الذكرى (138) لتحرير الخرطوم

 


 

 

1
شهد السودان ثورات تركت أثرها علي مجريات الأحداث محليا وعالميا مثل :
- الثورة المهدية المسلحة التي قضت على الاحتلال التركي – المصري الذي قهر شعب السودان ونهب موارده الزراعية والحيوانية والمعدنية والبشرية التى مرّ (138 )عاما علي انتصارها بتحرير الخرطوم في يناير 1885 م.
- ثورة الاستقلال الجماهيرية 1956 التي قضت علي الاحتلال البريطاني المصري للسودان الذي نهب موارد البلاد في تبادل غير متكافئ ، وانتزاع الاستقلال والسيادة الوطنية بعيدا عن وصاية مصر أوبريطانيا .
- ثورة أكتوبر 1964 التي قضت علي الحكم العسكرى الأول ( ديكتاتورية الفريق عبود) الذي فرط في جزء عزيز من الوطن "حلفا" في الاغراق الذي تمّ بعد قيام السد العالى.
- انتفاضة مارس – أبريل التي قضت على الحكم العسكري الثاني (ديكتاتورية النميري) التي سوف نحتفل بذكراها ال (38) هذا العام، الذي فرط في أراضي وثروات و سيادة البلاد بتهريب اليهود الفلاشا ، ومارس اقصى درجات القهر والاعدامات لقادة البلاد السياسيين النقابيين العسكريين .
- ثورة ديسمبر 2018 التي اطاحت برأس نظام الانقاذ " البشير"التي مازالت مستمرة من أجل التصفية الكاملة للنظام بعد انقلاب اللجنة الأمنية قي 11 أبريل 2019 ، وامتداده في انقلاب 25 أكتوبر 2021 ، كما هو جارى في المقاومة الجماهيرية المتنامية لاسقاط الانقلاب كما في المواكب والمليونيات التي تسيرها لجان المقاومة، والاضرابات والوقفات الاحتجاجية للعاملين من أجل رفع الأجور انتزع الحق في تكوين النقابات، والحركات المطلبية ضد التعدين الضار بالبيئة ونهب ثروات البلاد، وضد بيع أراضي موانئ البلاد ، وضد انتهاكات حقوق الانسان ، وحماية المواطنين في دارفور وغيرها من خطر الابادة الجماعية الجارية بهدف نهب الذهب وبقية المعادن والأراضي ، الخ.
لا شك أن التضحيات والتراكمات الجماهيرية لهذه المقاومة سوف تصب في النهاية مهما اعترضت العقبات مجرى السيل الثورى في وحدة فى الثورة والتغيير الجذرى، والاضراب السياسي والعصيان المدني لاسقاط الانقلاب انتزاع الحكم المدني الديمقراطي، وتفكيك التمكين واستعادة أموال الشعب المنهوبة ،ومحاكمة القتلة والمجرمين ،وتحسين الأوضاع المعيشية وتحقيق مجانية التعليم والصحة ، والخدمات الأساسية " مياه ،كهرباء"، وتحقيق السيادة الوطنية وحماية ثروات البلاد من النهب والتهريب للخارج، وعودة شركات الجيش والأمن والدعم السريع والشرطة لولاية وزارة المالية ، وحل المليشيات وفق الترتيبات الأمنية " دعم سريع ، مليشيات المؤتمر الوطني، وجيوش الحركات المسلحة" ، وقيام الجيش القومي المهني الموحد، والغاء القوانين المقيدة للحريات ، واعادة النظر في كل الأراضي التي تم ايجارها بعقود تبلغ 99 عاما، واتفاقات التعدين المجحفة في حق السودان ،واستعادة أراضي السودان المحتلة "حلايب، شلاتين ، ابورماد، نتؤاءات حلفا ، الفشقة".
سوف نركز في هذه الدراسة بمناسبة الذكرى(138) لتحرير الخرطوم وانتصار الثورة المهدية على موقع الثورة المهدية في خريطة ثورات القرن التاسع عشر
2
نهدف من هذه الدراسة الى توضيح غرضين:
الأول : ان الثورة المهدية لم تكن حدثا معزولا ، وانما كانت ثورة من الثورات التى شهدها العالم في القرن التاسع عشر ، سواء كان ذلك على مستوى العالم الاوربي أو مستوى المستعمرات. فالنظام الرأسمالي كان قد شهد تطورا هائلا بعد الثورة الصناعية والثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر ، وافرز نتائج سلبية مثل تدهور احوال الطبقة العاملة وتشغيل النساء والأطفال لاكثر من اربعة عشر ساعة في اليوم ، كما اتجهت الدول الرأسمالية الى بلدان افريقيا والشرق لتبحث عن اسواق جديدة لمنتجاتها وموارد خام جديدة لصناعاتها، نتج عن هذا التوسع الاستعمار وقهر شعوب المستعمرات واستنزافها اقتصاديا ومحو ثقافاتها وتقاليدها ونظمها الاجتماعية التى كانت سائدة فيها قبل ربطها بالسوق الرأسمالي العالمي ، وفي تطور مشوه وغير متوازن نتج عنه تدمير البنية الاجتماعية القديمه دون كسب بنية اجتماعية جديدة ارقى.
