الدكتور التجاني الماحي ( 1911 م ـ 1970 م ) … بقلم: عبد الله الشقليني

 


 

 


abdallashiglini@hotmail.com

سيدي...
من يفتح صفحة من التاريخ الناصع يجدك جالساً على مقعدك أمام البيانو الكلاسيكي . يُطِربُ السامِع نغمٌ تعزفه أنت يضيء قنديل المشاعر ، فأصابعك الساحرة تُداعب مفاتيح البيانو.الموسيقى من لدُنكَ توقد مُصابيح الذاكرة فتنهض من سُباتها لتقول إن تُراث الإنسانية مِلكنا جميعاً دون شك . كانت الموسيقى مطيّتك لتُجلس النفوس المُعذبة مجلسك العالي لتغتسل . لم يقف أبناء جيلكَ إلا بضع سنوات ضوئية من خلفك  فأنت حاضرٌ  ببريقكَ الخاطف في لُجة العصر  . 
     للمُلك هيبة. والملوك إذا دخلوا أرضا جعلوا أعزة أهلها أذلة .  لكنك غيرهم جميعاً. تجمّل المنصب بمقدمك عضواً في مجلس السيادة في الستينات من القرن الماضي. كنتُم خمسة : اثنين من حزب الاتحاديين وأنت منهم ، واثنين من حزب الأمة و واحد يمثل الجنوب . يدور الكأس  على الشاربين ، كل واحد منهم رئيساً إلى حين .
رأيت صورة ضوئية لك وأنت تُجالس حاملة التاج البريطاني الملكة اليزابث الثانية . كانت في مُقتبل العُمر الملوكي آنذاك .على مقعديكُما اختمرت البهجة في إستاد ( الأُبيِّض ) !. كانت سيدة بريطانيا المُبجلة في دهشة من هذا الفخم الجالس بجوارها . رقته وظُرفه وغزارة دفق اللغة من تِبر النثير الشكسبيري وبلاغة أُنسه . صورة تكفينا أن  نتحسر أننا من دون أمم الأرض كانت لنا أيام  أفضل من حاضرنا بمراحل. نعلم أننا من أكثر الأمم التي يتعين على أبنائها دراسة التاريخ والإمساك بقرونه المغروزة في الزمان الآفل بمحبةٍ  وصبر ، لنجلي من مسامعنا الوَقر  ونعيد نفائسنا لوهج الذاكرة  .
     نسأل أنفسنا بحُرقةٍ : لم صرنا الآن نتوارى خجلاً من نسبة أنفسنا للبلاد التي لم يُحسن قادتنا  إدارة شأنها العام بإبداع من بعد غزارة هذا التنوع الثري للوطن وأهله وتلك الغرابة المُدهشة في الكم الزاخر باللغات والأعراق والثقافات مع التفاوت في درجات النمو والتحضر ؟.أهلنا متناثرون على الفيافي والصحاري . يعيش بعضهم عصر ما قبل التاريخ إلا من وميض جاء دون ترتيب .
   نعود للكأس  التي دارت على أصحابها حين وصلت يد "سيدنا" الذي نتحدث عنه و الأباريق  مُطرقةٌ تنتظر .دارت الأنخاب ومشى " صاحبنا " الدرب الطويل دون مداه المأمول . دارت خمر السلطة  وتفرقت على الأحباب وهو عنها زاهد ، لا طعمها يُسكره ولا لونها يسحره . فهو المُستمسك بثروة علمه وثراء معارفه التي تذوقت من كل مائدة ليس الطعم فحسب ، بل كيف يصنعُ الطهاة بُهار السبك ، فأسرار المعارف وكنوزها الدفينة في قلب العلوم هي شغل " سيدنا " الشاغل . أخذ منها ما أجلسها مجلس الحَيرة من عجب. جَوَّد اللغات الحيّة والمندثرة والمُعلقة على نقوش الطير في أحرُف الأولين . كان أول إفريقي يُنجز دراسات عُليا في علم النفس ، وفي أواخر الخمسينات مستشارا إقليميا في منظمة الصحة العالمية لصحة النفس البشرية . معرفته الموسوعية تقلبت في علم النفس والثقافات الأفريقية والعربية واللغات والآثار وعلم الاجتماع والطب وتاريخ الحضارات والأمم  وعلوم النبات وما خفي أعظم .
