الذين لا تؤذن ديوكهم للفجر الصادق .. رواية : د. على حمد إبراهيم
د. على حمد إبراهيم
31 January, 2014
31 January, 2014
عوى مكبر الصوت يدعو المسافرين على طيران عبر المحيط ان يكملوا اجراءات سفرهم . انتصب واقفا كالطود. بدا طويلا ونحيفا و شاحبا كما هو دائما . أخذ يلملم اشياءه القليلة . درع شنطة صغيرة على كتفه الايمن . لفح اخرى وراء ظهره . جمع الى صدره اوراقه الثبوتية : جواز سفره الاحمر الانيق الذى يقول ان حامله هو شخص ليس من غمار الناس العاديين الذين تلتقطهم العين فى كل مكان ولا يثيرون انتباها حدق فى جواز سفره طويلا كأنه يقرأه للمرة الاولى،
اخذ يصعد الدرج العالى ببطء شديد ، كأنه يستقرئ خطواته،
يستدير بين الفينة والاخرى نحو المودعين الكثيرين الذين لا يعرف منهم أحدا. بعضهم يلوحون بايديهم. آخرون ينظرون فى صمت مبهم ، آخرون ينازعون ابتسامات قلقة لا تقول شيئا . ما زال يصعد الدرج العالى ، ينظر تحت قدميه ، يتدبر موقع خطواته غير الواثقة . مسح باكمام قميصه دمعات تطفلت من عينيه بدون استئذان و تمتم لنفسه بكلمات لا تبين . تخيل أن البوادى عموم كلها تدعو له الآن بأن لا يكون هذا آخر وداع . بعضها يكون قد اجهش بالبكاء. لا شك فى ذلك . الناس فى البوادى حنينون و لا يسافرون خارج اوديتهم الا قليلا . وعندما يفارقون ديارهم يحزنون حزنا شديدا.. تشاغل بالنظر فى الافق البعيد ، يدارى ضعفه الطارئ . بدت له السماء مكتظة بهضاب من السحب الداكنة . غامت الدنيا فى عينيه : مالها لا تغفر سفره هذا البوادى عموم. كل البشر يسافرون و يعودون . هذا هو دأب الناس فى كل مكان وزمان . وهذا هو دأبهم فى البوادى عمومم. و هو واحد من هؤلاء البشر الجوالون. منذ ان ولج فى عالم الميرى الحكومى الفى نفسه مسافرا او عائدا من سفر . يرحل ويغيب طويلا عن البوادى عموم حتى تظن أنه لن يعود . ولكنه يعود . يوم ارسله والده شيخ العشيرة الى مدرسة البندر البعيد سافر وانقطع طويلا عن البوادى عموم حتى ثارت شكوكها ، واخذت تنسج حول غيابه قصصا من خيالها الوارف . و يجد المعترضون على مشروع تعليمه المزيد من الاسباب لتهديم ذلك المشروع . يقولون أن شيخهم الوقور اضاع ابنه فى مدن البندر.و لم يعد قادرا على ارجاعه الى دياره . وتزم شفاهها تعجبا قبل أن تنصرف الى شأن آخر من شئونها . يوم شاع خبر التمرد العسكرى فى المدينة التى كان يتلقى فيها تعليمه الاوسط ، خافت عليه البوادى عموم ، و حسبته فى عداد الهالكين. و نسجت من الخبر اساطير من خيالها الثر. لكنه نجا و عاد . فسكتت البوادى عموم لبعض الوقت انتظارا للجديد من اخبار الفتى ياتيها من البندر البعيد .فقد اصبحت اخباره استثمارا لتزجية الفراغ العريض فى البوادى عموم . لكن مع تقدم الزمن . وتشعب مشاغل ومشاكل عيشها اليومى ، لم يعد غيابه الطويل عن البوادى عموم يشكل ذلك الهاجس القديم لمحيطه البدوى الممتد. حين دخل خورطقت الكبرى ، وتعداها الى جامعة الخرطوم، و كلاهما بعيدة من البوادى عموم ، لم يشغل ذلك الأمر بالها مثلما شغلها سفره الاول الى مدينة ملكال ، عاصمة النيل الاعلى، النيل لتلقى تعليمه فى مرحلتى الاساس والاوسط . فقد تعودت البوادى عموم على رؤيته وهو يحزم متاعه مسافرا ، أو يفرغ حقائبه عائدا من سفر. يوم عاد ظافرا وهو يتأبط شهادته الجامعية العليا ، دفقت البوادى عموم افئدتها فى الطريق العام فرحا بعودته الظافرة . ما زال مكبرالصوت يعوى و يدعو المسافرين على طيران عبر المحيط الاسراع فى تمكلة اجراءات سفرهم. وما زال هو يحدث نفسه : تسافر اليوم الى ذلك البلد البعيد . وتارك خلفك هذا الركام الهائل من الضنى العام . وسوف تعود غدا الى البوادى عموم ، مثلما كان يحدث فى زمانك الغابر.و ستجد كل شئ ماكثا فى مكانه القديم . ستجد البتول بت ابراهيم الفقيرة المعدمة و هى تجاهد لكى تدفع ضرائب القطعان على شياهها التى ماتت كلها بوباء الجدرى فى ذلك الخريف الراعف. ولكن كشف الحكومة لا يشطب و لا يقع فى الواطا كما يقول عمدة الادارة الاهلية. وتستدين البتول بت ابراهيم من الاهل والجيران وهى المعدمة لتدفع ضرائب القطعان على شياهها التى نفقت فى ذلك الخريف الهتون الذى جلب معه كوارث كثيرة . ومضى ذلك الخريف الفاجع وترك كل شئ فى مكانه القديم . لم يتغير بتغير شئ . لماذا تطحن البوادى عموم نفسها حسرات و اعتراضا على سفره هذا. ماهو الضرر الذى يصيبها من سفره هذا.ما هو الجديد المخالف لنواميس الحياة فى البوادى عموم الذى يسببه سفره هذا. و حياة الناس فى البوادى عموم، اليست هىى رحلات مكرورة بين مبارك الدمرة الصيفية ، ومعاطن الخريف الهتون. اليست هى رحلة نشوغ خريفية شمالا حيث الاسواق وقضاء الحاجات ، ورحلة عودة صيفية جنوبا الى مبارك الدمرة الصيفية . اليست هى اقامة مؤقتة هنا وترحال مؤقت هناك فى موسمى الخريف والصيف . لماذا اذن تستهجن البوادى عموم ىسفره الى ذلك البلد البعيد . لقد سمعوا أنه ابعد من بلاد فاس التى ليس وراءها ناس. إنه بلد بعيد. ابعد من بلاد فاس. لا شك فى ذلك . ولكنه بلد مكتظ الى شدقيه با لناس . لقد سمعوا عن بعض سلوكيات اهله المعيبة التى لا يستطيع الناس فى البوادى عموم الخوض فيها فى مجالسهم العامة . فهىى سلوكيات لا مثيلى لها فى البوادى عموم . و دينهم يخالف دين الناسى فىى البوادى عموم . و ديوكهم المعلوفة لا تؤذن للفجر الصادق كما تفعل ديوكى البوادى عموم غير رالمعلوفة . إنها ديوك مسخوتة لا تحرض الناس على الصلاة عند الفجر الصادق . ما زال مكبر الصوت يعوى يطلب من المسافرين على طيران عبر المحيط اكمال اجراءات سفرهم. وهو ما زال يصعد الدرج ببطء . يتحسس مواقع قدميه، يتثبت منها ، لايكاد يرفع ناظريه الى اعلى. يحدث نفسه فى منلوجه المنفرد : " تترك لهم الجمل بما احمل . تلك عوجة كبيرة .و مدن البندر كلها تتر كها لهم . والبوادى عموم . والفضاء العريض ، ونسيم الدعاش الفواح. ولكن لا ضير . ريحهم الاصفرالذى استجلبوه معهم اورثهم الخراب. والذى يرث الخراب ،ما ورث شيئا . ينظر الى بالخميل الساجى من حزنه . و مستودع خزف المدينة الجميل وقد عاثت به الثيران الاسبانية . ليس منسحبا من ميدان المعركة. سيعود عند اشتداد الأوار . و ياخذ نصيبه من الضنى العام. ما زال مكبرالصوت يدعو المغادرين بطيران عبر المحيط الى اكمال اجراءات سفرهم . و هو ما زال يصعد الدرج. يغمغم لنفسه بكلمات خفيضة . انتابت قسمات وجهه مسحة من كآبة طارئة . تذكر رجاءات الحزانى و مشاعر الباكين من سفره . عائشة الأخت الأم . ومياسة الأخت الابنة . وغيرهم. لمن تركهم فى صقيع الفقر الذى قدم على ديارهم فى معية الريح الاصفر . لقد ترك الحزن الجياش يقتاتونه صباح مساء . و حمل معه فى وجدانه تلالا من الأحزان أنيسا له فى سفره الى ذلك البلد البعيد .