الذكاء السياسي للسعودية في نشر الدعوة الإسلامية
22 مايو 2017
إن القدرة على تنظيم ملتقى بهذا الحجم في يومين بمشاركة 56 دولة، واستيعاب وفود كل هذه الدول على المستوى الرئاسي بما فيهم وفد رئيس الدولة الأكبر في الكرة الأرضية، يحمل عدة أبعاد فكرية واقتصادية وأمنية ودبلوماسية، وهو أمر لا تستطيع القيام به وتحمل تبعاته سوى دول محدودا جدا في العالم، تثق في إمكانيات كادرها البشري حاضرا ومستقبلاً.
أما أن تقوم بذلك حكومة الدولة التي تحمل شرف رمزية حماية المقدسات الإسلامية التي تصلي تجاهها أمة المليار ونصف المليار، فهو شرف لنا جميعا أمام العالم، ومحمدة لصورة الإسلام المشوهة لدى الرأي العام الغربي، الذي هو مشبع بفكرة أن الإسلام والإرهاب صنوان متلازمان، وأن قمة التدين لدينا هي العنف والقتل، وليس السماحة والرحمة.
فالصدمة التي تصيب المنظمات الكنسية والتنصيرية (المتطرفة) من مبادرة خادم الحرمين الشريفين بهذا الملتقى هو أنه قد أوضح للعالم أن الإسلام ليس إرهاباً، وأن أمة المليار ونصف المليار مسلم ليست هي أمة الإرهاب والقتل والتفجير، وآنما كل هذه الدول المسلمة تسعى لمحاربة الإرهاب والإجرام الفكري والتطرف بأنواعه. خصوصا أن إحدى توصيات البيان الختامي كانت التصدي للمفاهيم المغلوطة عن الإسلام، والعمل على نشر مفاهيم الإسلام السليمة الخالية من أي شائبة.
لا يبدو السودان بعيدا عن الصورة، فهو واحد من الدول التي تحارب الإرهاب منذ زمان زيارة طائرة لانقلي في فيرجينيا الأمريكية. والسودان دولة إسلامية أساسية في مكافحة الإرهاب في المنطقة، بل في العالم كله عبر التعاون الاستخباري الدولي لحقن الدماء.
السودان هو نموذج الدولة المعتدلة دينيا، والتي يستطيع مجتمعها صهر الحركات السنية والصوفية والإخوانية واليسارية والنصرانية والقبطية، بصورة تكفل لكل جماعة خصوصيتها دون التعدي على الأخرى..
كما تبرز وسط ذلك تحديات الحكم في إدارة كل هذا التنوع الديني مضافا عليه التنوع الثقافي والإثني والسياسي، في ظل مهددات التطرف الدموي الذي يمكن أن يدخل البلاد عبر الجيوب الحدودية، بل في ظل الإرهاب الذي يمارس عبر بعض الحركات المسلحة الإرهابية والذي يستوجب من الجيش الإسلامي الذي تم تكوينه أن ينتقل للدولة الثالثة محاربة لهذا الإرهاب المنظم عبر جيوش وحروب عصابات.
ولم يكن اعتذار الرئيس السوداني عمر البشير عن حضور الملتقى بعد وصول الدعوة السعودية الكريمة وتكليفه من يراه بتقديراته مناسبا لتمثيله في هذه المناسبة، بسبب تخاذل عن مكافحة الإرهاب الإقليمي أو لنكوص عن المشاركة في عاصفة الحزن والتحالف الإسلامي الجديد، ولم يكن بسبب التطاول الوقح لموظف سفارة أمريكا بالخرطوم التي لا تعترف هي نفسها بما تسمى بالمحكمة الجنائية وترفض الاعتراف بها وترفض التوقيع على ميثاق روما !!
وإنما كان الاعتذار عن الحضور لتقديم المصالح العامة على الأسباب الخاصة، وليس العكس.
فكانت التضحية بالظهور الشخصي والتواجد في هذا الملتقى مع إخوانه، مقابل الحفاظ على زيادة حظوظ بلاده في مفاوضات رفع الحظر الاقتصادي الظالم عن كاهل البلاد والتي نظهر نتيجتها بعد أقل من شهرين من تاريخ الملتقى العربي الإسلامي الأمريكي في الرياض، وتخفيفا للأضواء الضاغطة على نظام دونالد ترامب في هذه الفترة، من طرف اللوبيات المعروفة باستخدام الإعلام كسلاح يغتال الأفراد والأمم.
ييدو المؤتمر تتويجا لمرحلة جديدة في المنطقة كانت تتشكل أحلافها في العامين الأخيرين، ومضى المؤتمر دون عثرات في التنظيم، بل كان إعلامه دليلا على مدى تمكن الآلة السعودية في هذا المجال، والقدرة المبهرة لقياداتها على قية وتوجيه الرأي العام.. ولم يتعثر الملتقى سوى حادثة قد تبدو طريفة حين تعثرت نظرات الرئيس الأمريكي ترامب بحذاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، حيث أشاد بالحذاء بدل أن يشيد بالرجل وبعقله وبفكره وقوة عزيمته، وذلك بعد إشادة المصري بشخصية الأمريكي وإبداء إعجابه به.
