الديمغرافيا والهندسة الاجتماعية: قنابل موقوتة ام أباطيل مزعومة؟
khaliddafalla@gmail.com
يقول الدكتور التيجاني عبدالقادر في احد بحوثه عن نماذج الإصلاح الاسلامي ان ارهاصات الفتنة والصراع والعنف والدماء في تاريخ الاسلام جاءت من طبقتي الاعراب والمولدين، وذلك لان الاعراب اسلموا ولم يؤمنوا وأثاروا الفتنة علي سيدنا عثمان فدانت لهم دولة بنو أمية وان المولدين لم يتم إدماجهم في المجتمع كلية خاصة في عهد بني أمية فثاروا عليهم وعلا شأنهم في الدولة العباسية.
هذا النموذج في التاريخ الاسلامي لا يصلح اسقاطه علي احوال الدولة السودانية واختلالاتها الديمغرافية لانه لا توجد طبقة للإعراب او المولدين لكن توجد أشباه ونظائر في كل المجتمع البشري .اذ يحدث الاختلال في المجتمعات غالبا عندما تنهض قوة جديدة ذات عصبية تنحو للمغامرة والتطلع للسلطة من هامش النظام الاجتماعي والسياسي.
شرفتني الدكتورة أمل البيلي وزيرة التنمية الاجتماعية بولاية بتنظيم جلسة نقاش مع كبار المسئولين والمختصين وعلماء الأكاديميا حول القضية الديمغرافية في السودان وانعكاساتها علي ولاية الخرطوم. وتعتبر جلسة النقاش تلك مبادرة ذكية من السيدة الوزيرة التي عرفت بالفعالية والمبادرة والمثابرة والتفكير خارج الصندوق ، وقد جاءت الدعوة التي نظمها مركز السكان في وزارتها استجابة لمقال نشرته في صحيفة السوداني بعنوان ( الديمغرافيا والهندسة الاجتماعية في السودان: دعوة للنقاش) .
أدهشني في اطار الإعداد للندوة البحوث والمعلومات المتوفرة عن القضية الديمغرافية في المجلس القومي للسكان ومصلحة الإحصاء لكنني وجدت معظم الاوراق العلمية عن قضايا الهجرة الداخلية والخارجية والنزوح والمشكلة الديمغرافية في السودان قامت بها مراكز دراسات وبحوث ومنظمات دولية خارج السودان. و راعني ان اكثر من ثلاثين مركز دراسات متخصص في الخرطوم يركز علي قضايا السياسة وتداعياتها وقليل من يهتم بالعوامل الاجتماعية والديمغرافية في النهضة. ومعظم البيانات المتوفرة ناتجة من المسوح الصحية والاجتماعية.
استمتعت من جانبي بالمداخلات القيمة والهامة التي قدمتها الوزيرة أمل البيلي وهي تشرح جهود وزارتها في التخطيط وإنفاذ السياسات وكذلك وزير البني التحتية وهو يأسف لقرار الدولة بوقف تمويل المساكن وبناء العقارات من قبل البنوك وكذلك التحليل الذي قدمه مدير امن الولاية عن اشكاليات الهجرة الداخلية في ولاية الخرطوم منتقدا عن حق تسميات الحزام الأسود حول الخرطوم.
قدم ايضا استاذ العلوم السياسية البروفيسور الساعوري تعليقا ضافيا علي الندوة مشيرا الي اختلالات التنمية غير المتوازنة مؤكدا علي العامل الاقتصادي في الهجرة وضرورة ان تتحمل الحكومة الاتحادية مسئوليتها في ذلك، كما شارك ايضا ممثل المجلس التشريعي في الولاية متحدثا عن جهود لجنة الشئون الاجتماعية والاقتصادية في التصدي لهذه الظاهرة.
لا اريد ان اعيد ما نشرته من قبل حول موضوع الديمغرافيا والهندسة الاجتماعية في هذه الصحيفة الغراء، وقد اثلج صدري اهتمام المختصين بالأمر ، لكن لا بد من اعادة تسليط الضوء علي حقائق موضوعية لان الهدف ليس البحث عن حلول في عجالة من الامر بقدر الاهتمام بإثارة النقاش وبلورة الاشكالات في إطارها الموضوعي.