لم يستطع الانحناء . كما استطاع الآخرون . كل انسان ميسر لما كتب له من طبع وسجايا . قلم القدرة كتب عليه هذه الخطى . ومن كتب عليه قلم القدرة خطى مشاها . عوى مكبر الصوت بالخبر الاكيد . دعا المسافرين على طيران عبر المحيط الى الاصطفاف امام بوابة المغادرة رقم ثلاثين استعدادا للصعود الى جوف الطائرة قبل الصعود الى جوف السماء. لقد حانت اللحظة اخيرا. لم يتخير تلك اللحظة . ولم يسع اليها . الريح الاصفر. دفعه اليها كما دفع الملايين غيره . الامور تسير على مايرام .الآن لن تستطيع قوة فوق الارض ان تلغى سفره هذا .الغاء هذا السفر صار دونه خرط القتاد . ودونه معركة فى عنف معركة ذات الصوارى التى حدث عنها التاريخ القديم ضد كل من تسول له نفسه الغاء هذا السفر . لن يقبل بما حدث لصديقه حمّاد العود قبل سفره الى ذلك البلد البعيد . فى يوم سفره، صعد حمّاد العود الى جوف الطائرة وفى صدره زئير من الغضب المكتوم . سافر مغاضبا و من يومها انقطعت اخباره عن البلد. وعن أمه الحزينة . لا خطاب وصل منه الى امه . ولا مصروف يسد حاجتها فى البلد الذى صار قرية كبيرة من المعوزين . لا احد عرف السبب . و لا احد اهتدى الى عنوانه. عندما يصل الى ذلك البلد البعيد سوف يسأل عنه سؤال الضهبان . سوف يقلب جميع الاحجار و ينظر تحتها بحثا عن صديقه القديم حماد العود . سوف يعثر عليه ، لا محالة . الارض لم تبتلعه بعد . انه حى على ضهر الارض . سوف يعثر عليه . سوف يراه كما هو فى شكله القديم الذى يعرفه ، يمشى ، ،يتلولح فوق اديم الثرى مثل اعصار المقيل. سوف يفرّح امه الحزينة ، بالخبر المفرح . سوف تدعو له تلك المرأة الصالحة بخير ان عثر لها على ولدها المفقود . ستفرح فرحا عظيما وسوف تعود اليها بشاشتها القديمة. انها تسأل دائما عن صحته ، ولا تسأل عن المصاريف التى لم تصل . الناس فى البوادى عموم مؤمنون ، وقدريون ويتجملون على الحاجة بالصبر الجميل. يصبرون على المحن والفاقة صبر النبى ايوب، يحمدون الله على ما اتاهم ، وعلى النفس الطالع والنازل. لا يغضبون و لا يشكون ، لأن الشكية لغير الله مذلة . يؤمنون بالقسمة والنصيب، و بما قسم لهم قبول من رغب فى ما عند الله ورغب عن ما عند غيره. ما زال يصعد الدرج ببطء ، يتحسس مواقع قدميه ، يتثبت ، لا يكاد يرفع ناظريه الى اعلى . حانت منه التفاتة الى الافق البعيد.ما زالت السماء متجهمة ،و مائجة بالغمام الكثيف ، تهدر فيها الرعود والبروق ، كأنها غاضبة هى الاخرى من سفره هذا الى ذلك البلد البعيد كما هى غاضبة البوادى عموم . فى البوادى عموم لا يهاجر الا المحتاج المنقطع . هو ليس منقطعا، و ليس محتاجا. دار ابيه ما زالت رحبة الجناب ، نيرانها ما زالت تدل الطارقين فى الليل . الحكايات العيب التى تقال عن ذلك البلد البعيد لا تهمه . كل شاة معلقة من عصبها . و لن يثنيه كلام البوادى عموم عن السفر اليه .ما زال يصعد الدرج ببطء ، يتحسس مواقع قدميه ، يتثبت منها ، لايكاد يرفع ناظريه الى أعلى . يغيب فى هواجسه ،و يسهو ثم يعود . السماء ما زالت مكتظة بالسحب الداكنة .ما زالت تزمجر فيها الرعود. و توجوج البروق. وهو ما زال يصعد الدرج . و ما زال يهاتف نفسه بما يشبه الاعتذار للبوادى عموم . الناس فى البوادى عموم يحزنهم ان يفارقوا ارحامهم و الديار التى يولدون فيها. يكابدون محن الحياة واكدارها وهم راضون . يحمدون الله على النفس الطالع والنازل. وعلى القليل الذى يأتيهم . ويتجملون بالصبر الجميل.
انتبه الى ما يقوله مكبر الصوت : اجراءات السلامة الجديدة فرضت بعض التأخير. لا يزعجه هذا. فالقايدة واصلة . المهم عنده ان يكون سفرا قاصدا مثل سفر امه بت على ، فارسة البوادى عموم .لقد صار سفر بت على مضربا للامثال. و اسطورة تحكى فى مجالس الانس الليلى فى البوادى عموم. قالوا دهم ود حسن، رئيس حرس البوادى الجوال ، بت على بالخبر الشين فى ذلك الصباح . صباح الربوع بالتحديد .قال لها ان بوليس السوارى الجوال القى القبض على زوجها الشيخ ود ابراهيم مع مجموعة كبيرة من رجاله واقتادههم الى سجن البندر الكبير لأنهم كسروا قانون المناطق المقفولة . لقد تحدوا القانون ودخلوا الجنوب . رفض الشيخ ان يطلب اذنا من مفتش المركز الانجليزى. لا يريد أن يطلب اذنا من غريب ليدخل جزءا من بلاده . اهتاجت بت على وغضبت غضبا شديدا . واعلنت على رؤوس الاشهاد انها ذاهبة للتو الى مدينة البندر “عشان تكسر القانون قدام عين المفتش . قالوا كسرت بت على العادة فى البوادى عموم قبل ان تكسر قانون المناطق المقفولة . سافرت فى الصبح الباكر من يوم الربوع الذى لا يسافر فيه الناس فى البوادى عموم يتشاءمون من السفر فى يوم الربوع. لم يسألوا انفسهم عن سر تلك العادة ، ولا عن اصلها او فصلها . لقد وجدوا اباءهم هكذا يفعلون ، فساروا على ما سار عليه آباؤهم الاولون. صار الامر عندهم عادة لا يقدرون على تركها . جمعت بت على اغراضها فى صرة صغيرة و اعتلت ظهر جملها بقفذة رشيقة. وارخت له القياد والأعنة. لكعته باتجاه مدينة البندر، حيث السجن الكبير الذى يركم فيه المفتش المجرمين من كل الاصناف . الذى يسرق دجاجة تجده فيه . الذى يكسر دكانا تجده فيه . الذى يسرق جملا او شاة تجده فيه ، الذى يذبح خروفا او شخصا تجده فيه . الذى يكسر الحدود وقانون المناطق المقفولة تجده فيه . يختلط فيه الحابل بالنابل . ويتعب الزائر اليه قبل ان يجد الشخص الذى جاء لزيارته. نصح كل الحاضرين بت على بأن لا تسافر فى يوم الربوع. قالوا لها ان السفر فى يوم الربوع ليس فيه فأل حسن . لم تلق بت على بالا لهذه النصائح . و قالت كل الايام هى ايام الله. ومضت فى شأنها تكسر العادة الموروثة . وتكسر خاطرالذين نبهوها ليوم الربوع. قالت لهم هدفها هو كسر قانون المناطق المقفولة. وليس كسر عادات البوادى عموم .أو كسر خاطرهم . فى طريقها الى البندر كانت نفسها تمور بالغضب الشديد . حدثت نفسها بعزم : "مداينة ربى ، ومعاهداه ، اسمّع المفتش الظالم كلاما لا ينساه عقب ما عاش فوق ضهر الدنيا . واحد ملقوط من آخر الدنيا ، بلا اصل او فصل ، يقبض ود ابراهيم شيخ التكية أم بوخ ، و مدرج العاطلة ام كراعا دم