وكان من نتائج ذلك الاستغلال الداخلي والخارجي تلك الانفجارات والثورات.
الثاني : تحديد خصوصية الثورة المهدية ، تلك لخصوصية التى نبعت من واقع السودان وظروفه وتقاليده الاجتماعية والثقافية ، وبالتالى استخلاص مؤشرات عامة تبين اسهام الثورة المهدية في حركة الثورة العالمية في القرن التاسع عشر..
3
ثورات القرن التاسع عشر
شهد القرن التاسع عشر ثورات عمالية في أوربا ، فنسمع على سبيل المثال عن انتفاضة عمالية في ليون في فرنسا عام 1831 م ، وفي الفترة (1838 - 1842 م) شهدت انجلترا ثورات عمالية وهى حركة الشارتيين الانجليز ، والحركة الشارتية هى أول حركة جماهيرية في التاريخ للطبقة العاملة نشأت في بريطانيا وقامت في ثلاثينيات واربعينيات القرن التاسع عشر ، ونشر المساهمون في الحركة ميثاقا شعبيا ( charter ) وطالبوا بالحق الانتخابي العام ، وطوال عدة سنوات قامت في ارجاء البلاد كافه اجتماعات حاشدة ومظاهرات شارك فيها ملايين العمال والحرفيين ، ولقد قمعت الحركة ، ولكن تأثيرها على التطور اللاحق للحركة العمالية كان كبيرا جدا.
• وفي عام 1871 م قام العمال في فرنسا بثورة ( كومونه باريس ) وشكلوا أول حكومة للطبقة العاملة في التاريخ واستمرت تلك الحكومة أو الثورة 72 يوما ( من 18 مارس حتى 28 / مايو 1871 م ) وتم قمعها وسحقها بعد ذلك.
كما نسمع عن ثورات عمالية وسياسية حدثت في عام 1848 م في أغلب بلدان أوربا،
وكانت مطالب العمال في تلك الثورات تتلخص في تحسين ظروف عملهم وزيادة اجورهم وتخفيض ساعات العمل .. الخ ، وفي هذا العام صدر البيان الشيوعي لماركس وانجلز .
في الفترة ( 1860 – 1865 م ) حدثت الحرب الاهلية في امريكا ، والتى كانت الثورة الثانية بعد ثورة الاستقلال في اواخر القرن الثامن عشر، وكان من نتائج الحرب الاهلية هى ثورة تحرير الرقيق أو الغاء نظام الرق في امريكا ، وكانت من الثورات الاجتماعية والانسانية التقدمية في التاريخ .
• وفي المستعمرات البريطانية حدثت الثورة الهندية عام 1857 م والتى قمعتها بريطانيا بوحشية.
• وفي مصر نسمع عن الثورة العرابية بقيادة احمد عرابي عام 1882 م ، وكان رد فعل بريطانيا على هذه الثورة أن قامت باحتلال مصر في سبتمبر 1882 م وقمعت انتفاضة الجيش بقيادة عرابي واعتقلته ورفاقه ونفتهم ..
نلاحظ أن الخيط الناظم لهذه الثورات : اما انها ثورات اجتماعية مثل: ثورات العمال في اوربا أو ثورة تحرير الرقيق في امريكا، أو ثورات وطنية ضد الاستعمار الاجنبي مثل: ثورة الهند وثورة عرابي في مصر .
وتأتى الثورة المهدية كثورة ضد الاستعمار الاجنبي التركى – المصري. وبعد احتلال بريطانيا عام 1882 م لمصر ، اصبحت الثورة المهدية فعليا ضد الاحتلال البريطاني ، لأن القوى القابضة فعليا على مصر اصبحت بريطانيا .
أما حول اسباب وطبيعة الثورة المهدية وخصوصيتها ، فقد وضحناها في دراسة سابقة، ولانريد أن نكرر هنا ( راجع ، تاج السر عثمان الحاج ، دراسات في التاريخ الاجتماعي للمهدية ، مركز عبد الكريم ميرغني 2010م.
4
اضافة للثورات الاجتماعية والثورات ضد الاحتلال الأحنبي شهد القرن التاسع عشر ثورات فكرية وعلمية ، تزامنت مع الايقاعات السريعة للتطور العالمي الذي نشأ بعد الثورة الصناعية والثورة الفرنسية وارتباط العلم بالإنتاج، فنسمع في ذلك القرن عن ظهور نظريات جديدة للثورة الاجتماعية مثل النظرية الماركسية ومؤلفاتها الأساسية مثل : (الايديولوجيا الالمانية) لماركس وانجلز ، (البيان الشيوعي) لماركس وانجلز ، (رأس المال) لماركس ... الخ . ، وكانت من النظريات التى تركت بصماتها في أوساط الطبقة العاملة والحركة الاشتراكية في القرن التاسع عشر ، كما كانت من النظريات الأساسية المعارضة للنظام الرأسمالي ونتائجه من الاستغلال الناتج عن الاستحواذ علي فائض القيمة ( الجزء من العمل غير مدفوع الأجر ) واستغلال شعوب المستعمرات.
