الرئيس مبسوط مني

 


 

 

لم تكُن تُصدق " المُطربة " أنها مدعوّة للمؤتمر، بوصفها تمثل الرأي العام الوطني والأهلي. وقد اختارها الحزب الحاكم بعد أن راجع كل لجانه، واتفقوا حول الشخصيات العامة، وتنازعوا بشأنها كثيراً، ولكن استقر الرأي على اختيارها ضمن المدعوات. واتفقوا أنها امرأة عمل أهلي عام، ثبت وجودها المؤثر في الحياة السودانية في الوسط ولها شعبية وسط العامّة!. ويشكل وجودها عنصراً هاماً في الدعوة إلى عودة الوطن إلى جادة طريق الحوار.


أكملتْ في اليوم الموعود كامل هندامها لتظهر بالصورة التي عرفها جمهورها، وتريد أن يتعرف عليها السياسيون في منصة الحوار. وأن لها رأي يتوقف عنده أصحاب السياسة، وأنهم ليسوا وحدهم منْ يقرر في شأن الوطن، بل هي سيدة ترى أنها تمثل رأياً عاماً، له منصته التي يجب أن يتحدث فيها أمثالها.

(1)

فكّرتْ ونجّمتْ كثيراً، ورأت أن تشور الأقربين، فالموضوع، لم تكن تعرف عنه كثير شيء، وما المطلوب منها؟ .هل المؤتمر بالليل أم بالنهار، أم هو في النهار دون غيره ،أما" الليل فهو يُغطي الجبال " كما يقول المثل. هل مطلوب منها شيء مُحدد، أم أن الموضوع سياسي و " طق حنك "؟. وهي تعلم في قرارة نفسها أنها سياسية في فنّها، وأن جمهورها من أصحاب السلطان كثرٌ، ويطلبونها في غير موعد، ولهم أغراض ليس من السهل الحديث عنها في العلن، ولكنها لا تعرف دورها في مؤتمر الحوار. سألتْ نفسها: ماذا يريدون يا ربي؟ أي نوع من الظهور سيكون لها، هل تتحدث أم تُغني، وهل تُغني للخاصة أم لعموم المؤتمرين ؟!. وماذا تَعني " الهوية السودانية " و"الحريات والحقوق " و " قضايا السلام "؟ ومن هم أصحاب الحركات المُسلحة؟، هل يأتون بسلاحهم أم بدونه؟ أما منْ استشارتْ ، فكان الرد :ما المسؤول أعلم من السائل؟!

(2)

 هذا اليوم هو يوم افتتاح مؤتمر الحوار الذي يرغب أن يخلق واقعاً جديداً. تجلّت في صورتها وهي سيدة الطرب وملكة غناء " التُم تُم " التي تسيّدت الساحة الفنّية. ولكن ربما للمكان والحضور رأي آخر. وربما يقرر كيف تكون طلعتها. ربما تشارك في اللجان، وربما تكون رئيسة لجنة من لجان المؤتمر، فالله سبحانه قادر على كل شيء. فهي تملك خبرة طالت السنوات، تعرّفت خلالها على نبض الشارع، وتملُك تهدئته أو غليانه الثائر، وهي دون شك قد استجابت للرغبات الدفينة التي تقبع في قاع أذهان البعض. مرّ في خاطرها أن هناك مجموعة من غِمار الناس، كانت تُخاطب أفراحهم وتُرضي رغباتهم. وجاءت بها سلطة يهمها الرأي العام، ولم تكترث لما يقوله الحُساد، فهي ترى نفسها السودانية الأصيلة، وهو التعريف الجديد بها. إنها أيضاً تُمثّل غمار الناس والرعاة من الأطراف والتُخوم، وتذكر كثيراً أغنيات " الدلّوكة " التي استجاب لها أهل " البُطان ". وقفوا أمامها وهي تُغني، وتلاقت السياط مع الأجساد نصف العارية، وتذكر أنها رأت الدماء ترشح من الأجساد، وهي تُغني أول مرة تشاهد ما يحدث أمامها. ودون أن تحس قالت بصوتٍ هامس " ووب علي ".