على.مكبر الصوت اخرجه من هواتف نفسه . و من حكايات سفر أمه بت بت على. نادى على اسمه تحديدا . ودعاه الى الحضور الى مكتب الجوازات والهجرة . خفق قلبه بقوة. اخذ يصعد الدرج بسرعة نحو مكتب الجوازات والهجرة، يتحسس مواقع قدميه ، يتثبت منها ، لا يكاد ينظر الى اعلى . وهو يسأل نفسه كيف يتصرف اذا اخبروه بالغاء سفره هذا. طرد ذلك الخاطر. وحدث نفسه بأن النصيب مكتوب ومقسوم منذ الازل. واذا لديه قسمة فى ذلك البلد البعيد ، فسوف يصل اليه وينالها . الزارعها الله تقوم فوق ضهر الحجر. وجد ان الامر ابسط من هذه الهواجس . يريدون ان يستوضحوه من عنوانه فى البوادى عموم. ضحك ساخرا . قال لهم البوادى عموم ما فيها عنوان او عناوين. اصلها خلا فى خلا. سكت مكبرالصوت عن دعوة المسافرين على طيران عبر المحيط لاكمال اجراءات سفرهم. خامره احساس بالتيه لأول مرة . سكوت مكبر الصوت عن النبيح يعنى ان الجميع قد اكملوا اجراءات سفرهم ولم يبق غيره . لقد دنت الساعة اذن اخذ يسأل نفسه اسئلة مقلقة : كيف يقطع كل تلك البحور والمحيطات التى سمع عنها وهو بلا رفيق او انيس . اخذته رعشة مفاجئة. هب أنه مرض فجاة مثل مرض جابر الاخضر فى سوق البندر الكبير فى الخريف الماضى . لم يعرف احد فى المستشفى اسمه. او جهته التى قدم منها .و لا الجهة التى كان يقصدها. كان مكتوما ولا يستطيع الحديث. البوليس دون فى خانة الاسم "مجهول". وكتب الدكتور على واجهة سريره "مجهول". اذا حدث له هذا الشئ. كيف تعرف البوادى عموم. طرد هذا الخاطر المخيف من وجدانه . نظر فى الافق البعيد . اطال النظر. ما زالت السماء متجهمة وراعدة ومكتظة بالسحب الداكنة. عاد الى حكايات البوادى عموم عن بطولة امه بت على مع مفتش الانجليز. قالوا اناخت جملها فى واجهة مكتبه . وجاءتها حالة من الخوف و الهستيريا العنيفة من ظلام المكان وخلوه من الحركة فاخذت تصرخ باعلى صوتها تنادى مفتش المرك:امرق على جاى كان راجل وود راجل. الحين تعرفنى . انا بت بعلى”زوجة الشيخ ود ابراهيم ، عاوزة معاك مجلس نضم ومفاكرة ، عشان اوريك اصلك وفصلك ، ياعديم الاصل والفصل “ ولكن احدا من الناس لم يخرج اليها. لا المفتش ، ولا واحدا من رجاله . جاء فى خاطرها انهم جميعا قد خافوا منها وتهيبوا لقاءها. لقد خافوا جميعا من فارسة البوادى عموم . هذا هو التفسير الوحيد لعدم خروج المفتش اليها . لقد اختفى كما يختفى الضب فى الجحور. واندس كما تندس الجرزان فى شقوق الارض . لا خبر لا اثر. حتى الموظفين غادروا المكان . جملها الهباب جثم على الارض امام مكتب المفتش ، يلوك علفه فى استرخاء . يكسر الجرة ويلوكها مرات ومرات كما تفعل الجمال بعد السفر الطويل. لا احد يظهر فى المكان . اندهشت لهذا الأمر . كيف يخلو المكان من الحركة بهذا الشكل . مكتب مفتش الانجليز لا يحرسه احد وقد اقبل الليل . فجأة التفتت فرأت ديدبان الليل بزيه الاسود الذى زاد المكان رهبة . تحدث معها الديدبان بجلافة شديدة . سألها عن اسمها ، و لماذا هى موجودة امام مكتب المفتش فى هذا الوقت المتأخر. ارتعبت وتلعثمت ، وضاع منها الكلام . ضاعت فصاحتها وتبومت . قالت انها جاءت تطلب من المفتش ان يطلق سراح زوجها الشيخ ود ابراهيم . سألها من هو ود ابراهيم . استغربت ان لا يعرف احد من الناس من هو ود ابراهيم. استدرك الرجل واخبرها بأن زوجها قد اطلق سرا حه منذ صباح الامس الباكر. فرحت بت على واطلقت زغرودة عالية تردد صداها فى المكان الخالى. وهمست تحدث نفسها :
- خاف الجبان من المواجهة. من زمان قلت للناس فى البوادى عموم مفتش الانجليز ده راجل فاوة ساكت . جمل طين ساكت . وزويلا هوين ساكت لكنهم ما سمعوا كلامى . شايفين القنطور ظنوه جبل . لكن القنطور اصله تراب كان طال كان قصر. اصله تراب . وراجع للارض
عندما وصلت بت على الى ديارها فى البوادى عموم اطلقت لخيالاتها الثرة العنان و نسجت قصصا طريفة عن بطولاتها مع ديدبان الليل. اما مفتش الانجليز فقد نجا بجلده منها وفضل الاختباء وعدم الخروج لمواجهتها. لم تحك عن ارتعابها وانهيارها امام ديدبان الليل. خلقت من خوفها وارتعابها بطوله جديدة . صدقت البوادى عموم قصصها وتخيلاتها الجديدة واضاف لها السامعون تزويقات جديدة من البطولات. ما زال مستغرقا فى اساطير البوادى. وفى قصص أمه بت على وسفرها الى مدينة البندر ، يتناسى بها سفره الوشيك . هل يضيف سفره هو الآخر اساطير جديدة تحكى غدا فى البوادى عموم. التى لا تستطيع العيش بلا اساطير تحكى دائما وفى كل حين . هل يضيف سفره هذا اساطير تفوق اساطير سفر أمه بت على . هل تتلاحق الكتوف فى المجد والشرف فى البوادى عموم . هل تلوك الالسن فى البوادى عموم سيرته هو الآخر كما لاكت سيرة أمه بت على . نادى مكبر الصوت على اسمه للمرة الثانية ، ودعاه الى الحضور شخصيا الى مكتب الاستقبال قبل التوجه نحو البوابة ثلاثين. ماذا يريدون منه هذه المرة . وما سبب هذه المداورات التى لا تنتهى .كأنهم يبحثون عن سبب لالعاء سفره هذا . ولكن عليهم ان يعلموا ان كل شئ يهون الا الغاء سفره هذا . استكان لظنونه فجأة : هل غيّر أهل البلد البعيد رأيهم ، وسحبوا منه تاشيرة الدخول. لقد سمع انهم لا يستقبلون فى بلدهم المجرمين من اى درجة وصنف . ولا يستقبلون الفقراء المنقطعين . انه ليس مجرما بأى درجة من الدرجات . و ليس فقيرا منقطعا لاحد من الناس. انه كان قادرا على الكسب واطعام نفسه من عرق جبينه . وما زال قادرا . فى البوادى عموم ما زالت نيران الليل توجوج فى دار ابيه الشيخ ، ترشد القادمين المدلجين اليها. وما زال القرى يقدم فى بيت ابيه للطارقين فى كل الاوقات . طرد من مخيلته هذه الانواع من الهواجس والظنون . انه لا يتذكر جرما كبيرا او صغيرا اتاه فى اى مرحلة من مراحل حياته الا بعض اللمم. مثل الرسالة التى ارسلها الى متعهد غذاءات داخلية مدرسة الاساس عندما كان طالبا فيها ، يحتج فيها على سؤ الطعام الذى يقدمه المتعهد للطلاب . كان بدويا صغيرا جلف الطباع. يتصرف بعفوية اهله فى البوادى عموم ، الذين لا يستطيعون ان يستبطنوا غير ما يبدون. كل شئ عندهم كتاب مفتوح . يقولون للاعور انه اعور فى ام عينيه. ويعفصون من يتعدى حدوده فى اخمص قدميه . لا كبير عندهم غيرالله والجبال الراسيات ، ونوقهم البيض . تصرفه مع متعهد الغذاءات كان ترجمانا لخلفيته البدوية هذه كان تصرفا غريبا من طالب صغير السن قادم لتوه من البوادى عموم ، وفى أمر لا شأن له فيه . فى البيئة التى نشأ فيها لا ينشغل الناس بما يملأوون به بطونهم من الأطعمة . انهم يأكلون ما يجدون ويحمدون الله انهم يجدون ما يأكلون. يعيبون على انفسهم ان ينشغلوا بمثل هذه الصغائر. استاذه هارون غضب منه غضبا شديدا. وجلده جلدا مبرحا يوازى لغة خطابه الجلف الى رجل فى سن والده . انحفرت تلك الواقعة فى ذاكرته بقسوة ما ثلت قسوة العقاب الذى انزله به استاذ هارون. بقاء تلك الواقعة فى ذاكرته حتى الآن شكل عقابا اضافيا على العقاب الذى انزله به استاذ هارون. ظل يتذكر تلك الواقعة ويتألم منها ويستغرب لها. وينقبض منها صدره كلما تذكرها. يقولون الكبر عبر . ولكنه لم يعتبر، لقد اوقع نفسه فى واقعة اخرى وهو طالب فى مرحلة الدراسة الاعدادية. أحد الاساتذة المتطرفين دينيا حرض الطلاب على الخروج فى مظاهرة ضد ناظر المدرسة. فتولى هو مع مجموعة من اصحابة التلاميذ قيادة المظاهرة فى سوق المدينة الكبير . فى اليوم التالى كان على رأس قائمة المجلودين فى طابور الصباح العام . لم يتعظ من الواقعتين . واحدث واقعة ثالثة. كانت الحادثة هذه المرة فى مرحلة الدراسة الثانوية العليا . حدث ذلك عندما خرجت المدرسة عن بكرة ابيها فى مظاهرة صاخبة ضد الانقلاب العسكرى. اخذ نصيبه من الجلد القاسى للمرة الثالثة. ولكنه كان نصيبا زائدا عن الحد باعتباره واحدا من المجموعة التى قادت المظاهرة . جلده استاذ عوض، مدرس مادة التاريخ، عشرين جلدة من النوع الشديد. كان استاذ عوض رجللا صارما فوق العادة ، ويندر ان يرى وهو متلبس بحالة من الابتسام والانبساط . فى المرات القليلة التى تطفر من قسماته ابتسامة تائهة يتذكر الطلاب بيت الشعر المشهور
