الرئيس المعلم أوباما يؤبن الزعيم الراحل ماديبا (نلسون مانديلا) .. ترجمة*: غانم سليمان غانم

 


 

 



ترجمة*: غانم سليمان غانم
G_ghanim@hotmail.com
"إن المصالحة لا تعني أمراً يتعلق بتجاهل الماضى الأليم ولكنها وسيلة لمواجهته بالإحتواء والتسامح والحقيقة"
شكرا، شكرا جزيلاً، شكراً.   
العزاء للسيدة جارسا ميشيل وأفراد عائلة مانديلا، وللرئيس زوما وأعضاء حكومته، ورؤساء الدول والحكومات، السابقون والحاليون، الضيوف الكرام – إنه شرف لى كبير أن أكون معكم اليوم، لتأبين رجل ليس كمثل الآخرين. العزاء لشعب جنوب أفريقيا والناس من كل جنس ومن مختلف ضروب الحياة، العالم يشكركم لمشاركتكم تأبين نلسون مانديلا معنا. كفاحه كان كفاحكم وإنتصاره كان إنتصاركم, لقد وجدت كرامتكم وآمالكم معنى فى حياته، وحريتكم وديموقراطيتكم هي من مجده التليد.
من الصعب تأبين أي رجل! والحديث بالكلمات ليس عن الحقائق والتواريخ التى تشكل الحياة فقط بل عن الصفات والشمائل الحقيقيه للشخصية ومواقف الفرح والحزن الخاصة وساعات التأمل الهادئ والمميزات والخصائص الفريدة التى تشع من روح الشخص. وكيف لا يكون ذلك صعباً جداً بالنسبة لأحد عمالقة التاريخ الذى قاد أمة كاملة وحرض البلايين على نطاق العالم لتحقيق العدالة والمساواة.
ماديبا: الذى ولد خلال الحرب العالمية الأولى بعيداً عن مواقع السلطة والنفوذ ورعى البقر وهو صبي وتعلم من شيوخ قبيلة الثيمبو قد تحول إلى محرر عظيم فى القرن العشرين. مثل الزعيم غاندى فقد قاد حركة المقاومة – حركة في بداياتها كان أملها ضعيفاً فى النجاح. ومثل الزعيم مارتن لوثر كنج نادى بالصوت العالي بمطالب المظلومين والمضطهدين وبالضرورة الأخلاقية للمساواة بين البشر، وقد تحمل سجناً قاسياً بدأ فى عهد الرئيس كينيدى والزعيم خروتشوف وكانت نهاية أيامه بنهاية الحرب الباردة. إنطلق نضاله من السجن بدون قوة السلاح، مثل الرئيس ابراهام لنكلون، ليوحد بلده التى كانت آيلة للتقسيم. وقام بصياغة نظام دستوري للمحافظة على حرية أجيال المستقبل - والتزام بالديمقراطية وحكم القانون الذى تمت المصادقة عليه ليس فقط بإنتخابه ولكن برغبته فى التنحي من السلطة بعد فترة رئاسية واحدة فقط. بالنظر إلى مجرى حياته وعظيم إنجازاته والتقدير والحب الكبير الذى إكتسبه بحق ألا يجوز لنا أن نتذكر نيلسون مانديلا بإعتباره زعيماً عبقرياً فريداً، بابتسامته وهدؤه، وترفعه عن الأمور التافهة لصغار الأحلام، قاوم ماديبا بشده الصفات الرذيلة فى الرجال وبدلاً عن ذلك أصر ماديبا أن يتشارك معنا فى همومه ومخاوفه وحساباته الخاطئة وكذلك إنتصاراته. ألم يقل:"أنا لست قديساً، مالم تعتقدوا أن القديس يخطيء ويستمر فى محاولة الإصلاح". ذلك لأنه بالتحديد يقر بعدم الكمال الإنساني – ولأنه ملىء بروح الدعابة والشقاوة، رغم المسئوليات الكبيرة التى على عاتقه، فلذلك أحببناه. إنه ليس تمثالاً مصنوعاً من مرمر، إنه رجل من لحم ودم، هو إبن وزوج وأب وصديق. وبسبب هذه الأشياء تعلمنا