الدكتور حيدر إبراهيم علي: ستون عاماً على استقلال السُّودان

 


 

 


إنسانٌ نادرٌ على طريقته!
الدكتور حيدر إبراهيم علي إنسانٌ نادرٌ على طريقته؛ حسب رؤية البروفيسور مهدي أمين التوم، الذي نعته بأنه رجل قامة، وصاحب فكر، "بكل تناقضاته، وطموحاته، وكبريائه، وإقدامه، وقلقه، بل بكل صراحته الصادمة، وعنفوانه الذي لا يشيخ، وعبقريته التي لا تخطئها عين فاحصة، أو عقل متوازن، سليم الطويَّة." لذلك عندما شعر حيدر أنَّ مبادئه الفكرية وقيمه السياسية لا تتوافق مع طروحات حكومة الانقاذ الوطني عارضها بالقلم، وبالكلمة المكتوبة أداةً لتوعيَّة الرأي العام، وعندما أدرك أنَّ ضيق صدر السلطة الحاكمة لا يسعه هاجر إلى قاهرة المعز، وأسس مركزاً للدراسات السُّودانية عام 1992م، تحت شعار مناهضة "سلطة البياض وعقل المشافهة"، والدعوة إلى "إعادة التفكير نقدياً في الواقع والفكر السُّوداني؛ وفتح المجال لكل جديد ومتجاوز ومختلف بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى سوى قدرة الإبداع؛ وكتابة التاريخ والفكر السُّوداني عوضاً عن المشافهة؛ وتوثيق الثقافة السُّودانية بكل تنوعاتها". في ضوء هذا الشعار الجاذب استطاع حيدر أن يحقق كسباً إبداعياً محسوساً في مشروع الحركة الثقافية السُّودانية. وبفضل عطائه المتواصل عبر الزمان والمكان (القاهرة/الخرطوم/القاهرة) استطاع مركز الدراسات السُّودانية أن يحقق جملة من الإنجازات التي كان ينشدها صاحب  الامتياز، ونذكر منها تأسيس مجلة كتابات سودانية، وإعداد حزمة من التقارير الاستراتيجية، وإصدار العديد من الكتب والترجمات، وعقد سلسلة من الندوات والسمنارات العلمية. كل هذا نتاج إيمان حيدر الراسخ بأنَّ السُّودان: "ظلّ ... لفترة طويلة غير مكتوب، وموثق بصورة تسمح بتكوين وعي تاريخي قادر من خلال تراكم الخبرات على ألا يكرر الأخطاء، وأن يدرك المخاطر، يستشرف المستقبل جيداً. فالسُّوداني رغم ثقافته وحسِّه السياسي المتميز ما زال مرتبطاً بثقافة شفاهية، تتبخر سريعاً بعد انتهاء جلسات "الونسة". لذلك كان حجم الكتابة السُّودانية لا يماثل القدرات والإمكانات، وكادت عادة "اللاكتابة" أن تكون صفة لا يخجل منها المثقفون السُّودانيون."
وحينما أحِسَّ حيدر أن هناك مساحة متاحة للعمل الفكري في السُّودان نقل مركز الدراسات السُّودانية إلى الخرطوم في مطلع الألفية الثالثة. انتقده بعض أصدقائه الذين اعتبروا قرار الانتقال من القاهرة إلى الخرطوم قفزة في الظلام، ليست مدروسة العواقب بعناية في ظل نظام يرفض الحوار مع الآخر، وبعضهم الآخر ظن أنَّ حيدراً قد عقد صفقة سياسية مع زبانية الانقاذ. لكن حيدر بطبعه ميالٌ للمغامرة والتجديد، ومفارقة المألوف. ولذلك عندما حط رحاله بالخرطوم شرع قلمه في الدعوة إلى سودان ديمقراطي تعددي، وعلماني بالمعنى الإيجابي الذي يحفظ للدين قدسيته بعيداً عن