اذارأيت انياب الليث بارزة فلا تظنن ان الليث يبتسم
يوم الجلد الجماعى الكبير كان كل طالب يتمنى ان يجلده "عم يوسف" صول التدريب العسكرى الودود. لسؤ حظه الشخصى كان تنفيذ عقوبة الجلد عليه من نصيب استاذ عوض ، الذى جلده جلدا قاسيا كأنه يقتص منه ثأرا قديما . لم يتعظ حتى بعد ان اصبح موظفا فى الميرى يشار اليه . صديقه بالبنان . لقد ارتكب هذه المرة جرما استثنائيا على لغة صديقه المتفلسف ود العوض ، تتعدى عقوبته عقوبات الجلد المدرسى . اول وظيفة شغلها بعد اكمال دراسته الجامعية كانت فى السلك الدبلوماسى . وظيفة حساسة فى مجال حساس ، يتحدث فيه الانسان بحذر شديد . يحسبون عدد كلماتهم قبل أن ينطقوا بها و يتحسبون من وقعها فى آذان السامعين . يحذرون اعطاء احكاما قطعية . لا يقولون - مثلا- هذه لوحة سوداء . ولكن يقولون هذه اللوحة تبدو سوداء .دائما يتركون مجالا للانسحاب المتماسك متى ذهبت المواقف فى الاتجاه غير المرغوب. نسى كل هذه المحاذير الوقائية . وكتب مقالا فى احدى الصحف تناول فيه شانا ليس من اختصاصه . ولا يمت لوظيفته بصلة . ويتهم فيه نقابة المحامين بتعطيل العدالة فى البلاد . جرجرته نقابة المحامين فى ساحات القضاء . واوقفته خلف القضبان متهما بارتكاب جريمة اشانة السمعة. كان ذلك الكلام اكبر من وعيه وعمره الصحفى . عاتب نفسه فى سره وهو يقف فى داخل قفص الاتهام: كيف سمح لنفسه ان يقع فى جريمة كهذه . الم يكف جلده التخين ما تلقى من سيطان الجلد والاهانات اثناء عمره الدراسى .كيف يقوم بعمل متهور مثل هذا . كيف لم يخطر بباله ان نقابة المحامين سوف تتقدم ضده بمثل هذه الشكوى. كيف تجرأ أن يتهم نقابة وظيفتها الاساسية هى تجيير العدالة للناس وتسهيل حصولهم عليها ، ان يتهمها بتعطيل العدالة. فوق انه ليس دارسا للقانون وليس ملما بأسس العدالة بما يكفى .انه تصرف اهوج لو علمت به نقابة المحامين فى ذلك البلد البعيد لاقامت عليه حد الحرابة. و لاقنعت ادارة الهجرة بأن ترفض دخول هذا المخلوق الكيشة الذى لا يعرف صرفا ولا عدلا فى الكياسة العامة . عمه حاج احمد يقول ان المحامين ناس متلقين حجج . واحسن خدمة يقدمها الانسان الى نفسه هى ان يبعد بها عن دوائر المحامين. عندما سمع عمه حاج احمد بحكايته مع نقابة المحامين تشهد وتحسبن وقال ان هذا الولد شقى حال ليس إلا. كان غريبا ان يدرك عمه حاج احمد هذه الامور ولا يدركها هو رغم السنين الكثيرة التى قضاها فى مدرجات الدراسة . هل صدق المثل الشعبى القائل القلم لا يزيل بلم. اهلك عمره فى الدراسة والتحصيل . ومع مذلك لم يصل درجة عمه حاج احمد ، البدوى الامى ، فى التقدير السليم. فى قفص الاتهام بدا منشرح الصدر . كان يتبسم فى وجوه الحاضرين من المحامين والقضاة والموظفين. شعر باهمية خاصة وهو يشاهد المحامين بازيائهم الزاهية وهم يتحلقون حوله و يتحدثون للقاضى بخصوصه . ظنّ أن تداول اسمه فى هذا المحفل الهام يخلق له شأنا و بطولة مثل بطولات امه بت على فى البوادى عموم. حدث نفسه بزهو بأن بت على لن تكون هى الوحيدة القادرة على خلق الاساطير والحكايات فى البوادى عموم بعد الآن. رئيس التحرير كان منزعجا وقد وجد نفسه *شريكا فى جريمة لم يرتكبها ولم تخطر على باله.و قد تكلفه غرامة مالية تقضى على تحويشة العمر . اما هو فلم يكن لديه ما يفقده . هذا هو شهره الاول فى الوظيفة . وحتى يوم مثوله امام القاضى لم يتسلم مرتبه الأول الذى لن يكفى لتسديد رسوم فتح القضية لدى المحكمة. بدا غير مهتم بالفيلم من اساسه . فالريح لن تاخذ شيئا من البلاط . خرج من منلوجه الداخلى . ما زال يقف عند مكتب الاستقبال ينتظر استلام بطاقة الصعود الى الطائرة ليلحق برتل المغادرين على سفرية طيران عبر المحيط . نسى حكايات البوادى عموم . و حكاية سفر أمه بت على الى مدينة البندر ، وانشغل بحكاية سفره الوشيك. لحظات ويغادر بلد البوادى عموم و الديار التى فتح عليها عيونه ذات فجر راعف بالمطر الهتون والانواء والرعود. هل اخذ من ذلك الفجر الصاخب كل هذا الهدير الذى يموج فى صدره و يكاد يهد بنيانه النحيل كلما صادف فى طريقه مطبات واكدارا . عوى مكبر الصوت للمرة الاخيرة يرشد المغادرين الى بوابة الصعود رقم ثلاثين .
عند سلم الطائرة حدقت المضيفة الشقراء الفارهة فى اوراقه الثبوتية . سألته من أى جهة هو قادم . واى جهة يقصد . قال أنه آت من جهة البوادى عموم من فى بلاد الشمس المشرقة. تحديدا ، من المدينة التى قدمت للناس طرفة الموت بانعدام الاوكسجين. حين تهاوى الناس وتساقطوا موتى كما تتهاوى الفئران و تسقط ميتة بانعدام الاوكسجين. قادم من مدينة جودة . تاركا خلفه لفيفا من البشر وهم نصف أحياء ، يتعاركون مع الشقاء من الصباح و حتى المساء. وتكون حصيلة يومهم عند المساء هى حصيلة المنبت الذى لا ارضا قطع ولا ظهرا ابقى فى بلد زاخر بالخيرات المستبطنة والظاهرة ،و ممتد مثل التاريخ التياه. ولكن حظوظه ليست زاخرة. الناس فيه ثرثارون. يثرثرون فى الكورة وفى السياسة بشره يثير الشفقة والغثيان .و مكسبهم فى الاثنين صفر كبير. يلوكون فقرهم السرمدى .و يقتاتون صبرهم وكسلهم الصاعق . أجبرهم فقرهم على الفرار من وطنهم فى كل الاتجاهات. بعضهم وصل تسمانيا على اطراف المعمورة . آخرون دشوا فى جبال الجليد فى الاسكيمو. ضاعت منهم عناوين الميلاد فى الوطن الكبير . شالهم الدوار. واصبح بلد الأم فى ذاكرتهم اغنية قديمة يتعزون بها . او قصائد شعر تدوّن محنة الضياع فى الدياسبورا الجغرافية . تركوا وراءهم دنياوات الشموس المشرقة التى أعطتهم سحناتهم المميزة . وطبعت على قسماتهم تكشيرة عابسة لا تفار محياهم ابدا . و تبقت معهم بعض التفاصيل الصغيرة ، اغنيات للصبر والأمل والرجاء .
وسطور متلاشية من خطابات قديمة " سلم على الأهل . ولا تقطع الاخبار" . يفتقدون الالفة التى نشأوا عليها، ويشغلهم التفكير فى العودة الى ديار العشيرة ، دثار الحياة الباقى.
تبسمت المضيفة فى وجهه بحنية . و تمنت أن تراه مرة اخرى فى رحلة من رحلات خطوط عبر المحيط. تبسم لها صامتا . حدث نفسه أنه اصبح رقما جديدا فى كشوفات التائهين فى البريات الواسعة التى خلقها الشموليون فى مظان الشعوب . لا باس فى أن يصبح شخصا موجودا فى السجلات الموثوقة ، التى يحتفظ بها منسوبو هيئات الاغاثة الدولية يتقعرون فى الحديث عنها فى القنوات الفضائية.
