الرجل الذي أنقذ الرأسمالية من نفسها .. بقلم بريس كوتوقيق، في ١٧ يونيو ٢٠٢٢ .. من موقع فرانس كلتور، .. ترجمة: ناجي شريف بابكر
(١)
في العام ١٩٧١، أعلن الرئيس ريتشارد نيكسون، في صيغة لا زالت خالدة، إنتصار نظرياته الإقتصادية برمتها. إن جون ماينارد كينز، كان قد أشعل الثورة في علم الإقتصاد، ذلك بحشره في منظومة أفكار أكثر إتساعا عما كان سائدا من قبل. تُرى بعد خمسة وسبعين عاما من وفاة مفجرها، ماذا تبقى اليوم من الكينزيانيزم الظافرة.
الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون "كلنا الآن كينزيون". في بحر شهر أغسطس من العام ١٩٧١، وفي مفاجأة غير مسبوقة، أعلن ريتشارد نيكسون ان بلاده قد تخلت عن "معيار الذهب". مما دفع صحفيا كان يجري تحقيقا مع الرئيس لأن يصيح "كلنا الآن كينزيون".
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وسعيا لجلب الإستقرار لأسواق النقد، فقد تقرر في بريتون وودز، بأن يتم تقييم كافة العملات العالمية الحرة من خلال تثبيت قيمتها في مقابل الدولار الأمريكي. على أن تعتمد العملة الأمريكية بدورها على الضمانات التي تكفلها الودائع الضخمة من الذهب المرصود في قلعة نوكس في كنتاكي. إلا أن الحرب في فيتنام كانت قد أفقرت الإقتصاد الأمريكي، مما حتّم على واشنطون العمل على تعليق مقايضة العملة الأمريكية بما كان يقابلها من الذهب. كان على العالم منذ ذلك الوقت الدخول في نظام العملات العائمة بصفة رسمية من مارس ١٩٧٣.
(٢)
المغالطة الآيدولوجية
لماذا كان على رئيس جمهوري، بخلفية يمينية، أن يتحول إلى مدرسة فكر إقتصادي عُرفت على نطاق واسع بتوفير المرجعية النظرية لكافة الأنظمة الديمقراطية الإشتراكية في أورربا؟.
ومسار التساؤل ينصب كذلك في دواعي السعي لاستدعاء ذكرى جون ماينارد كينز المتوفي منذ العام ١٩٤٦، واتخاذ ذلك ذريعة لتسويق مبادرةٍ للإقلاع عن إجماع تم تبنيه في بريتون وودز، في وقت كان فيه جون ماينارد كينز يمثل الحكومة البريطانية. ربما تصادف لنيكسون أن يحيط بالنقد اللاذع الذي وجهه كينز لنوايا حكومة إنجلترا إبان تولي تشيرشل لوزارة الخزانة فيها، في العام ١٩٢٦ ذلك بالعودة إلى معيار الذهب. القرار الذي لم يلبث أن جر على إنجلترا، ما كان يخشاه كينز، من المصائب التي بدات بالتضخم، ثم الكساد وانتهت بالإضراب.. فالمصائب لم تكن لتأتي فرادى.
لقد ظللنا نعلن بصفة راتبة تجاوز الكينزيانيزم كنظرية عتيقة، راج ذلك في الثمانينات من القرن المنصرم. ثم عدنا لنعلن عودتها من جديد، بالتحديد في اعقاب الأزمة الإقتصادية في الاعوام التي تلت العاَم ٢٠٠٨. في الواقع أن كينز لم ينقطع عن كونه مصدر إلهام للسياسات الإقتصادية. ولا أدل على ذلك من صدور عملين جديدين يتناولان حياته ونظرياته، "إستحقاقات السلام، المال، الديمقراطية، في حياة جون ماينارد كينز" لزاكاريه دي كارتر، و "كينز في مواجهة الرأسمالية. رؤيته الإقتصادية في الإشتراكية الليبرالية" لجيمس كروتيه.
جذب الكتابان الإنتباه للبعد الفلسفي وللإلتزام السياسي لكينز، كابعاد لم تكن مطروقة، كان قد طغى علبها الطابع الإقتصادي للنظرية. إن هذا المعلم الإقتصادي، قد انطوي على ملكات قل ان تجتمع لقلم واحد، كونه متمكن في الرياضيات، التاريخ، وإدارة الدولة، والفلسفة بدرجات متفاوتة.