الصراع السياسي، كما واصل نقده للسلطة الحاكمة وسدنتها؛ لكن أهل السلطان ضاقوا به زرعاً، فاتهموا الرجل بالعمالة واستلام أموال من جهات أجنبية لإسقاط النظام. وبهذه الفِرْيَةُ أغلقوا مركز الدراسات السُّودانية في الخرطوم عام 2012م، وأجبروا مؤسسه على الرحيل إلى القاهرة، كأنهم ستجاروا بالرمضاء من النار. وفي ظل هذه الظروف القاسية باع حيدر منزله الخاص بالخرطوم، وأقفل عائداً إلى القاهرة؛ ليمارس هواية التنوير التي نذر نفسه إليها. وخلال إقامة القصيرة بالقاهرة (2012-2016م) أنجز العديد من المؤلفات، وحرر أخيراً عملين نفيسين، هما "خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السُّودانية، 1964-2014: نهوض السُّودان الباكر"؛ و"استقلال السُّودان ستون عاماً من التجربة والخطأ، 1956-2016".
    أنجز حيدر العمل الأخير قبل أسبوع من الوعكة الصحية التي ألمت به، وألزمته الفراش؛ لذلك خاطبه صديقه الأستاذ الفاضل عباس، قائلاً: "انهض يا صديقي الوفي فى زمن عزَّ فيه الأصدقاء الأوفياء! فنحن فى حاجة ماسة لقلمك العبقري، ورأيك الحكيم، وعلمك الغزير، وكرمك الفياض، وأدبك الجم، وحبك لبلدك، وتفانيك في شعبك المغلوب على أمره." وفي النسق ذاته جاءت مبادرة الدكتور محمد جلال هاشم لتكريم الدكتور حيدر، محتجاً بأنها "من باب إحقاق الحق ليس إلا"؛ لأن حيدراً "كتب بمثابرة، والتزام فكري ووطني لا يعرف التأرجح، ثم بتنوع وبعمق، هذا فضلاً عن إدارة مؤسسته بطريقة لا يقدر عليها إلا ذوو الباءة التنظيمية والشكيمة الفكرية التي لا تعرف الونى، ولايعرف الأحباط إلى قلبها سبيلاً." ويؤكد ذلك الرسالة الإلكترونية الخاصة التي بعثها حيدر إلى شخصي في 28 أكتوبر 2015م، قائلاً: "تحية عطرة ومنى طيبة بكل خير وعافية ورضا. عساك بخير؟ لقد انقطعتْ قليلاً عن التواصل. أم التربال [يعني حيدر نفسه] فقد كان غارقاً في الشغل، فاليوم مثلاً سلمتُ العدد 57 من المجلة، وكان عن الفيتوري. كتاب الاستقلال كان ومازال مرهقاً، ولكن سار بصورة مُرضيَّة، وكانت الاستجابة رائعة. وصلت 27 ورقة مميزة ومتنوعة من أكاديميين وكُتّاب رصينين وجادين. الآن لدى الناشر للتوضيبات الفنية الأولى، خطتنا أن يصدر أول يناير. رغم بعض المعاكسات التي صرتُ اعتبرها من توابل العمل. انتهت دار ورد من كتاب "الدين والمجتمع: مقدمة في علم اجتماع الدين" وسيُعرض في الشارقة. واحتمال كبير يكون معاه كتاب "الفتوى والسياسة". احتفي المصريون- للمفارقة- بكتاب السيرة الذاتية، ونظموا عدداً من الفعاليات، أمس كنت في قناة النيل الثقافية 45 دقيقة عن الكتاب. كنت متشائماً من سنة 2015؛ ولكنها مش بطالة." هكذا كان حيدر يعمل كالنحلة دون توقف، وفي استجابة جريئة لكل التحديات والصعاب، فنسأل الله أن يرد إليه صحته وعافيته، ويعيده سالماً إلى حواضن العمل الثقافي في سودان ينعم بالحريات العامة.