اجال نظره فى الطائر الفحيم ، استوقف احدى المضيفات وطلب جرعة ماء من سلسبيل النيل. تمنى فى سره أن لا تكون السقيا الاخيرة. انداحت الى ذاكرته اغنية الشجن الاشهر فى الوجدان الفنى الشعبى فى بلاده “ ماهو عارف قدمه المفارق “. صوت المضيفة الدافئ يبلغه تحية من طيران عبر المحيط و تمنيات الكابتن برحلة سعيدة قبل أن تصله جرعة ماء النيل التى طلبها . زفر زفرة قصيرة ، وهمس يحدث نفسه : الكل يبدو مسافرا او راغبا فى السفر.وطيران الدنيا كله يحرض الناس على السفر. لماذا تأكل البوادى عموم احشاءها تاسيا من سفره هذا . هل ترقد البوادى عموم على سر خطير رأته فى منامها. إنه لم يقل انه لن يعود حتى تثور ظنونها . حماد العود سافر ولم يعد حتى الآن.هل تخيفهم واقعة حمّاد العود . ولكن حجة حمّاد العود ما زالت معه . فهو انسان غائب. وقد تعارف الناس منذ الازل على ان حجة الغائب معه. قد يعود حمّاد العود غدا بكنوز الدنيا و بقصص وحكايات تكون ارثا و للبوادى عموم تضاهى قصص وحكايات امونة بت على ، تعمر بها مجالس انسها التى لاتنفض .و قد يعرس حامد العود عرسا فخيما ، اعظم من عرس حامد الخمجان ، الذى شغل البوادى عموم، واحتكر انسها لوقت طويل .و ما زال العرس البرنجى فى البوادى عموم الذى تسير بذكره الركبان . اجال نظره فى اركان الطائرة القصر مرة اخرى . اثارت ضخامتها غير العادية انتباهه .حلة تتحرك ببطء قاتل قبل أن تقفذ الى جوف السماء . داهمه خاطر غلاب . لماذا تعلقت به عشيرته فى البوادى عموم بهذه الحميمية الغريبة هذه المرة ورفضت سفره هذا. هل رأى احد الاخيار العابدين فى البوادى رؤيا تنذر بشؤم هذا السفر. شقّت عليه الأسئلة واستعصمت الاجابة . ساورته هذه الشكوك الجديدة لبعض الوقت. ولكنه غالب شكوكه الطارئة وطردها من وجدانه . ترك هذه الاسئلة جانبا . ليس هناك جديدا يقال فى كثرة اسفاره .لقد امتهن الاسفار و تعلق بها منذ فجر صباه . الم يبدأ مشواره الى عوالم البندر بتلك السفرة الفريدة فى ذلك الصباح الساخن ، صباح الجمعة بالتحديد.اخذ يستعيد مشاهد تلك الرحلة الاولى فى حياته خارج حدود البوادى عموم . يتذكر تفاصيل سفره الاول مع والده الشيخ الى مدرسة البندر البعيد .تذكر المشاهد الدرامية قبل بداية تلك الرحلة . تذكر دموع والدته ورجاءاتها لوالده الشيخ . رسخت فى ذاكرته حوارات الزوجين العميق حول جدوى ذلك المشروع الذى نمى وترعرع فى عقل ووجدان الشيخ الآمر الناهى منذ اليوم الذى أدخله فيه مفتش الانجليز السجن العومى وجعله ينقل جرادل المياه على كتفه الى منازل الموظفين عقابا له على كسر قانون المناطق المقفولة وهو شيخ الادارة الاهلية الحفيظ على لك القانون ذلك القانون . أم حزينة على فراق ابنها الصغير لإقتناعها أن والده يجدعه فى عوالم غريبة عليه . وبعيدة عن دياره التى نشأ وترعرع فيها. وتختلف عنها فى كل شئ. وشيخ آمر ناه ، اذا قرر امرا ، فلا راد لقراره غير المولى عزّ وجلّ . فى ذلك الصبح الباكر استطال النقاش العميق بين الزوجين . قالت الأم الحزينة من بين دموعها
* البندر بعيد على الفنجرى ، وصغير الفنجرى على الغربة فى البندر - باكر يتيه الفنجرى فى الحوارى البعيدة ويضيع. البوادى عموم تقول علينا مجانين .
* عمرها البوادى عموم تقول . لا تعرف غير النضم المقدود .-
* - فى المرة دى نضمها صحيح . استمر انت فى كتال المفتش ، وخلى -الفنجرى يكبر فى البوادى عموم ،و يكاتل محل يعرف الكتال . ويبقى ركيزة للمائل . ويسف التراب فى عيون اعداء البوادى عموم.
* عاوز الفنجرى يتعلم . ويعرف يكاتل بالقلم يأمونة.-
* ياتو كتال : افندية القلم لا بعرفوا كتال . ولا بقدروا على الكتال. البوادى- عموم يحميها الرصاص . لا تحميها الاقلام .
* لكن خالك الزعيم خيره فائض جبخانة و رصاص . عمرى ما شفت ليه- حمية ، و لا كتال بالرصاص . لا ضد مفتش الانجليز . لا ضد مركز الانجليز. ابدا ما شفت ليه كتال يأمونة .
* اكان خالى ما جاب نصر بالرصاص ، يطول صبرك لمن الفنجرى يجيب ليك نصر بالاقلام . خايفاه يشيل مسور البندر ويطلع ليك افندى اقلام يتماص متل فص الملح فى الموية الحارة. احسن تخليه يطلع فارس بوادى يغيث الملهوف ، ويدرج العاطلة ام كراعا دم زى مسور ابوه الشيخ . البندر مليان افندية واقلام . والمفتش يتضرع فيه ليل ونهار، بريان وتريان ، ينوم عافيه ، ويقوم مس.
* بطلى النضم يأمونة . وقومى جهزى لكرامة الفنجرى . قلت الفنجرى صار اول تلميذ من البوادى عموم يدخل مدرسة البندر. باكر يقد عين الشيطان و يسوى سمعة فى البوادى عموم.
لم ينته النقاش ، حتى بعد ان قال شيخ القبيلة القادرة الكلمة الاخيرة.
- 2-
كان يستمع للنقاش العميق بين والديه فى ذلك الصباح فى صمت غريب . لم يلم بكل اطراف الحكاية الوشيكة . ولكنه عرف انه مقبل على سفرطويل الى مدرسة البندر لتلقى العلم فيها. نقاش والديه لم يستوعب منه الشئ الكثير بقدر ما اهمته دموع والدته وضراعاتها لوالده الشيخ وهو لا يستجيب.ا .
تذكر تعليق والده الشيخ يوم صدر عليه قرار المفتش بالسجن عقابا له على عبوره الحدود ، ودخول المناطق المقفولة بدون تصريح : " ملفوف الرسن على الرقاب ، والرقاب المرسونة تنقاد لو قبلت او رفضت القياد . قد يكون قرار ادخاله فى مدرسة البندر قد اختمر فى وجدان والده الشيخ لحظة صدور قرار الادانة والسجن ضده بناءا على احكام مواد قانون المناطق المقفولة. تذكر عدم استسلام والدته لقرار زوجها الشيخ. وذهابها الى الشيخ ود حسن، صديق زوجها الحميم ، تستجديه ان ينجدها ، وينقذ ابنها الصغير من السفر الى مدرسة البندر . قالت لود حسن من بين دموعها المنهمرة:
* البندر بعيد ياود حسن . لا فوانيسه قريبة تنشاف ، ولا نيرانه تهدى النظر. -بعيد البندر ياود حسن ، وبعيدة احلام الشيخ .
كان ودحسن من الشخصيات البدوية القليلة التى اتاحت لنفسها قدرا من المعرفة العامة لكثرة تردده على الفقهاء وشيوخ الدين الذين كانوا يجوبون البوادى عموم . بهذه الخلفية كان ود حسن اقرب الى نوازع الشيخ ود ابراهيم لجهة حماسه للعلم وتقديره للمتعلمين.
ويستجيب ودحسن لرجاءات امونة بت على. ويذهب الى دار صديقه الشيخ ود ابراهيم . ويجده منهمكا فى تجهيز الفنجرى للسفر. ويدور حوار هادئ وعميق بين الصديقين:
* انا قولى متل قولك فى التعليم : نور فى القلب. وفى العين. لكن قول البوادى عموم فى التعليم والمتعلمين شين . يقولون المدارس تعلم الاولاد الجفا ، وقلة الادب على الكبير والصغير . وكمان تسوى فيهم نواقص. قول شين. كان صح ، كان كضب ، قول شين.
* البوادى عمرها لا تعرف غير النضم الشين . تتكلم كلاما شين عن المدارس والمتعلمين . وهى لا دخلت مدارس . ولا عاشرت متعلمين.من وين جابت الكلام الشين عن المدارس و عن المتعلمين.
* من الفكى صالح .