كان تشكيلا لنحت صورة ذاتية.. إن كينز كان موهوبا بدرجة لافتة. إبن لجامعي مرموق، ولأم أهّلَها انخراطها الإجتماعي لأن تصبح وهي في السبعين مأمورا على مقاطعة كامبريدج. كينز وهو بعد في مقتبل العمر كان قد نال لقب أحد الأندية السرية للنخب الجامعية.
في عرصاتٕ النضال فيها على أشُدّهُ، في مواجهة وحشية النهج المادي، يندلعُ تحت رايات المفاهيم الجمالية للخير. هناك حيث تجمعنا الدروب بفلاسفة من أمثال برتراند راسل، لودفيج ويغنيشتاين، و المؤرخ والناقد الواسع الشهرة ليتون ستراشي. هذا بالإضافة إلى ليونارد وولف، الذي صار فيما بعد زوجا لفرجينيا وولف. إن ماينارد كينز قد اصبح على أية حال جزءا من "رابطة بلومزبيري".
(٣)
حياته.. وهمومه السياسية
ظل هذا المُنظِّر الإقتصادي منذ نعومة أظفاره منتميا لأوساط إجتماعية طليعية ذات بيئة فكرية رائدة ومتوقدة. وعلى صعيد حياته الشخصية فقد كان أسوة بأقرانه مفتونا بالجمال، ومتعلقا بالأوبرا وبتملك الطبعات النادرة. ولكونه على قناعة تامة بوجوب مناصرة الناس في مواجهة قانون السوق، فقد كان أول من تولى إدارة مجلس الفنون كمدير. فقد قام بتمويل إصدارات الدورية الرائدة "منهل الأمة" كإصدارة اتت في اعقاب سابقتها "رجل الدولة الحديثة".
أما على صعيد حياته العامة فقد كان موظفا رفيعا تم إلحاقه منذ وقت مبكر بوزارة الخزانة البريطانية، لما كان يتمتع به من صفات متفردة كأحد المستشارين المرموقين لمتخذي القزارات في السياسة البريطانية. وكان يصنف بولائه ليسار الحزب الليبرالي.
بحسبانه ناقدا متشددا للشروط التي فرضتها بنود إتفاقية فرساي على ألمانيا، فإن كينز قد برز كشخصية عامة عقب منشور له اصدره في العام ١٩١٩ بعنوان "الكُلفة الإقتصادية للسلام". لقد كان الرجل وقتها من ضمن اعضاء الوفد الذي خاض المفاوضات التمهيدية لإتفاقية فرساي.
مثلت ألمانيا ماقبل الحرب، القلب الإقتصادي النابض في القارة الأوروبية، على حد تعبيره. فبحرمانها من اسطولها، ومصادرة أصولها بالخارج، وبفرض تعويضات باهظة على الرايخ الألماني المهزوم. تتجاوز كافة ما بحوزته من الموارد، فإن أوروبا وفرنسا، على سبيل التخصيص، لا تكونان قد ارتكبتا جناية في حق ألمانيا فحسب، إنما تكونان كمن يطلق الرصاص على أصابعه. لقد كانت أوروبا قبلها تعيش تضامنا إقتصاديا كاملا.
لكن الحسابات القاصرة للمنتصرين في ١٩١٨ قد تمخضت عن عملية إفقار واسع النطاق. إن الشروط التي تم فرضها على ألمانيا قد مثلت "أفدح إجراءات تم ارتكابها على الإطلاق، من قبل منتصرين في تاريخ العالم المتحضر" .
العبرة الإقتصادية: "يتوجب إقامة منطقة تجارة حرة في أورربا، يكون الإنضمام إليها ملزما بالنسبة لألمانيا، أسوة بالدول حديثة التكوين الناشئة من تشظي النمسا وهنغاريا.
نبوءة
العبرة السياسية: إن السعي لإبقاء الدول المهزومة في فقر أزلي سعيا للتشفي، سينعكس آخر الأمر وبالا على الحلفاء أنفسهم. ذلك لما يتمخض عنه من إثارة "النضال الحتمي مابين القوى الرجعية والإضطرابات اليائسة من حانب القوى الثورية".