الجفلن خلَّهن أقرع الواقفات!
لم يكتف زبانية السلطان بإغلاق مركز الدراسات السُّودانية، ودار الكُتَّاب السُّودانيين، ومركز الخاتم عدلان، بل أضحوا يشدون الوثاق على أعناق الصحف الإلكترونية والمراكز الثقافية ودور النشر التي تعمل برؤية ثاقبة، ظناً منهم أن نشطاء المجتمع المدني يجب أن ينمطوا حسب رؤية النظام السياسية، دون يبحثوا عن قنوات للتواصل مع الآخر في ظل واقع ينشد الحوار الوطني وفق إقرار بالحريات العامة وحرية الفكر. في ظل هذا الواقع المتناقض أغلق جهاز الأمن دار مدارك للطباعة والنشر بالخرطوم، وفتح ملف تحري أمني ضد مؤسسها الأستاذ إلياس فتح الرحمن، الذي وصفه الشاعر محمد ا لمكي إبراهيم بأنه إنسان مبدع، بنى "مجده الأدبي والإنساني بعيداً عن الاعيب السياسة، فهو شخص منذور للثقافة السُّودانية، وخدمتها بلا منٍ ولا انقطاع .... إنَّ دار مدارك دار للوطن، تشمخ فوق السياسة وآنياتها؛ ولكنها تخدم قضية الوطن في جبهته الثقافية التي ترفد السياسة بالوعي والمعرفة، وتقليب أوجه الأمور بدلاً من استعجالها." وفي مقال ضافي في شأن مدارك ومؤسسها أوفى الأستاذ صلاح شعيب الشاعر إلياس فتح الرحمن حقه، عندما رفع الستار عن شخصيته المبدعة التي لا تحب الأضواء، بل تعمل في عناءٍ لاستقامة ميسم الحركة التنويرية في السُّودان. ثم نبذ عملية الاعتقال والقائمين عليها قائلاً: "إنَّ رجلاً مثل إلياس، عوضاً عن اعتقاله، والتحقيق معه بتلك الطريقة المهينة، كان يجب أن يأتي إليه قادة القوم؛ ليستأذنوه بأدب عن رؤيته في تطوير ضروب الثقافة، أو النشر، وإن لم يحترموا وعيه السياسي؛ فليسألوا عن نظراته حول كيفية الخروج من الأزمة." حقاً أبان صلاح النصح بمنعرج اللوى، ولكن الذين اعتقلوا إلياس يبدعوا في خلق الأزمات والبطولات الهامشية، ولايدركوا أن مخارج الأزمات التي صنعوها بأياديهم لا بأيادي غيرهم عصيت حلولها على أهل السُّودان الذين آثروا الصمت في واقع لا يدرك سدنته النصح إلا ضحى الغدِ. كنت آمل بعد كل التجارب المريرة التي عاشها أهل السُّودان أن يكون لسان حال القائمين على الأمر: "الجفلن خلَّهن، أقرع الواقفات". فإلياس من الواقفات التي كان يمكن الإفادة منها، لأنه يعتقد: "إننا سنستمر عاجزين عن الإمساك بزمام حاضرنا ومستقبلنا، إذا لم نصحح علاقتنا بالآخر، ونجعل من المنجز الإنساني قاسماً مشتركاً بيننا، فالثقافة العربية ذاتها تبلورت وازدهرت يوم أن التقت بثقافات الفرس واليونان والهنود وغيرها." كل ذلك يقودنا إلى الإقرار بأن الفشل في ذاته ليس عيباً، ولكن العيب أن لا نتعلم من أخطائنا.

