
درس الاستاذ ادريس البنا بكلية غردون التذكارية ، وعمل مدرسا للفنون بالمدارس الثانوية ، كمدرسة خورطقت الثانوية التي اشتغل فيها مدرسا لمادة الفنون في خمسينيات القرن الماضي.
وفي اوائل الستينيات من ذلك القرن أيضاً ، عمل الاستاذ إدريس مديراً لمكتب وزارة الاستعلامات والعمل بمديرية كردفان بعاصمتها مدينة الأبيض ، أي المكتب الإقليمي لشؤون الثقافة والإعلام بتلك المديرية إبان عهد الرئيس الفريق إبراهيم عبّود ١٩٥٨ - ١٩٦٤م. وقد كانت له حينئذٍ إسهامات مشهودة في مجال رعاية الثقافة وتنميتها وتطويرها وحسن توجيهها في ذلك الإقليم ، وقد تجلّى ذلك بصفة خاصة في حسن إدراكه للخصائص والمقومات الثقافية المميزة لسكان كردفان بمجموعاتها السكانية المختلفة ، ومن ثم فقد حرص على توثيقها وإبرازها واتاحة الفرصة لها للظهور على المستوى الوطني ، بل يؤثر عنه أنه قد شجّع أعضاء فرقة فنون كردفان ، وحضهم على ترك تقليد وترديد أغنيات مدرسة ام درمان الغنائية ، والتمسك بأنماطهم الغنائية والموسيقية والأدائية المحلية ، بإيقاعاتها المميزة مثل المردوم والجرّاري والتوية والطنبور وغيرها ، وخصوصاً بعض أنغام موسيقاهم التي تشبه التيار العام لمقامات الموسيقى العربية ، بالمقارنة مع موسيقى سائر أنحاء السودان ، وخصوصا موسيقى أواسط البلاد.
ولعمري فلقد وجدت تلك النصائح السديدة ، وبعيدة النظر للدكتور إدريس البنا ، آذانا صاغية من قبل ناشئة مطربي كردفان آنئذ ، فأثمرت تلك النصائح الغالية فيما بعد ، بروز ما سميت بمجموعة الفنانين الكردفانيين بلونيتهم المتفردة في مطلع سبعينيات القرن العشرين ، وهم المطربون: ابراهيم موسى أبّا ، وعبد القادر سالم ، وصديق عباس ، وعبد الرحمن عبد الله ، وعبد الله الكردفاني ، ومن قبلهم ثنائي النغم وام بلينة السنوسي.
ولما كان الشىء بالشىء يُذكر ، فإنّ للدكتور ادريس البنا وشائج اجتماعية قوية تربطه ببعض عشائر كردفان ، مثل آل نصر الدين بالرهد اب دكنة ، وآل العبيد اب لول بالدّيم وأم دم حاج أحمد وغيرها. وكنت قد ألفيته قبل بضعة أعوام وقد أربى على التسعين من عمره المبارك ، بمنزل أخينا المهندس عبد الرؤوف بابكر سعد بحي أركويت بالخرطوم ، وقد جاء لتقديم واجب العزاء في وفاة إحدى كريمات نصر الدين المذكور ، وزوجة أستاذنا وأخينا الأكبر وابن منطقتنا الاستاذ عبد الحبيب محمد عبد الحبيب ، الذي هو بدوره سبط الشيخ العبيد اب لول المذكور ، ونجل احدى كريماته.
هذا ، ولنا مع آل جدنا العبيد اب لول مساكنة وجيرة وعُشرة وتداخل اجتماعي أيضا. ذلك بأن عمنا المرحوم المقدم شرطة فضل الله العبيد على سبيل المثال ، هو ابن خالة عمي إبراهيم فرح وإخوته رحمهم الله أجمعين ، وأطال بقاء عمتي عائشة بت فرح ، أمهاتهما من نواحي قريتي الضُباب وأم نقّارة القريبتين من زريبة البرعي ، وأخبرني الوالد عليه رحمة الله أن والدة الشيخ عبد الرحيم البرعي نفسها تمت اليهما بصلة قرابة ما.
أما عصامية الدكتور إدريس البنا ، وحبه للعلم والتعلم ، ودأبه ومثابرته على الدرس والتحصيل والاستزادة منهما ، فحدث عنها ولا حرج. والدليل على ذلك أنه قد حضّر لشهادة الدكتوراه في علم الآثار وحصل عليها من جامعة الخرطوم تحت إشراف البروفيسور علي عثمان محمد صالح في بدايات الألفية الثالثة ، أي عندما كان إما في أواخر العقد الثامن ، أو بداية العقد التاسع من عمره ، وقد أعطى بذلك درساً عملياً لكل ذوي الرغبة والطموح والهمة العالية ، لكي يسيروا في طريق المعرفة ، ويبحروا في بحر العلم الذي لا ساحل له.
ونود أن ننوه في الختام بملكة فذّة تميز بها الدكتور إدريس البنا رحمه الله ، ألا وهي ملكة الترجمة الأدبية الرفيعة ، والتي تنم عن معرفة عميقة وحذق استثنائي لكلا اللغتين العربية والانجليزية ، وفوق كل ذلك تمتعه بحس شعري مرهف. ولا غرو في ذلك ، فإنّه هو نفسه شاعر مجيد بالفصحى والعامية ، ورث الشعر والفصاحة والبيان كابراً عن كابر كما ذكرنا آنفا.
وقد ترجم قصيدة الشيخ عبد الرحيم البرعي ١٩٢٣ - ٢٠٠٥م الرمزية الشهيرة ، المنظومة باللهجة السودانية العامية ، والتي مطلعها:
إبلي مشرّفات وسمهن فاخر
ينفعني درّهن في اليوم الآخر
ترجمة رائعة الى اللغة الانجليزية ، أثارت إعجاب كل من اطلع عليها من المثقفين ثنائيي اللغة بالسودان.
ومن ذلك ترجمته لهذا المقطع من تلك القصيدة الرمزية التي تمجد سور القرءان الكريم وتنوّه بمن يتلوهن ويحفظهن:
إبلنا يا معشرْ
ميّة وأربعطاشرْ
تجي حافلة في المحشرْ
لى رُعاتا تستبشرْ
هكذا:
Our camels, dear folks have been
One hundred and fourteen
Do seek on the Resurrection
Their shepherds very good Omen .. etc
ألا رحم الله الرجل القامة الدكتور إدريس البنا وغفر له وجعل الجنة مثواه مع الابرار .. ولله درّ الشاعر إذ يقول:
وما كانَ قيسٌ هُلكُهُ هُلكُ واحدٍ
ولكنّهُ بُنيانُ قومٍ تهدّما

 

آراء