   في الصندوق الذي كان يحمله فوق كتفيه دُورٌ وأزقة معرفة و حَواري عميقة الغور وقصور تسكُن الروابي وتتأبى على السفوح . لن تدخلها أنت  إلا بمعيّة دليل حاذق . تكفي مكتبته التي أهداها جامعة الخرطوم أنها تحمل في بطنها أكثر من تسعمائة مخطوط  ، دعكَ من أسفارها التي اعتمرت عشرات بل  مئات من رسائل الماجستير والدكتوراه .  تجد خط يده بالتعليق على هوامش الأسفار بقلم الرصاص كأن الرجل جالس قُبالتك !  .
قال الخليفة العباسي " هارون الرشيد بن المهدي " في زهو الخلافة  : " نحن الملوك إذا غضبنا ... " . نعم للملوك شأن حين يفرحون وشأن آخر  ترتجف له الأوصال حين يغضبون . لهم عادات اكتسبوها من كرسي المُلك الذي يجلسون عليه . تحدث  الذكر الحكيم بأقدر الأوصاف دقة  واصفاً ذلك  الكُرسي الذي تُصيب الجالسين عليه لوثة السلطان إلا من رحم ربي  :
  {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }آل عمران26
   توهج الصولجان و رقصت مومس النِّعمة تُدغدغ الحواس و" سيدنا " بعيدٌ عن اللذة ، فعِلمُه أحْصَنه ، ومعرفته غسلت نفسه والضمير من الغشاوة و حجبت أثر نعماء السُلطة وبهرجها  عنه فخرج  ناصعاً ، لا يرفعه منصبٌ ولا يذله أن يكون مثل أحد الناس يتبسط في كل شيء  ويغرف من العافية ويهب الآخرين.
نعلم أن للمُلك هيبة وصولجان ، ولرئاسة الدولة التي اعتلا سدّتها ذات زمان دون المُلك مرتبة ، فالإطلاق في الأول غير التقييد في الثانية . دارت الأنخاب ودار الزمان . جلست الأحزاب تتنازع حتى انتفض " صاحبنا " ومن مقام  مجلسه  العالي قدم استقالته من حزبه فكان كتابه تُحفة بيان . هبط الدَرَج مرفوع الرأس و ذهب لمقعده في الجامعة .
   حريٌ بنا اليوم  أن نبحث عن نص تلك الاستقالة المكتوبة بيد صاحب العلم والمعرفة والثقافة :" الدكتور التجاني الماحي"  ونعيد قراءتها من جديد  أنموذجاً لتجربةٍ خاضها أكثر المثقفين فخامة . ومن وعثاء السَفَر تجلّد وصبر. اعتمر جُلباب العلم النافع . به اتزر . و اتخذ المعرفة صديقاً والكتاب خير جليس  .
   أين يا تُرى أمثاله من ورثة الأنبياء  ؟
   كتب في ذلك الزمان  الكاتب " عبد الله علي إبراهيم " مرثية عند رحيل " سيدنا " المهيب في يناير 1970م  فزادت آداب المراثي زهواً وتجمُلا . ونحن في محبة الوطن نأمل أن تَجُرّنا خيول التاريخ لتلك القصور التي ران عليها تراب السنين لنكشفها وتنفتح سيرة كعبة ثقافية  اسمها ( التجاني الماحي ) ، يتعين علينا جميعاً أن نطَّوف حولها بما يتيسر ، علنا نظفر بسحرٍ عَصيّ  من وهج روحه المُتلألئة في فردوسها بإذن مولاه ، أو نقتفي آثاره البادية للعيان حين تسألنا : ماذا فعلتٌم من بعد رحيله ؟ .
عبد الله الشقليني
09/02 / 09

 

آراء