الآن بالمكتبات: استقلال السُّودان ستون عاماً من التجربة والخطأ!
عطفاً على ما ذكر في مقدمة هذا المقال، صدر في مطلع هذا العام (2016م) كتاب استقلال السُّودان ستون عاماً من التجربة والخطأ 1956-2016، تحرير الدكتور حيدر إبراهيم علي، والناشر مركز الدراسات السُّودانية بالقاهرة. والكتاب يُضاف إلى قائمة اسهامات حيدر الرائدة، التي تنداح دائرتها في ظل التحديات والكُرُوب، مؤكدةً ثبات الرجل على المبدأ، وسبق إصراره على تحقيق أمر جعله غاية وجوده على أديم هذه الأرض. يقع الكتاب في 675 صفحة، وملحق للصور، ويحتوي على تقديم للمترجم له، وسبعة أبواب، وواحد وثلاثين فصلاً، مقسمة على النحو الآتي:

الباب الأول: فجر الاستقلال والممكنات
1)    فدوى عبد الرحمن علي طه: التمهيد للحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان.
2)    أحمد أبوشوك: التجربة الديمقراطية الأولى في السُّودان (1953-1958م): أساس المشكل ومكمن الخلل.
3)    عمر ياجي:  لمحات حول معضلات نهضة السُّودان           .
4)    إبراهيم الأمين: دولة ما بعد الاستعمار.
5)    النور حمد: فوقية الحداثيين واجهاض مشروع الاستقلال.
6)    يوسف تكنة: السُّودان : الصراع على السلطة بين الأفندية وشيوخ القبائل.
7)    محمّد جلال أحمد هاشم: مؤسّسة الدّولة الوطنيّة ومشروع الحداثة: تحديات الاثنيات والديمقراطية.
الباب الثاني :الاستقلال والمواقف
8)    محمد علي جادين:  الاحزاب السياسية : الصعود والتراجع.
9)    زين العابدين صالح : الاتحاديون من الليبرالية إلى حضن الطائفية.
10)    عبد الله الفكي البشير: تشخيص محمود محمد طه لقضايا السُّودان.
الباب الثالث: المحور الاقتصادي
11)    إبراهيم البدوي: السُّودان وأزمة الاقتصاد والتنمية: نحو رؤية تنموية عادلة ومستدامة.
12)    صدقي كبلو: ِلماذا فشلت الأنظمة المتعاقبة منذ الاستقلال في حل قضية التنمية؟
13)    عطا البطحاني: مسيرة الاقتصاد السُّودانى فى ستين عاماً، 1956- 2016 .
الباب الرابع: السياسة الخارجية    
14)    جمال محمد إبراهيم:  الدبلوماسية السُّودانية - سنوات التأسيس 1953- 1956.
15)    محجوب الباشا: السُّودان-  ستون عاماً من دبلوماسية الأزمة.
الباب الخامس : الإعلام والثقافة والتعليم
16)     محمود قلندر: أوهام لازمة: حول جدلية علاقة الصحافة بالسياسة في السُّودان في العهود الديموقراطية.        
17)    صديق محيسي: الصحافة السُّودانية: معارك من أجل الإستقلال.
18)     نور الدين ساتي: المشهد الثقافي، ستون عاماً من العزلة.
19)     وجدي كامل: السينما - هرم الدولة المقلوب.    
20)     حيدر ابراهيم: التعليم : الواقع والمستقبل، ستون عاماً من التجربة والخطأ.
الباب السادس :- قضايا تنموية
21)    عمرو محمد عباس: اعتلال الصحة منذ الاستقلال.
22)    علي محمد أديب: الزراعة وإدارة الموارد المائية في السُّودان.
23)    نبيل حامد بشير: المبيدات في السُّودان.
24)    فيصل محمد البشير: صناعة النسيج في السُّودان.
25)    هاشم محمد أحمد: الاستقلال والفشل الصناعي.
الباب السابع :- الواقع والمآلات
26)    الحاج ورَّاق: حين يمسخ الملح : تأملات عن آليات الاعاقة فى سودان ما بعد الاستقلال.
27)     خالد التجاني النور: ستة عقود من الحوار السياسي غير المنتج.
28)    السر سيدأحمد: بعد ستين عاماً البحث عن طريق جديد.
29)    عبد العزيز حسين الصاوي: الاستقلال الذي لم يكن: (بابكر بدري - معاويه محمد نور) و" حليل زمن الإنجليز" .
30)    وليد مادبو: دارفور: بنكرياس السياسة السُّودانية.
31)    مهدي أمين التوم: شهادة تأمل- أحلام ما قبل الرحيل الأبدي.

خاتمة
هكذا كان ولا يزال حيدر إبراهيم علي سادناً "للعلاج بالقراءة" الذي يمثل مركز الدراسات السُّودانية إحدى وصفاته؛ لأنه يُسهم في إثراء العقول بالكتابة والتوثيق والنشر، ويشكل واحةً وموئلاً للشباب المبدعين والقراء الصاعدين، الذين وصفهم حيدر بأنهم "جيل بلا آباء"، نسبة لقلة تواصلهم مع الأجيال السابقة، وضعف ثقافتهم بتاريخ السُّودان الحديث والمعاصر. لذلك سيجد كل قارئ في كتاب "استقلال السُّودان ستون عاماً من التجربة والخطأ" ضالته؛ لأنه يربط الأجيال سالفها بلاحقها، ويبرز التجربة ومواطن الخلل، ويعين على فهم الحاضر واستشراف المستقبل، ويضيف للمكتبة السُّودانية سفراً جديراً بالقراءة والاحتفاء.

ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء