الذات والتشظي

 


 

د. أمير حمد
3 December, 2009

 

في رواية موسم الهجرة الى الشمال للاديب الطيب صالح(2)

في شخصية البطل:

عاش البطل شخصيات عديدة \ مركبة أي   شزوفرينيا  . فمرة كان " الطفل المعذب" وفيما بعد أصبح الرجل الذئب" وكذلك" المثقف الفوضوي".

الطفل المعذب:

حرم البطل الحب والحنان والاهتمام في طفولته فأمه باردة الإحساس ولا مبالية" وما من فرد آخر قام بتربيته أو الاهتمام  به  وترشيده في الحياة:

.بلا أقارب وأهل ، كان البطل كما أنه  نشأ يتيما لوفاة والده قبل ولادته .

يقول  علم  النفس  أن الطفل الفاقد للحب يصبح في أغلب الأحيان عنفواني ولا مكترث كما يكون بلا هدف واضح في المستقبل.بهذا نجد أن

البطل الفاقد للحب لم يستطع طيلة حياته أن يشعر به او  يمنحه   

وما بروده ولا مبالاته وتمركزه حول نفسه" أنانيته" ألا صفات لشخصيته

كطفل معذب صبغت عليه هذه الصفات الموروثة من أمه, والمكتسبة كذلك عبر صراعه الطويل في الحياة. لقد فشل البطل في إقامة علاقة سوية مع النساء في لندن  ولم يوفق  إلا في قرية ود حامد حيث تزوج بحسنه  وأنجب منها طفلين .

لقد ظل البطل  يطلب اللذة \اصطياد النساء في لندن باحثا " في اللاوعي"

عن الحب والحنان والوطن الروحي الذي لم يعهده في حياته ولو لمرة واحدة. امرأتان منحتاه الحب

"مسز روبنسون التي كانت ترعاه كابن لها, وحسنه زوجته . لقد فشل البطل في اكتشاف هذه الطاقة الروحية العظيمة \الحب ولم يحتف بها كما  هو شأنه مع مسز روبنسون........  ذكر  القاضي له  في محكمة الاولدبيلي بان فيه  نقطة مظلمة وانه فقد أعظم طاقة روحية يمنحها الله لعباده\ طاقة الحب" ومثلما أهملته أمه فقد أهملها ولم يحس بوجودهما إلا كغريبين جمعهما الدرب ثم افترقا ". احتدت وامتدت  مرارة هذا البرود في شخصية البطل إلى نهاية حياته عندما  أتاه خبر وفاة أمه "وقد كان مخمورا في حضن امرأة " لم يبك لفقدها أو يتأثر .

لقد ظل البطل (يمثل) طيلة حياته هروبا من واقعه \ حياته المريرة التي لاتستند إلى عاطفة أو أهل أو وطن وذكريات وما تاسيسه لغرقته بلندن بالرموز والتماثيل والصور العربية والافريقية وتطيبها بعطور الصندل والند والبخور  و......الا تاسيسا في لاوعيه لبيئة _وطن حرم منه منذ طفولته المعذبه .نقول هذا ونعرف كذلك ان هذه الغرفة قد  اسسها البطل  بهذا النمط العربي الافريقي المغري والغرائبي في منظور الاوربيات لتكون شركا لهن . وما وصيته للراوي بالاهتمام بطفليه  قبل انتحاره لفشله \ أكذوبته في الحياة إلا عكسا   لفشله الاجتماعي وطفولته العاثرة " إنني اترك زوجتي وولدي وكل مالي من متاع الدنيا في ذمتك .......وساعدهما على إدراك حقيقة أمري .......أن يعلما أي نوع من الناس كان أبوهما ـ إذا كان ذلك ممكنا أصلاـ وليس هدفي أن يحسنا بي الظن...... إذا نشأ مشبعين بهواء  هذا البلد وروائحه وألوانه "

وتاريخه ووجوه أهله ......... فإن حياتي ستحتل مكانها الصحيح ...........

ولكنني أحس أن ساعة الرحيل قد أزفت, فوداعا ".

الرجل الذئب :

( أليس صحيحا انك كنت تعيش مع خمس نساء في وقت واحد ؟

ـ بلى

ـ ومع ذلك كنت تكتب وتحاضر عن الاقتصاد المبني على الحب لا على الأرقام ......

ـ بلى

....  .......  كانت لندن خارجة من الحرب ومن وطأة العهد الفيكتوري عرفت حانات تشيلي , وأندية هامند , ومنديات بلو مزيري , اقرأ الشعر , وأتحدث في الدين والفلسفة ...... افعل كل شيء حتى أدخل المرأة إلى فراشي....."

عاش البطل حياة مزدوجة فتارة هو أستاذ اقتصاد أقرب إلى المصلح الاجتماعي و الداعي إلى القيم الإنسانية , وتارة أخرى " ذئبا" يتصيد النساء طالبا للذة.....