*صاقعة تفك نافوخ الفكى صالح . تانى ما عاوز اسمع منك سيرة الراجل الدجال ده . التعليم عدو الدجالين من عينة الفكى صالح. الحكاية انتهت ياود حسن. الفنجرى صار اول تلميذ بدوى فى مدرسة البندر. باكر يتم التعليم ويكسر مسور الحقارة بالقلم.
* يتم مراد المولى ولو كره الكافرون .
* وين لقيت الكلام الجميل ده ياود حسن؟
* عند الفكى صالح .
* سبحان الله ، حتى الدجال مرات يعرف يقول كلام جميل.
عاد الى ذلك الماضى البعيد واستغرق فيه . استدعى مشاهد رحلته الاولى خارج حدود البوادى عموم. يستذكر مشاهدها الحميمة، و قد صار على بعد لحظات من سفر طويل لا يدرى ان كان قدمه المفارق سيعود الى البوادى عموم .ولكنه يدرى انه سفر اطول من كل اسفاره السابقة . يؤرقه هذا المصير المجهول. ويعيده الى الاستغراق و التأمل الطويل. يحدق من خلال النافذ والطاائرة القصر تتحرك ببطء. تتلاشى الصور والمشاهد من ناظريه قليلا قليلا .ولكن مشاهد رحلته الاولى الى مدرسة البندر تبقى فى ناظريه ولا تتلاشى. وتبقى معها حقائق نشأته فى البوادى عموم التى يفارقها بعد لحظات فى سفر مجهول العواقب. كانت البوادى عموم تناديه باللقب الذى اطلقته عليه والدته "أمونة بت على" منذ الصغر. صار ذلك اللقب بديلا لاسمه الحقيقى الذى لم يعد يناديه به احد من عشيرته الاقربين . كان شابا طويلا ونحيفا وابيض البشرة. و كان يجيد الرقص البدوى بصورة جاذبة . ورغم نحافته كان يفوز على اقرانه فى منافسات السباق والمصارعة . قالوا ان الفكى صالح حدق فى قسماته ذات يوم . وقال ان هذا الفتى سيعيش حياة مختلفة عن حياة اهله فى البوادى عموم. وقالوا ان الشيخ ود ابراهيم انتهر الفكى صالح وامره أن لا يتنبأ بالغيب . قالوا سكت الفكى صالح . ونسيت البوادى عموم تلك النبؤة . بعض المشاهد والصور من رحلته الاولى الى البندر مع والده الشيخ تماهت امام ناظريه وزحمت جوانحه لحظة استعداد الطائرة القصر للاقلاع *.صورة جملهما الهباب ينقر بهما الارض فى خفة وسرعة فائقة باتجاه مدينة القيقر، مقر مدرسة البندر ، عادت الى مخيلته حية كأنها حدثت البارحة . كان الهباب يزيد من سرعته كلما انتهره الشيخ باتجاه البندر ، يلملم المسافات ، ويطويها ،و يسابق الريح . من حين لآخر كانا يمران على فريق من الفرقان البدوية. او يلتقيان بعض مجموعات الصيد والرعى البدوية فى بطن هذا الوادى . او فى طرف ذاك الوادى . او يتوقفان عند بعض الزرائب الرعوية بدعوة من رعاتها لتقديم واجب الضيافة والقرى لهما . وكانا يقبلان الدعوة . ويترجلان من ظهرالهباب و يستريحان قليلا من وعثاء السفر الطويل القاصد. يتعارف البدويون عندما يلتقون فى فلواتهم الخلوية على اتساعها. ويشرعون فى انس حميم . يسأل كل واحد منهم الآخر عن حاله واحواله بحميمية متاصلة بطبيعة الحال فى الوجدان البدوى فى البوادى عموم .و تطول الرحلة والمسافة بالمسافرين الوحيدين قبل ان يتوقفا عند احد مناهل المياه . وتفد عليهما قافلة بدوية تريد التزود بالماء.و يتعرف البدويون على بعضهم البعض . ويدور بينهم انس هفيف :
* وين قاصد ياود ابراهيم بالفنجرى .
* قاصد بيه مدرسة البندر .
* ان شاء الله ناجح وفايد .
* يخلص التعليم ويبقى لينا حكيم بهايم.
* لا ، يبقى لينا حكيم ناس . البهايم دى حتتبعنا الى يوم القيامة الاحمر.
* خلاص ، يبقى مفتش مركز ود بلد متعلم. يكتب متل الانجليز. من الشمال الى اليمين.
* القسمة مكتوبة فى كتاب الله .
وتمتد الرحلة والمسافة بالمسافرين المنفردين . لاحظ الشيخ صمت الفنجرى الطويل ، و مسحة الكآبة التى رانت على محياه الدقيق. اراد ان يخرجه من صمته و همه :
* باكر تتم تعليمك وتبقى اهم زول فى البوادى عموم : يقيف ليك الزعيم ، وبشرى كاتب الزعيم يضرب ليك سلام تعظيم . وتغنى ليك الحكامات فى البوادى عموم.
* لكن يأبوى، امى ليش تبكى شديد .
* عشان الجهلاء قالوا ليها الفنجرى ما برجع تانى للبوادى عموم.
* لا . . . انا راجع يوم الجمعة ، عشان احضر عرس مريم السمحة . كل القراية اكملها يوم الخميس عشان احضر البوش فى يوم الجمعة .
* لا . . . انت خلص القراية على مهلك. وبعد ما تخلص القراية انا اعرس ليك عرس اكبر من عرس حامد الخمجان على مريم السمحة. واعمل ليك بوش يبقى ذكرى ومسور فى البوادى عموم.
* س.س سمح يأبوى.
دخل الهباب البندر براكبيه قبل دخول مساء اليوم الثانى من الرحلة الطويلة الشاقة . حالة من الهرج والمرج تجتاح المدينة . هتافات هنا وهناك . وحناجر مبحوحة تشدخ هدؤ الامكنة : *صوتوا للسيد عبد النبى عبد القادر مرسال ، مرشح الحزب الوطنى الاتحادى ، من أجل وحدة وادى النيل.
* صوتوا للسيد فضل محمد على ، مرشح حزب الأمة ، من أجل استقلال السودان التام"
* صوتوا لمرشح الجبهة المعادية للاستعمار و الرجعية واذناب الاستعمار" .
تساءل الشيخ فى سره : ماذا دها بندر القوم . انها المرة الاولى التى يشاهد فيها البندر وهو فى مثل هذه الحالة من الهياج. ويسمع كلاما لم يستطع أن يستوعبه بالكامل . حدث الشيخ نفسه بأن اهل البندر ما عندهم مشكلة مع مفتش الانحليز. والانسان الماعندو مشكلة مع المفتش يكون ما عنده سبب للزعل والكواريك . لماذا هذا الهياج الشديد فى مدينة البندر. لماذا يعوى الناس هكذا . لماذا يصرخون فى وجوه بعضهم البعض هكذا. استوقف الشيخ احد المارة وسأله ؛
* ياحضرة الأخو ، مسؤول من الخير : مالو البندر عامل كواريك وصياح.
* عشان خايف من جملك ده .
* آى ، نعم . عارف ناس البندر خوافين . لكن الكواريك دى ما كواريك خوف من جمل . ظنيتك زولا فاهم ، عشان لابس نضيف . و تريان..
يتدخل متحدث آخر ، و يعتذر للشيخ ذى الهيئة الوقورة:
* فى الحقيقة ياشيخ العرب هذه مظاهرات احزاب. الانجليز طالعين من البلد . و الاستقلال صار قريب . هناك احزاب دايرة اتحاد مع مصر . واحزاب اخرى دايرة الاستقلال التام.
- وانت شن قولك يالاخو ؟
- انا مع الاتحاد . الاتحاد قوة.
:
- صحيح، الناس فى البندر نضمهم غير .
- وانت شن قولك ياشيخ العرب ؟
نحن فى البوادى عموم لا نفهم كلام الناس فى البندر .
تذكر تلك الواقعة العارضة والطائرة القصر ما زالت تتهادى فى المدرج الطويل . غامت الرؤيا امام ناظريه وهو ينظر من خلال نافذة الطائرة القصر . لم تبق على بداية الرحلة الطويلة الا بضع لحظات. عاد الى استغراقه فى ماضيه ،و يستدعى بقية المشاهد من رحلته الاولى خارج البوادى عموم. تذكر تفاصيل الحوار الطريف الآخر الذى دار بين والده الشيخ وبين اسرة مدرسة البندر.
* ياحضرة الناظر ، بدورك تقبل الفنجرى تلميذا عندك فى المدرسة . ليك اللحم ولى العضم . قول لى شروطك . و الفنجرى يقول بسم الله .
- ما عندنا غير الشروط العادية : الانتظام فى الدراسة والاجتهاد. والاخلاق الحميدة . والتعليم يتم بدون ضرب يا شيخ العرب .