كما نسمع عن نظريات جديدة في علم النفس لفرويد وعلم الاجتماع لمورغان وعلم الأحياء لدارون عن تطور الأنواع بالانتخاب الطبيعي التي نشرها عام 1858 م في مؤلفه (أصل الأنواع) .
كما نسمع عن تطورات جديدة في الفلسفة والاقتصاد وعلوم الكيمياء ونظريات جديدة في علم الرياضيات والفيزياء والتى تم تتويجها باكتشاف (الالكترون) في اواخر القرن التاسع عشر وكسر الذرة والتي دشنت ثورة جديدة في علم الفيزياء . هذا اضافة لظهور نظريات جديدة دعت الى التجديد في الادب ( شعر ، قصة ، مسرح ، موسيقى ) والفن .
وحاصل القول ، كان القرن التاسع عشر سريع الايقاعات ، وشهد ثورات فكرية واجتماعية وثورات تحرر وطني تركت بصماتها على القرن العشرين، ويصف الروائى شارلس ديكنز في رواية (قصة مدينتين) ذلك القرن، وذلك الزمن والعصر: ( بأنه احسن الأوقات واسوأ الأوقات، وزمان الحكمة والغباء، وعصر الايمان والشك، وموسم الضوء والظلام، وربيع الأمل وشتاءاليأس).
5
يمكن للقارئ أن يقارن فكرة الثورة المهدية بالثورات الفكرية التى كانت تشهدها أوربا في ذلك الوقت في المجالات المشار اليها لاحقا ..
فالثورات الفكرية والفلسفية في اوربا كانت نتاج لتطور القوى المنتجة بعد الثورة الفرنسية و الانقلاب الصناعي ، وثورة المهدى في السودان كانت تعبيرا عن واقع السودان الاقتصادي وتخلف قواه المنتجة ، وبالتالي جاء فكر الثورة المهدية تعبيرا عن ذلك الواقع ، وبشكل فكرة المهدى المنتظر الذي سوف بملآ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا، التى كانت لها جذورها في الفكر الصوفي الذي اتتشر في السودان منذ عصر الفونج..
نحن عندما نربط ثورة المهدى بالثورات المعاصرة لها في العالم لانفتعل ذلك الربط ، فقد كان الاستعماريون يعتبرون الثورة المهدية حلقة جديدة في سلسلة الثورات الشعبية التى شهدها العالم ضد الاستعمار البريطاني أو ضد النظام الرأسمالي ( في بريطانيا أو بقية البلدان الاوربية ) ( ثورة العمال ) .
فمثلا بعد ابادة حملة هكس باشا وانتصار المهدى الحاسم في غرب السودان القى اللورد دربي بيانا في مجلس اللوردات البريطاني ملخصه أن أمثال هذه الكارثه التى حدثت لحملة هكس لم تكن في الحسبان ، واعترف بأنهم لم تكن لهم وسائل يقدرون بها مدى العقيدة والتعصب لدى هؤلاء العرب .. يقول ( لم يكن هناك شبيه لهذه الحالة من التعصب والحماس منذ الحركة الوهابية في الجزيرة العربية ولا أقول منذ عهد النبي ومن خلفوه مباشرة .. هل هناك من جديد في أن يباغت العالم بامثال هذه الثورات الشعبية ؟ من كان يترقب الثورة الاوربية في سنة 1848 م ؟ من تنبأ بالتمرد الهندى ؟ من كان ينتظر في سنة 1871 م غير خراب باريس بواسطة سكانها ؟ ( انظر خطاب اللورد دربي في مكى شبيكه : السودان والثورة المهدية – الجزء الثالث – دار جامعة الخرطوم 1984 ، ص 6 ).
اذن اللورد دربي يضع الثورة المهدية كحلقة في سلسلة الثورات التى عرفتها اوربا وشعوب المستعمرات في عام 1848 م ، وفي عام 1871 م وفي عام 1857 م ..
للمزيد من التفاصيل، راجع تاج السر عثمان الحاج ، دراسات في التاريخ الاجتماعي للمهدية ، المرجع السابق).
ومن هذا المنظور نرى أن الثورة المهدية لم تكن حدثا معزولا أو نشازا ، وانما كان لها موقعها في خريطة ثورات القرن التاسع عشر.

alsirbabo@yahoo.co.uk
/////////////////////////////

 

آراء