هنا نرى أن البطل كان قلقا في حياته ك هالر بطل  رواية " ذئب البوادي " لهيرمان  هسة , وليس هذا القلق الروحي إلا ثأراً من الغرب \ المستعمر إذ حول_في ذهنه_ النساء الانجليزيات  إلى صورة للاستعمار يضاجعهن فيحس انتصارا وانتقاما من الاستعمار الانجليزي للسودان .

نلمس هذه الصورة في بعض استراتيجيات إغراء البطل للنساء " ألف ليلة وليلة\ دور السيد  والامه . رغم ان الاستعمار الانجليزي لم يؤذ البطل في شيء بل علٌمه وبعثه كممنوح للدراسة في أوروبا إلا أنه كان يقاومه " بطريقة عوجاء\ مطاردة النساء الانجليزيات وتحطيم قلوبهن من ثم بالخديعه .  كان هالر بطل ذئب البوادي قلقاً كذلك منتقدا للعالم الرأسمالي وعصر الآلة ومتمتعا  منعما برفاهيتة في ذات الوقت . هذا هو الحال مع البطل مصطفى سعيد تجاه الاستعمار. فقد ترفه\ تعلم في كنفه وعاش كإنجليزي أسود وسط  الطبقة الانجليزية الارستقراطية غير أنه كان بالمرصاد  لهذا العالم\ مرحلة الاستعمار  ينتقدها ويقاومها وفق تصوره _مقاومته الهزلية "أتيت لأفتح أوروبا بعيري ......"

لقد ظل البطل يجند كل قواه  ضد الاستعمار ليبرر خطأه \أكذوبة حياته وجريمة قتله لجين موريس ,فهو كما رأينا في المحكمة قد أثار الذاكرة التاريخية ليعري مساوئ الاستعمار وإذلاله للمستعمرين .

إن شخصية ( الرجل الذئب) شخصية معهودة في الحياة الواقعية يمارسها البعض صراحة, ويعيشها البعض سرا, أو في خيالهم , فإلانسان في حد ذاته بشقيه  " الحيواني والإنساني "  في صراع مع    تضاد  ذواته فأما أن ينتصر(لذات) دون الأخرى أو يوفق بينهما على نحو ما مستندا إلى الرباط الديني , وهو ما لم يعشه البطل طيلة حياته إلا متصنعا \ ممثلا في قرية ود حامد! ....." كان يصلي الجمعة في المسجد......"

المثقف الفوضوي

" ........ ولكن إلى أن يرث المستضعفون الأرض ,وتسرح الجيوش ويرعى الحمل آمنا بجوار الذئب ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر " أبى أن يأتي زمان الحب والسعادة هذا سأظل أنا أعبر عن نفسي بهذه الطريقة الملتوية ....."

لقد كان البطل " لا منتميا " خارجا عن اطر ونظام المجتمع لا سيما في المرحلة التي عاشها " مرحلة الاستعمار". ظل ينظر إلى العالم حوله كعالم بلا عدل وفوضوي, يطالب الضعفاء بالالتزام والتقيد بالنظام والسلوكيات الحميدة فيما يستثني المرفهين  , والقوى العظمى من القاعدة العامة .

لقد كان من الممكن أن ينتقد البطل ( أللاعدل) والفوضى والاستعمار نقدا موضوعيا ويناضل بمشروعية فعالة إلا أنه آثر الفوضئ سلاحا له كسلاح الاستعمار نفسه  الذي شنه  في وجه المستعمرين. ظل البطل المثقف الفوضوي  يجند ثقافته لخدمة هدفه "اصطياد وتحطيم الفتيات الانجليزيات اللائي لم يكن سوى صورة مستعاضة للاستعمار في ذهنه".  كنت أعيش مع نظريات كينز وتوني بالنهار وبالليل اواصل الحرب بالقوس والسيف والرمح والنشاب ......

ورأيت الجنود يعودون ..... رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في معاهدة فرساي ......وانقلبت المدينة إلى امرأة عجيبة ضربت إليها أكباد الإبل وكاد يقتلني في طلابها الشوق......."

تتجلى لنا كذلك صورة المثفق الفوضوي حينما امتثل البطل للمحكمة الجنائية في لندن فقد كان يبرر جريمتة باللا عدل وفوضى الاستعماروعليه فهو ضحيته ونتاجه .  يتذكر كيف اتي باحد قواد ثورة المهدية المناضلة ضد الاستعمار راسفا بالقيود الي كتشنر الحاكم الانجليزي للسودان المستعمر فقال له كتشنر بان السودان ارضه فلماذا يخربها !!!!!  هنا انقلبت المقايس الي فوضئ فالدخيل المستعمر يرى المستعمرات ارضه ويحاسب صاحب الارض المستعمر كدخيل ويرى في مقاومته له تخريب وبلاء !!!! يتذكر  البطل المثقف الفوضي  مثل هذه المواقف فيجعل منها    

سببا  لتصرفاته الفوضوية كتصرفات المستعمرين   ولوقوعه في الجريمة

Amir Nasir [amir.nasir@gmx.de]

 

آراء