- اسمى ود ابراهيم . البوادى عموم تنادينى بود ابراهيم . مفتش الانجليز سمانى شيخ الحرامية عشان كسرت قانون المناطق المقفولة و دخلت الجنوب بدون تصريح . كان عاوز تنادينى بود ابراهيم مافى مانع . كان عاوز تنادينى بشيخ الحرامية ما فى مانع .
وضج المكان بالضحك العالى من الاساتذة الذين انشرحت صدورهم لخفة دم الشيخ البدوى الذى يكاد يغيب فى هندامه البدوى الانيق .
وسأل الشيخ:
- ممكن اعرف اسم حضرة الناظر .
- اسمى احمد ابراهيم فضيل .
- علك تكون حفيد امير المهدية احمد ابراهيم فضيل .
- نعم.
- يابختك يالفنجرى. فراسة فى البوادى عموم .وفراسة فى البندر. ناظرك حفيد الامير احمد ابراهيم فضيل ، امير الحرب والمراسيل. وجدك اميرالبوادى ابوعسل. خليها البوادى عموم تنضم فى الفارغة و المقدودة . عارف حظك لا يخيب .
و يستعرض الناظر اسماء زملائه المدرسين للشيخ البدوى : داؤود عبد العزيز . حسن عثمان . هارون عثمان . حسين على .
- مشكورين كتير ، ياحضرات الاساتذة . جيتو من كل جهات البلد عشان تعلموا اولاد أهلكم فى الجنوب . المفتش راجل غشيم. وتعبان فى الفاضى .قلت ليهو الجنوب موش حوش ينقفل وينفتح باذن الانجليز . ودخلت الجنوب بدون تصريح. زعل منى المفتش. وختانى فى السجن. وكسر فى ايدى كلباش . ونقّلنى جرادل الموية فى ضهرى مهانة و تحقير امام البوادى عموم . باكر تكمل الايام . والمفتش يرحل . وتبقى المهانات دى حكايات للونسة فى البوادى عموم
انتهت مراسيم تسجيله فى مدرسة البندر فى ذلك الصبح الراعف بالمطر والرزاز. قدمه استاذه هارون عثمان لزملائه الصغار فى الفصل المكتظ عن آخره بالتلاميذ من كل السحنات .ما زال يتذكر اسماء واشكال بعضهم رغم طول السنين: آدم الخير ، المربوع القامة، الذى يضحك بلا لزوم ، واذا مشى تماهى ، ونظر شمالا و يمينا ، كأنه يحترس من عاديات الوجود. كان اول من افتعل معه صداما بلا مبرر. والده كان تاجرا كبيرا فى قرية القوز القريبة من مدينة القيقر ، ذلك الرجل الاخضر الطويل، الجميل ، الهاش الباش. الطيب رحمة ، مضحك الفصل الذى يجيد تمثيل المسرحيات الفكاهية ، فيضحك الجميع. حامد دراج ، ومحمد سعيد جوهر ، وهما يأتيان كل صباح من حلقة مقرة القريبة الى المدرسة زحفا بالاقدام ، تعبيرا عن قوة التصميم وقوة الارادة فى سبيل التعليم. ولكن الجعلى عبد الماجد سعيد كان يحضر الى المدرسة من حلة مقرة نفسها بعربة مشروع مقرة الزراعى لأن والده كا ناظرا لذلك المشروع . رغم صغر سنه كان يستغرب لماذا لا يحضر زميلاه حامد دراج و محمد سعيد جوهر فى نفس العربة مع زميله الجعلى عبد الماجد ، ابن ناظر المشروع طالما انهم جميعا يسكنون فى القرية نفسها . أكوج الجاك ، ابن عمدة قبيلة الدينكا ، ذلك الطالب الطويل مثل الصارية ، النحيف كأنه لا يأكل شيئان يحضرالى المدرسة ممتطيا ظهر حماره من حلتهم القريبة .نشأت بينه وبين اكوج صداقة متينة انطلاقا من صداقة والده مع الشيخ كاك كبير شيوخ قبيلة الدينكا. فالرجلان كانا من شيوخ الادارة الاهلية فى البوادى. ويتلازم شيوخ البوادى مع بعضهم البعض وهم يرعون شئون عشائرهم . وكان الابناء يأخذون من الآباء ذلك الارث الجميل. تذكر زملاءه احمد سلمان محى الدين ، رجب الجندى، رجب آدم باشر ، احمد محمد ، اسماعيل رجب، وآدم فايد : رعيل بقى فى القلب والذاكرة من مدرسة القيقر ، تغالب ذكراه الزمن القاهر فتغلبه.
اصبحت القيقر الصغيرة الانيقة هى عالمه الجديد الذى انتقل اليه من البوادى عموم . كانت أول مدن الجنوب التى يدخلها القادم من الشمال.و تقع داخل حدود محافظة النيل الاعلى التابعة لجنوب السودان . أنشاتها وعمرتها فى ثلاثينيات القرن الماضى مجموعة من التجار الشماليين والجنوبيين الذين توافدوا على المنطقة للمتاجرة فى خيراتها الزراعية والتجارية الوفيرة. بقت فى ذاكرته منهم حسن عمر الامين ، الكامل شبيكة، عبد القادر دينق ، التجانى حامد ،حاج سعيد ، حاج فضل، على سعيد . محمد محى الدين. عثمان شبيكة، السر عبد الرحمن ، الخواجة سويرس .
طرحت القيقر صدرها الناهد على ضفة النيل الابيض الشرقية. ومدت خصرها الناحل باتجاه الشرق. واحاطت نفسها بحقول القطن البهيجة .و اعتصرتها قنوات الرى الحديث من الجنوب و الشمال . واتكأت على صدرها جنائن حاج ابراهيم مالك الزاخرة بكل اصناف الفواكه . الاخضرار العام من حولها شكل لوحة زاهية تمتص البصر من بعيد . ازيز ماكينات الديزل الضخمة وهى تضخ المياه فى قنوات الرى الكبيرة يشنف مسامع الناس والامكنة . النهر الكسول الهادئ يتهادى يحمل الخير فى بلا من أو اذى . يفيض بلا مكر . لا يعربد ، فيسبب دمارا من حوله . و لكنه يتجمل ويرفد الساجين على ضفافه بالخير العميم.
تراصت المرافق الحكومية الحديثة عند مدخل القيقر الشمالى. و شكلت لوحة بيضاء تمتص البصر من مكان بعيد : مدارس البنين والبنات المتجاورة ، مركز الشرطة الحديث ، الشفخانة الطبية ، منازل هيئة التدريس من الجنسين، مكاتب البريد والبرق . يتذكر كيف كانت المدينة الصغيرة تتكدس حول مكاتب معاون الادارة ، التى كانت بمثابة مجلس بلدى صغير لتقديم الخدمات للمواطنين . تدثرت هذه المرافق الحكومية باشجار النيم العالية كثيفة الاغصان ، حتى تكاد تحجبها عن الرؤية.
كانت القيقر جميلة وانيقة و حانية على اهلها . لكن الانجلير جعلوها مركزا للحكرة الصيفية القاسية التى مارسها الانجليز ضد القبائل العربية عملا بقانون المناطق المقفولة الذى هدف الى فصم العرى الاجتماعية والثقافية والتجارية بين طرفى البلد الواحد تمهيدا للحظة الفصل الكبير.
صارت القيقر عالمه الجديد الذى استعاض به مؤقتا عن عالمه الاول فى البوادى عموم . كان مندفعا لمعرفة كل شئ عن ذلك العالم الذى بدا له غريبا ومستعصيا عن الفهم فى شهوره الاولى فى المدرسة . اتخذ لنفسه ترتيبا يمكنه من اكتشاف المدينة الصغيرة فى اقصر وقت. كان ينسحب سرا من الداخلية بعد انتهاء الدوام المدرسى . و ينطلق عدوا باتجاه سوق المدينة . يتعرج مع ازقة الاحياء الشعبية الضيقة يجعلها ساترا من الاعين التى يمكن ان تراه وهو ينفلت سرا من الداخلية بدون اذن ، فيوقعه ذلك فى عقاب شديد من استاذ هارون عثمان. ىذلك الاستاذ الشديد القوى والضاحك فى آن .حب استكشاف المدينة كان يدفعه الى ارتكاب تلك المخالفة التربوية .والشوق الشديد لملاقاة بعض القادمين من أهله الى سوق المدينة. تلك المقابلات العابرة كانت تبل شوقه الى الربوع التى نشأ فيها ، وفارقها قبل أن يقوى عوده على تحمل أسر فراق الابوين والعشيرة . كانت تلك المقابلات القصيرة تسرى عن نفسه عنت العيش فى بيئة لم يألفها و لا يجد فيها ريحة البوادى عموم .كانت تلك المقابلات تنقل اليه الجديد من اخبار عالمه القديم . حتى اذا حان وقت التمام المسائى فى الداخلية، اضطر للعودة الى الداخلية سرا ، وقد تورم محياه واحمرت عيناه من البكاء اذ يودع من يلتقيهم فى سوق المدينة من عشيرته الاقربين . لقد كان احساسه بالغربة كبيرا وعميقا فى عالمه الجديد . و زادت المعاملة غير الودية التى كان يلقاها من زملائه الصغار ، زادت من قسوة احساسه بالعزلة فى محيطه الجديد. كان زملاؤه الصغار يستغربون من بعض تعابيره البدوية التى كانوا لا يستوعبونها بالكامل ، فيسخرون منه بالمحاكاة والتقليد الساخر . كان يؤلمه تصرف زملائه ذاك. و كان يستفزه .و كان يدفعه الى الدخول فى معارك عدائية مع بعضهم. كان لا يجد قريبا يانس اليه فى محيطه الجديد فيبثه لواعج شجنه وحزنه . وكان هذا يدفعه الى الانعزال عن من حوله من زملائه الصغار . كان اهله البدويون الذين يلتقونه فى سوق المدينة ينقدونه مالا كثيرا تشجيعا له على الاستمرار فى الدراسة بعد ان سمعوا قصصا عن نجابته وتفوقه فى الامتحانات. وكان يشرك زملاءه الصغار فى الانتفاع مما يتوفر عنده من مال.و كان يذهب بهم الى راكوبة حبوبة "عبارة" بائعة الطعمية واللقيمات فى ساحة المدرسة فيشترى لهم فى سخاء كل ما يريدون . قربه هذا من قلوب زملائه الصغار فاحبوه وصاروا يتقربون اليه. واصبحوا جميعا من اصدقائه الحميمين اللصيقين . قلل ذلك من شعوره بالحزن والغربة واعطاه دفعة للاستمرار فى الدراسة والعيش فى بيئة يحس فيها بالتيه والدوار.