منه الكثير وبسبب هذه الأشياء سنتعلم منه المزيد. لأنه ما من شيء حققه كان محتوماً، وفى مسيرة حياته كان رجلاً اكتسب مكانته فى التاريخ من خلال الكفاح والصبر والتبصر والإيمان. هو يقول لنا ما هو الممكن ليس من صفحات كتب التاريخ ولكن من حيواتنا كذلك. مانديلا بين لنا عملياً قوة الفعل وكيفية تحمل المخاطر فى سبيل تحقيق مبادئنا وقيمنا، وربما يكون ماديبا محقاً عندما قال إنه ورث من أبيه:"روح المتمرد الأبي وروح العداله الناجزة". ونحن نعلم أنه شارك الملايين من السود والملونيين فى جنوب أفريقيا الغضب المتولد من:"آلاف المواقف من حالات الإزدراء، وآلاف المواقف من حالات الإذلال والإهانة وآلاف اللحظات المنسية من... ورغبة فى محاربة النظام الذى سجن أفراد شعبي"،كما قال. ولكنه مثل عمالقة "المؤتمر الوطني الأفريقي" الأوائل - سيسولوس وتامبو – سيطر ماديبو على غضبه وكرس طموحه لمحاربة النظام في إطار التنظيم والمنابر والإستراتيجيات والخطط حتى يصمد الرجال والنساء لأجل تحقيق الكرامة التى منحها الرب. بالإضافة لذلك، تحمل ماديبا نتائج تصرفاته وأفعاله مدركاً أن التصدي لمصالح وظلم الجهات القوية له تبعات وثمن. ولذلك، قال:"أنا كافحت ضد هيمنة البيض كما كافحت ضد هيمنة السود. وسعيت لتحقيق مجتمع حر ديموقراطي يعيش فيه كل الناس متضامنين ومنسجمين ولهم نفس الفرص. إنها مبادىء وقيم آمل أن أعيش لأجلها ولأجل تحقيقها وإذا إقتضت الحاجة فإنها مبادىء وقيم أنا على استعداد للموت فى سبيل تحقيقها". لقد علمنا مانديلا قوة الفعل ولكنه علمنا كذلك قوة الأفكار وأهمية المنطق والحوار والحاجة إلى أن نقوم بدراسة وتحليل ليس الأشخاص الذين نحن على وفاق معهم بل كذلك الذين نحن على خلاف معهم. إنه كان يعلم إن الأفكار لا يمكن حبسها بين جدران السجن أو إعدامها برصاصة قناص. وهو قد حول محاكمته إلى إدانة لنظام التفرقة العنصرية نظراً لفصاحته وقوة منطقه وكذلك بسبب تدريبه فى مجال المحاماة. لقد إستفاد من السنوات التى قضاها فى السجن لتعزيز منطقه وحججه وقد بث شغفه وحبه للمعرفة بين الآخرين من رفاقه فى الحركة كما تعلم لغة وعادات مضطهديه حتى ينقل لهم بشكل أفضل يوماً ما أن حريتهم تعتمد على حريته.
لقد بين لنا مانديلا أن الأفعال والأفكار ليست كافية مهما كانت صحيحة ويجب أن تتحول إلى قانون ومؤسسات. لقد كان مانديلا عملياً بقيامه بإختبار معتقداته على ضوء الظروف الواقعية والمعطيات التاريخية. كانت هناك مبادىء جوهرية لا يساوم عليها ومنها قيامه برفض عروض إطلاق سراحه بشروط مذكراً نظام التفرقة العنصرية بأن:"المسجونين يستحيل أن يبرموا عقوداً".
ولكن كما ظهر فى المفاوضات المضنية لنقل السلطة وصياغة القوانين الجديدة إنه لم يكن خائفاً من التنازل لتحقيق هدف كبير وبسبب أنه ليس فقط قائداً للحركة ولكنه سياسياً متمرساً فقد كان الدستور الذى تمت صياغته مناسباً لنظام ديمقراطي فى بلد متعدد الأعراق والأجناس ومنسجماً مع نظرته للقوانين التى تحمي حقوق الأقلية وكذلك حقوق الأغلبية والحرية النفيسة لكل مواطن جنوب أفريقى.