ان وجود خمس سكان السودان في ولاية الخرطوم وحدها يشير الي اختلال مريع في موازيين التنمية المتوازنة، وعندما يكون تعداد مدينة ام درمان لوحدها يفوق تعداد ثلاثة ولايات في شمال السودان مجتمعة ينذر ذلك بقنبلة سكانية واجتماعية موقوتة. ان نسبة النمو السنوي للسكان في السودان يبلغ ٢,٢٪، مما يجعل السودان في حالة فراغ سكاني مقارنة بمساحته الشاسعة. ونسبة الحضر ٣٣,٣٪ مما يجعل النسبة الغالبة من سكان السودان تعيش في الارياف. ولكن يسيطر سكان الحضر وهم اكثر من ثلث السكان بقليل علي اكثر من ٩٥٪ من الموارد الاقتصادية بالبلاد. تتكشف الازمة عند رصد حركة الهجرة الداخلية من الارياف الي المدن وكذلك نسبة السفر والاغتراب الي الخارج ، وتزداد المعادلة تعقيدا عند رصد نسبة اللجوء والتدفقات البشرية التلقائية من دول الجوار الي داخل السودان. هذه العوامل الثلاثة تشير الي ازمة حقيقية وقنبلة موقوتة يمكن ان تنفجر في اي لحظة خاصة وان التدفقات السكانية من دول الجوار تتجه معظمها الي مناطق الانتاج الزراعي لقلة الايدي العاملة نسبة للتعليم والهجرة من الريف الي المدن. يضاف الي ذلك وجود حزام من فقراء الريف حول الحواضر المدنية الذين دفعتهم أسباب النزوح والهجرة الداخلية للبحث عن سبل للعيش وتحسين الوضع الاقتصادي علي هوامش المدن مما حرمهم تلقائيا من خيرات الاقتصاد الريفي الذي عاشوه ومن امتيازات النادي السياسي والاجتماعي في قلب الحواضر والمدن في السودان. تستأثر ولاية الخرطوم وحدها بنسبة ٤٥٪ من الهجرة الداخلية ، و تتعاظم الانشغالات عند النظر الي نشوء كانتونات إثنية في قلب الخرطوم اذ ظلت مجموعات إثنية محددة تتوطن في جنوب الخرطوم لدرجة انها استنسخت اسماء قراها ومدنها الأصلية لتكون علامة لاحيائها الجديدة في قلب الخرطوم. واستأثرت ام درمان بغالب الهجرة الداخلية القادمة من غرب السودان وغيرها. وغابت عن رؤية الدولة لا لعجز في التفكير او التنفيذ وضع اطر وسياسات لتسريع عملية الدمج الاجتماعي الذي كان يحدث في السابق بطريقة تلقائية وقد زاد من مثل هذه التشوهات ان معالجة السكن العشوائي في السابق عمد الي تخطيط مدن جديدة اسكن فيها ذات الاثنيات في موقع واحد وهذا جعل مدن داخل الخرطوم تغلب علي لسانها الثقافي ومظهرها الاجتماعي جهة جغرافية واحدة وقد ظهر ذلك جليا في حي مايو بالخرطوم اذ يتحدث اهل الحي في اخر مسح لغوي ٢٦ لغة ولهجة ولكنها تنتمي الي اقليم جغرافي واحد.
هذه الحقائق تعيد النظر لاحياء سياسات ادارة التنوع ليس عبر التخطيط العمراني فحسب كما تعمل ولاية الخرطوم الان ولكن باستخدام العامل الاقتصادي وتوجيه السياسات لتوزيع القوي العاملة والانتاجية والنشاط التجاري بشكل متوازن. حاولت حكومة ولاية الخرطوم السابقة ان تستدرك علي ذلك بتخطيط وتشييد مدن الفتح بام درمان لكن كما سبق وذكرنا ان هذا الاندماج الاجتماعي لا يتم فقط بالتخطيط العمراني بل لا بد يستصحب ذلك حزم اقتصادية واضحة لتوزيع فرص العمل والمشروعات الإنتاجية.
ابرز مظاهر الاختلال الديمغرافي تتضح للعيان عند رصد التدفقات البشرية من دول الجوار ، التي أفرزت انواع جديدة من الجريمة المنظمة منها الاتجار في البشر والتهريب و البغاء والعمالة القسرية لخدم المنازل ، وكذلك الشحدة المقننة. ولا بد ان نستذكر حملة حكومة الخرطوم قبل عدة أعوام لتفريغ العاصمة من الشحاذين فأوقفت اكثر من مئتي شخص ينتمون الي دولة أفريقية غير مجاورة فتم ترحيلهم الي بلدهم الأصلي بعد التكفل بمبالغ طائلة في الإعاشة بالمعسكرات و تحمل نفقة الترحيل الجوي لكن سرعان ما تضاعفت الظاهرة من جديد.