و مثلما كان يتفلت من داخلية المدرسة سرا وينطلق الى سوق المدينة لملاقاة القادمين من اهله ، اخذ يتفلت سرا من المدرسة كل يوم ربوع لحضور محكمة عمدة المدينة . كان يجد طرائف ممتعة فى محكمة العمدة الاسبوعية. كان يتعلم منها الكثير ، ويتعرف منها على طبائع الناس فى المدينة وسلوكياتهم الغريبة التى لا يستطع استيعابها ، مثل ما شاهد وسمع فى محكمة العمدة فى أول جلسة حضرها .
كانت محكمة عمدة المدينة عبارة عن مسرح فكاهى مفتوح للترفيه بالنسبة له ، ولتزجية الفراغ بالنسبة للبعض فى المدينة ، خصوصا العاطلين عن العمل منهم . كان يجد فى محكمة العمدة عالما لم يألفه فى البوادى عموم. يصرخ حاجب المحكمة معلنا بداية جلساتها . يتقدم العمدة ويجلس فى منتصف المنضدة الطويلة. ويجلس الى يمينه وشماله اعضاء المحكمة الآخرين . يتقدم المتحرى ويقرأ قائمة بالقضايا التى ستعرض على المحكمة . ومن ثم يبدا فى استدعاء المتخاصمين والشهود . عند النظر فى اى قضية يعرض المتحرى كشكولا من بالمعروضات التى تشكل الادلة المادية على جريمة من الجرائم . فى اول محكمة يحضرها استمع بانبهار الى تفاصيل قضية المتهمة حليمة صنقور، صانعة وبائعة الخمور البلدية فى المدينة الصغيرة التى يعرف الناس فيها بعضهم البعض الى حد اليقين. يصيح حاجب المحكمة :المتهمة الحاجة حليمة صنقور.
تتقدم امرأة فى عقدها الخامس. ويطلب اليها المتحرى التعرف على قدور الخمرة البلدية الخاصة بها من بين القدور الكثيرة المعروضة . وتجيب المرأة فى ثبات و عدم اكتراث: حاضر ياجناب .القدر الاول داك حقى. والقدر المفجوخ داك برضو حقى.دفعت عليهم الغرامة فى يوم الاربعاء الفايت. وكمان مستعدة اليوم للغرامة الجديدة يا حضرة العمدة .
يتداول العمدة بصوت خفيض مع بقية اعضاء المحكمة . ثم يصدر قرارالمحكمة بتغريم الحاجة حليمة صنقور مبلغ خمسة جنيهات ، وارجاع قدورها اليها.
تعرف المحكمة ان حليمة عائدة فى الاسبوع القادم لتدفع الغرامة نفسها فى جلسة المحكمة القادمة . ذلك روتين ثابت ولا يتغير. لأن حليمة تخرج من المحكمة لتشد القدور على النار لتجهيز المعروض الجديد قبل دخول المساء| . وقبل البدء فى استقبال الزبائن سوف يداهم بوليس الادارة الاهلية المكان ويقبض على الحاجة حليمة وقدورها المليئة بالخمور. وتسجل الحاجة اعترافا بالجريمة على ان تحضر القدور الفارغة قبل جلسة المحكمة القادمة بيوم لكى تقدم فى الجلسة كمعروضات .بدت له الحاجة حليمة صنقور سعيدة بهذا الترتيب الذى يجعلها تمارس بيع الخمورالبلدية المحظورة تحت حماية القانون . فهى تدفع الغرامة الروتينية بانتظام. و لا يتعرض لها احد طالما كانت تدفع الغرامة وتوابعها بانتظام .
اندهش لتلك الوقائع غاية الاندهاش. الناس فى البوادى عموم لا يتعاطون أى نوع من المسكرات . بل لا يعرفون اسماءها ولا اشكالها . ولم يتذوقوا طعمها . يستطيع أن يجزم بذلك تماما .اما أن تتجرأ امرأة حاجة و كبيرة السن . وتعترف امام الملأ جميعا بانها تبيع الخمور للناس، وتدفع الغرامة المالية على جريمتها بقلب منشرح كأن شيئا لم يحدث، فهو امر مستحيل فى البوادى عموم . انبض قلبه حين فكر كيف يكون احساس والدته اذا علمت بهذا الامر. لا بد انها ستحزن حزنا مضاعفا على وجود ابنها فى بيئة من هذا النوع . عزم أن لا يحكى هذه الواقعة لوالدته ابدا .
ما زال غائرا فى مقعده ينظر فى الغمام الكثيف من خلال النافذة والطائرة تحبو استعدادا للاقلاع . تحية روتينية من الكابتن المسافرين معه على طيران عبر المحيط السفرية رقم خمسين. اخذ يرتل بعض آى الذكر الحكيم. ردد دعاء والده الشيخ الذى كان يردده فى حله وترحاله "يا مهوّن القواسى ، هوّن كل قاسى" . هذه رحلة قاسية تستوجب ترديد دعاء والده المأثور . صوت المضيفة الرخيم يخبرالمسافرين بتفاصيل الرحلة : عشرون ساعة كاملة سيقضونها معلقين فى جوف السماء قبل ان تلا مس ارجلهم ارض مطار جون كنيدى فى نيويورك. سيكون الطقس باردا جدا فى المدينة فى لحظة الهبوط . يسلتزم الامر ارتداء معاطف كثيفة للغاية . عشرون ساعة كاملة فى جوف السماء . تاه فى منلوج داخلى. سأل نفسه كيف كان الاقدمون يصلون الى هذا البلد البعيد. واهله ، كيف كانوا يسافرون منه ويعودون اليه. فى زمانهم ذاك لم تكن هناك طائرات من اى نوع ، ناهيك عن ان تكون طائرات مثل هذه الطائرة القصر . نسى تهويماته فى عالم البوادى عموم. فقد وقعت الواقعة بالفعل . واخذت الطائرة العملاقة ترتج وتهتز وهى تنطلق بقوة وما لبثت ان ارتفعت فوق اديم الثرى. اخذ يتلفت يمنة ويسرة ، ينظر من جديد فى وجوه الذين من حوله من المسافرين ، كيف يبدون. كانوا جميعا مثل الصخور الصماء. لا شعور ظاهر ولا احساس . بعضهم دس عيونه فى ما يحمل من اوراق، آخرون تشاغلوا ببعض الاجهزة الاليكترونية التى يحملونها . طيف ثالث هرع يطلب بعض المشروبات الروحية. همس الى نفسه: بئس الطالب والمطلوب . ثم تبسم حين خطر بباله كيف يكون هذا مستحيلا فى مجتمع البوادى عموم. حاول ان يفعل مثل جيرانه فى السفر ، دس عيونه فى ما معه من كتب. تشاغل بما معه من اجهزة . لم يستطع . عاد يحدث نفسه : فليهنأوا . لقد تركت لهم الجمل بما حمل . المرض يقتل ساعة ثروالضيم يقتل الف ساعة. اللفيف الذى عاش معه زهرة العمر ضاع من عينىه و بقى فى القلب والوجدان. وبقى فى الذاكرة رونقه المزدان بالاخضرار. اطرق برهة. مسح. دمعة تدلت على خده بلا استئذان.تمتم بنفس مقطوع :الردى يقتل ساعة. والضيم يقتل الف ساعة.
يتبع
alihamadibrahim@gmail.com