وأخيراً، :إن مانديلا يفهم الروابط والأواصر التى تربط البشر، وهناك كلمة فى جنوب أفريقيا – "أبونتو"، وهي كلمة ترتبط بالمواهب الكبيرة فى شخصيته: وهي إدراكه أننا  جميعاً مرتبطين ببعضنا البعض بأشياء غير منظورة للعيون، وتلك هي وحدة وجود البشرية، وبأننا نحقق ذواتنا بمشاركتنا للآخرين والإهتمام بما حولنا.
نحن لا ندرى ما مقدار هذا الشعور فى نفسه أو كيف تشكل فى زنزانته الإنفرادية المظلمة، ولكننا نتذكر تصرفاته، كبيرها وصغيرها، وذلك عندما قام بتقديم سجانِيه كضيوف شرف فى حفل تنصيبه، وعند قيامه برحلة مرتدياً زي وملابس رياضة الرجبي، وعند تحويله لحزن عائلته إلى حملة لمكافحة مرض نقص المناعة المكتسبة (الأيدز) – التى كشفت جميعاً عن رقة مشاعره وعمق إدراكه، وهو لم يجسد فقط كلمة "أبونتو" ولكنه قام بتعليم الملايين للقيام بالبحث عن الحقيقة فى أنفسهم.
لقد سعى منديلا ليس لتحرير نفسه من السجن بل لتحرير السجان كذلك، ليبرهن لنا أنه يجب علينا الثقة فى الآخرين حتى يثقوا فينا، وليعلمنا كذلك أن المصالحة لا تعني أمراً يتعلق بتجاهل الماضى الأليم ولكنها وسيلة لمواجهته بالإحتواء والتسامح والحقيقة. لقد قام ماديبا بتغيير القوانين وقام كذلك بتغيير القلوب والنفوس.
بالنسبة لمواطنى جنوب أفريقيا ولأولئك الذين بهرهم وجذبهم بشخصيته الرفيعة على نطاق العالم: إن موت مانديلا هو الوقت الصحيح للبكاء وكذلك وقت الإحتفاء بإنجازات حياته البطولية، ولكننى أعتقد أن موته يجب أن يثير فى نفس كل منا فضيلة التأمل فى ذاته. وبأمانة وبغض النظر عن أوضاعنا وظروفنا، يجب أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: كيف طبقنا تعاليمه ومبادئه فى حياتنا الخاصة؟ وهو سؤال أطرحه على نفسي بصفتي إنسان وبصفتي رئيس. 
نحن نعرف أن الولايات المتحدة، مثل جنوب أفريقيا، كان عليها أن تتجاوز ويلات قرون من الإضطهاد والتمييز العنصري. وكما كان الإضطهاد والتمييز العنصري واقعاً ملموساً هنا فالأمر يستحق التضحية – تضحية العديد من الناس، المعروفين والمجهولين، لرؤية صباح الحرية الجديد. ميشيل وأنا كنا المستفيدين من الكفاح ضد التمييز العنصري، ولكننا نحن فى أمريكا وجنوب أفريقيا والعديد من الدول الأخري حول العالم يجب أن لا نسمح لمسار تطورنا أن يعتم حقيقة أن مهمتنا لم تنجز بعد.
إن التحديات التى تعقب نصر تحقيق المساواة والحصول على الحقوق الدستورية قد لا تكون محفوفة بالألم والمعاناة الإنسانية مثل تلك التحديات التي سبقتها وقت الكفاح ولكنها لاتقل عنها أهمية. ونحن ما نزال نرى حول العالم اليوم الأطفال يعانون من الجوع والمرض، ونحن ما نزال نرى المدارس المهدمة، ونحن ما نزال نرى شباباً بدون أمل فى المستقبل. اليوم وعلى نطاق العالم، ما زال هناك رجالٌ ونساءٌ مسجونين بسبب معتقداتهم السياسية ومضطهدين بسبب مظهرهم ومعتقدات أديانهم وبسبب من يحبون! هذا ما يحدث اليوم.