ان اهم ما يفتقده السودان في هذه المرحلة استراتيجية للهجرة وخارطة ديمغرافية تحافظ علي التوازن والتنوع. اذ بإمكان السودان اذا احسنت الأجهزة التخطيط واقتراح السياسات ان نستقطب من دول الجوار افضل العقول والعمالة الماهرة والمدربة التي يحتاجها سوق العمل والإنتاج بدلا من التدفقات العشوائية التي يسيطر عليها اصحاب السوابق والعاطلين عن المهن والحرف والمواهب والنتيجة النهائية مزيد من بائعات الشاي من غير السودانيات في الطرقات وشوارع العاصمة الممتدة، وكذلك مزيد من العمالة القسرية لخدم المنازل لشبكات الجريمة المنظمة.
ان التجريف السكاني الحاد والهجرة الداخلية الكثيفة من الريف الي المدن خارج اطار خطط البندرة والحضر والعمران سيضغط علي قواعد البني التحتية في الخدمات الاساسية وسيفكك من عري الاقتصاد الريفي الذي يقوم علي الاكتفاء الذاتي ويحول هذه الكتل البشرية المتدفقة الي المدن الي مهن هامشية داخل الحواضر بدلا من مناطق الانتاج الاساسية. ويضاعف من سلبيات هذه الظاهرة ان التخطيط الحضري يرتبط بتحولات الاقتصاد من زراعي تقليدي الي صناعي لان الحواضر مرتبطة بالصناعة والخدمات. وفِي ظل عدم اكتمال تحول الاقتصاد من تقليدي الي صناعي ستتحول هذه العمالة الي انتاج هامشي في ماكنة الاقتصاد الكلية. وقناعتي الشخصية ان التعدين الأهلي في الذهب قد امتص كتل بشرية تقدر بخمسة مليون داخل اصقاع السودان المختلفة كان سيكون لها اثر ومردود سلبي. داخل المدن في ظل السكون الاقتصاد الذي كان سائدا في السابق.
ما خلصت اليه الندوة في ظل نقاش متفاعل ومداخلات قيمة وحيوية وهامة من الجميع ان القضية الديمغرافية تحتاج الي اهتمام اكثر من الدولة بتقوية المؤسسات المختصة ووضع الخطط والبرامج والاستراتيجيات و علي رأسها استراتيجية قومية للهجرة، وتنشيط منابع التنوع وإحسان ادارته وتحريض اليات الدمج الاجتماعي من خلال التخطيط الحضري ، لكن العامل الحاسم في كل ذلك هو الاقتصاد السياسي ، وان استيعاب تدفقات الهجرة من الريف الي المدن يحتاج الي ارساء قواعد اقتصاد صناعي خدمي. اما تدفقات اللجوء والهجرة من دول الجوار فتلك قنبلة موقوتة لمصاحبتها بمظاهر الجريمة المنظمة ولا يمكن تنظيم ذلك الا بوجود استراتيجية واضحة وفاعلة للهجرة.
ظلت اليات الهندسة الاجتماعية تتفاعل بتلقائية لاسباب دينية واقتصادية واجتماعية، وتصدرها المصلحون الاجتماعيون وزعماء التصوف والقادة الدينيون وتعد الحركة المهدية احد اكبر مشروعات الهندسة الاجتماعية في تاريخ السودان الحديث ولم تتدخل السلطة السياسية في صنع الهندسة الاجتماعية بالقهر والجبر القانوني. وعندما حاولت السلطة التدخل كما فعل الخليفة عبد الله وأمر بتهجير قبيلته ورهطه من غرب السودان الي ام درمان لدعم وحماية حكمه حدثت المأساة ووقعت المجاعات لخلو مناطق الانتاج من العمال كما انتشر العنف وسالت الدماء لاستخدام قهر السلطة لإخضاع المجتمع.
الاقتصاد والتنمية المتوازنة هما اس معالجة الاختلالات الديمغرافية والهندسة الاجتماعية في السودان وما عداهما أباطيل واسمار.