(3)

إن البُطان في خرطوم السودان عادة قديمة من عادات وطقوس الأفراح منذ الثلاثينات وإلى الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي وانقرضت من بعد وانزوت في بطون الأرياف ولم تزل بقاياها هناك: يتكئ " الفارس " اصطلاحاً على عصاه، عاري الصدر والظهر، ويتقبل دون حراك ضربات السياط من " العريس " أثناء أغنيات " الحماسة ".   الخوف والإثارة مرتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً. من بعد الحفل وفي الصباح وإلى أشهرٍ، ينام " الفارس " على بطنه إلى حين تشفى الجروح!، هي دعوة لمغالبة الأهواء ونزاعات النفس. السياط في هذا الزمان أخف وقعاً على الجسد، ولا تشبه عادة الأيام الماضيات. صورة يراها المختصون في دراسة علم الفلكلور، أنها اليوم تستعيد رونق ماضيها مع اختلاف الصورة والصوت والمُخرجات، بل الأغراض.

(4)

ترى ماذا يقول المُتزمتون من المنتمين للسلطة الحاكمة؟. يقفون بريبة، ويعتقدون أن اختيار المطربة المشهورة لم يصادف قناعة، وإنها جالبة معها مزامير الشيطان! فهم في دواخلهم يريدون أن يتمسّحوا بهذا النمط من رجس الشيطان، وأنهم في الظاهر اعترضوا على الجهات الحكومية المُنظِمة: كيف تجرؤوا لدعوتها، ألا يعلمون تاريخها الخفي والظاهر ؟!،

في مثل هذا اليوم المشهود، فإن الغائب، سيغيب عنه المشهد المحظور على الإعلام، وإن الحاضر لا يسعه كل شيء. فالدنيا مكنوزة بالعجائب، فرأت المُطربة أنها اليوم مطلوبة أمام الحوار، فدون شك لها شأن فيما يحدث. ربما يدعونها للغناء، ففقرات الحوار مفتوحة من أجل " الوفاق السلمي "، وإن الهدنة ووقف إطلاق النار حاضرتان بقرار جمهوري. والصحافة اليوم ستستعيد حُريّتها، على غير ما كان من قبل، فقد جاء الانفراج الكبير من الرئاسة. ورأت المُطربة أن طريقها سياسي، عبر فن غناءٍ يُحسن التعامل مع الغرائز. وهو اليوم لم يأت ليكون ديكور إخراج، بل جاء ليُشارك!

على أية حال أبلغتْ السيدة "المطربة"، طاقمها الموسيقى بأن يكونوا على أهبة الاستعداد، فربما يطلبون غناءها مشاركة في نثر بُهار افرح أو إثارة الرغبات الدفينة على أجواء المؤتمر، ليختلط الحوار السياسي بالمتعة، بدلاً عن تجهُم الأوجه السياسية. وسوف يتعدّل برنامج نشاطها الفني من حفلات وبروفات. وقد تم إخطارها من قبل القائمون على الأمر بأن التعويض " كاش داون "، لأن بنود الصرف جميعها بلا سقوف. وسوف ينوبها من الكرم الحاتمي الكثير، وأن الفندقة من لزوم الضيافة إن رأت " المطربة "أن تقضي يومها مع الضيوف، فلها سكنها الخاص بينهم إن أرادت، والجناح مُستأجر، ومتروك لها استخدامه وقت تشاء.

(5)

نظرت المُطربة حولها أثناء وجودها في الجلسة الافتتاحية، وقالت: " هذا مهرجان بحق، جمعٌ طيب دون شك"؟. تفرست في أزياء النساء من حولها، وقارنت مظهرها مع المتأسلمات من نساء السلطة، واطمأنت فهي متفوقة دون شك. وأقسمت في نفسها أنه لو تُرك الأمر لها لجرجرت النافرين إلى الخضوع إلى ما تريده الحكومة والسلطة، فقط أن يتركوا لها الحبل على الغارب، ويبعدونها عن " الداعشيين "! لأن مظهرهم لا يُريحها، رغم أنها عرفت البعض الذي يُظهر بخلاف ما يُبطن. وهي قصة معروفة أن الكثير من دُعاة العدالة والشرعية والنزاهة والأخلاق، عادة ما يبدؤون بسنة الإسلام السلام، ثم تطفر إلى العلن ما في سرائرهم من رغبات دفينة.

عبد الله الشقليني

10/10/2015

abdallashiglini@hotmail.com

 

آراء