ولذلك، لا بد علينا العمل من أجل تحقيق المساواة، ولا بد علينا العمل من أجل تحقيق السلام. هناك الكثير من الناس الذين يتقبلون بسرور إنجازات مانديلا فى مجال المصالحة والحقيقة، ولكنهم يقاومون بإنفعال حتى الإصلاحات الطفيفة التى تعالج الفقر المزمن وغياب العدالة وعدم المساواة والظلم المتنامي. وهناك العديد من القادة الذين يَدْعُون التضامن مع كفاح ماديبا من أجل الحرية ولكنهم لا يتحملون المعارضة من جانب شعوبهم. وهناك الكثيرون منا على طرف الشارع ومقاعد المتفرجين جالسين مستريحين وراضين فى الوقت الذى يجب أن يتضامنوا معنا عند الجهر بصوت الحق.
إن الأسئلة التي نواجهها اليوم تتلخص فى التالي: كيف نشيع العدل والمساوة؟ كيف نعزز الحريات وحقوق الإنسان؟ كيف ننهي الصراعات والحروب الطائفية؟ هذه الأسئلة ليس لها إجابات سهلة. وكذلك لم تكن هناك إجابات سهلة لطفل ولد فى الحرب العالمية الأولى. لقد كان نلسون مانديلا يذكرنا دائماً أن الأمر قد يبدو مستحيلاً حتى يتم تحقيقه! ولقد أكدت لنا جنوب أفريقيا أن ذلك كان صحيحاً. بينت لنا جنوب أفريقيا إننا يمكن أن نتغير! وإننا يمكن أن نختار عالماً ليس قائماً على إختلافاتنا بل قائماً على آمالنا المشتركة. وإننا يمكن أن نختار عالماً ليس قائماً على الحروب والصراعات بل قائماً على السلام والمساواة والفرص المتكافئة.
إننا لن نرى رجلاً مثل مانديلا مرة ثانية ولكن دعونى أقول للشباب فى أفريقيا وللشباب على نطاق العالم: إنه يمكنكم أنتم أن تستلهموا من حياته الكثير لتحقيق أهدافكم الخاصة. قبل ثلاثين سنة مضت عندما كنت طالباً إطلعت على كفاح مانديلا والنضال الذى كان يجري فى هذه البلاد الجميلة، الذى حرك شيئاً فى نفسي. لقد حفزني للاضطلاع بمسئولياتي تجاه الآخرين وتجاه نفسي ووضعنى فى رحلة طويلة قادتني إلى هنا اليوم. ونظراً لأننى دائماً لا أستطيع بلوغ الشخصية النموذجية للزعيم مانديلا فذلك يجعلنى أرغب فى أن أكون رجلاً جيداً، إنه يخاطب الأشياء الجميلة فى نفوسنا.
بعد دفن هذا المحرر الكبير والخلود فى الراحة الأبدية ويرجع كل منا إلى مدينته وقريته وأعماله اليومية الروتينية، دعونا نبحث عن مصادر قوته ودعونا نبحث عن روحه الكبيرة فى مكان ما فى أنفسنا. وعندما يصير الليل مظلماً وعندما يثقل الظلم وعدم المساواة كاهلنا وعندما نظن أننا لن نتمكن من تحقيق خططنا المدروسة، دعونا نفكر في ماديبا والكلمات التى جعلته مستريحاً نفسياً داخل الحيطان الأربعة لزنزانته:"ليس مهماً فى نظري الخروج من السجن ولا العقوبات التى أتحملها لأنني سيد مصيري: أنا قائد روحي".
يا لعظمة معدنه، سنفقده كثيراً، فليبارك الله ذكرى نلسون مانديلا، وليبارك الله شعب جنوب أفريقيا. 

•    اعترضت جمعية الصم والبكم فى جنوب أفريقيا على اللجنة المنظمة للتأبين بسبب عجز مترجم لغة الإشارات في ترجمة كلمة الرئيس أوباما وفشله فى التعبير بقسمات وجهه على مضمون الكلمة.  يا لها من كلمة يعجز من تملك الحروف والكلمات والقواميس فى ترجمتها.

 

آراء