وهو ما يعد عدم لباقة من فخامة الرئيس الأمريكي في طريقة نظره لبعض حكام المنطقة من دول العالم الثالث، مما قد يستدعي اعتذاره للرئيس المصري الشقيق. فلا زال الرجل يتلمس طريقه، ويكسر الحواجز ليتعرف على عادات وثقافات جديدة، ويتحول من مواقفه القديمة التي كان البعض يظنها ستكون شرا وعذابا جمهوريا عظيما على أمة المليار ونصف المليار.
هذا التحول في المواقف يتمظهر في مشهد طريف ذي دلالة لطيفة وعميقة، وهو طلب الملك سلمان من الرئيس ترامب أن يشرب القهوة العربية بيمينه لا بيساره، ثم استجابة الرئيس الفورية لذلك وهو يسأل: هل يكون الشرب باليمين دوماً ؟
وعموما، قام فخامة الرئيس ترامب بطمأنتنا لأول مرة، ولم يقصر في وصفه أن "غالبية ضحايا الإرهاب هم من المسلمين"، وقوله كذلك منطلقا من قناعته بأهمية القضاء على الإرهاب والحركات المسلحة من أجل تحقيق الازدهار و الرفاه لشعوب العالم الثالث " "إن منطقة الشرق الأوسط بها ثروات كبيرة يجب أن تحولها لمركز تجاري عالمي".
حيث كان من الذكاء ربط الأوضاع الاقتصادية بالضغط المؤدي للإرهاب، فكانت إحدى توصيات إعلان الرياض هي تحسين المستوى المعيشي لشعوب المنطقة والدول المشاركة بالعمل على توفير الفرص للشباب وتذليل كل العوائق التي تحول دون مساهمتهم في تنمية بلادهم.
ولكن من أفضل ما قاله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ويستحق عليه رفع القبعات هو *("أننا حاليا في حرب بين الخير والشر، ولسنا في حرب بين الأديان والطوائف")*.
أما الثغرة الوحيدة في هذه القمة الكبيرة التي سيذكرها التاريخ دوما، فهي تأجيل إدانة التطرف غير الإسلامي، مثل التطرف البوذي ضد أقلية الروهينقا المسلمة في ميانمار (بورما)، والتطرف اليهودي (وأقصد التيار الصهيوني) ضد الأكثرية المسلمة في فلسطين المباركة، والتطرف المسيحي في النرويج وغيرها من الدول، والمتمثل كذلك في جرائم العنصرية في أمريكا وأوروبا ضد المقيمين والمهاجرين والمواطنين من معتنقي الديانات غير المسيحية، والمتمثل كذلك في تقارير وأحكام وممارسات المنظمات الدولية المتطرفة ضد المسلمين وضد الأفارقة.
يبقى الإرهاب والقتل والعنف بدون دين وبدون جنسية، وتسهم في صنعه غالبا ظروف غير سوية وممارسات قمعية للحكومات خصوصا الثيوقراطية والعَلمانية ولو من خلف ستار ، ويبقى مثيرا للانتباه تكليف الجهات المعنية في الدول المشاركة بمتابعة وتنفيذ مقررات إعلان الرياض.
أخيرا، فإنه ومما قد يتم فهمه بسوء قصد، هو أن أمريكا تريد استخدام السعودية كعصا تضرب بها الدولة الفارسية، وهذا تفكير مردود على قائليه، فأمريكا منذ بوش الأول صارت لا تعبأ بقرارات مجلس الأمن والقانون الدولي، وتستطيع ضرب أي مكان وديار شاءت في الأرض. كما أن القيادة السعودية الحكيمة ليست من الغباء لأن تقوم بقطع شعرة معاوية بينها وبين إيران، وهي تقوم بتقدير الموقف وحساب المصالح والمهددات بناءً على ما يتيسر من معلومات ومواقف.
وما على إيران إلا أن تقتل التوجسات المغرضة، فتقوم بتحجيم التيارات التوسعية "والامبريالية" لدى بعض رموزها المتطرفة، وتضبط خطابها الإعلامي المهيج للجماهير والمثير للتوجسات، مثلما أنه من مقررات القمة تجديد الخطاب الفكري، وأحسب أن ذلك يشتمل على كسر نمطية خطب الجمعة في كافة أرجاء مساجد الأمة. فعلى إيران التجديد الإيجابي كذلك وأن تنضم لرأي الجماعة المسلمة، وتسهم مع جيرانها في الحفاظ على الأمن العالمي ورفاه شعوب العالم الإسلامي بما تمتلكه من قدرات لا يستهان بها في كل المجالات، فإيران نفسها ليست في مأمن من ضربات الإرهاب سواء المنسوب للإسلام أو المسيحية أو اليهودية !
تتكرر المباركة للمملكة العربية السعودية حاضنة بيت الله الحرام والكعبة المقدسة والمسجد النبوي الشريف، في البدء في عرض نموذج صحيح للإسلام السمح ترغيبا لغير المسلمين في دخوله، ونحمد للجيل الشاب الجديد وعلى رأسهم ولي ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان آل سعود الذي يخطط للمملكة السعودية ولرؤية 2030 ابتداره التغيير في المنطقة منذ سنوات معدودة، وقيادة دول الإسلام المعتدل الآن نحو مكافحة الإرهاب المنتمي لجميع الأديان، ومحاربة التطرف والإرهاب اللاديني كذلك.
م. أُبي عزالدين عوض
Obay1975@gmail.com