نبوءة
خلال الإثني عشر عاما الماضيات، كتب كينز وقد خابت آماله، "لم يكن لدي تأثير يذكر على الأحداث، وربما لا تأثير على الإطلاق، لكنني في دور كاساندرا قد حققت الكثير من النجاح.. كنبيّ".
حقيقة الأمر فإن بعض الصيغ في كتبه، رغم تصنيفها كاروع مساهماته، وكيف كانت مثار جدل في أضابير المؤسسة، إلا أنها قد جلبت عليه السخط وسوء الطالع بالأخص لدى وزارة الخزانة. بالطبع فإنه لأمر لا يبعث على الرضا أن يتجرأ شاهد على ترجمة صورة لمن يخدمهم من السياسيين، ليست كافية لمداهنتهم وتبجيلهم. فكان عليه أن يتراجع إلى كامبردج، ليصبح هناك منارة لشبكة من الأكاديميين والعقول الحرة الخلاقة، وقد كان غالبهم من الأرستقراطيين.
كمُنظِّر إقتصادي، فإن كينز قد إستند على عدة أفكار:
منها أن أوهام السعي لتحقيق الإتزان الإقتصادي، فإن معظم النظريات الإقتصادية تتأسس على أوهام الإتزان، ومن ثم فإنها تدفع بالقادة من السياسيين للسعي خلف استعادة "الإتزان الإقتصادي".. هذا بينما أن الآليات الإقتصادية العالمية تفرض وقائعا ديناميكية تجافي هذا المنحي.
ومنها كذلك أن مفهوم الندرة قاصر
إستندت النظريات الكلاسيكية على مفهوم الندرة الإقتصادية، إلا ان هذا المفهوم قد تم تجاوزه، ويعود الفضل في ذلك للتقدم الذي تم في مجال تراكم التقنية، الأمر الذي تبدو فيه الكثير من إقتصاديات الدول المتقدمة وقد تمكنت مسبقا من تحقيق الرفاه الإقتصادي.
محاولة إدارة الإقتصاد بصورة مثالية كما حدث مع المجتمع الفكتوري، إنما يمثل تضحية غير واقعية برفاهية الناس وراحتهم، من أجل مستقبل تخيلي بعيد المنال. شكرا لعلم الإقتصاد الكلي الذي جعل من الممكن تلبية كافة الحاجات.
علينا الإنتباه أن الإقتصاد الجزئي والإقتصاد الكلي، تتوحب معاملتهما على صعيدين منفصلين تماما. فمثلما في الفيزياء فإن ما ينطبق على الكوانتم ميكانيكس لا ينطبق على النسبية الكلية، ففي الإقتصاد، بنفس القدر، سيكون علينا ألا نعمم ما نتوصل إليه على مستوى إقتصاد المنشأة، وكأنه يصلح لأن ينطبق على أقتصاد بلد بحاله.
(٤)
التمويل بالعجز
خلال الأزمات الإقتصادية والكساد، يتوحب على الحكومات العمل على مضاعفة الطلب الكلي، من خلال مراكمة التمويل بالعجز. ذلك لأن ميكانيزمات السوق الحر إذا ما تركت لوحدها، فإنها لن تعيد الأوضاع إلى نصابها كما كان يتصور الإقتصاديون الكلاسيكيون. لأن من شأن الكساد أن يضاعف معدلات العطالة، وأن يحدث تفاوتا في الدخول بالقدر الذي يهدد السلام الإجتماعي برمته.
عليه فإن إدارة المنظومة الإقتصادية وترميم الطلب الكلي، في زمن الأزمات، يحب أن يكون من صميم مسئوليات الحكومات. ففي أوقات الأزمات يلزمنا ترميم الطلب الكلي من خلال مضاعفة التمويل بالعجز. لأن ذلك يدفع عجلات الإنتاج بوتيرة تتجاوز مقدرات الجمهور المتراجعة في الإنفاق. إنها نظرية التضاعف (زي مالتيبلايار إفيكت) لدى جون ماينار كينز.
أن الكلاسيكيين يرون أنه إذا ما تدنت الأجور بدرجة كبيرة، فإن ذلك سيكون كافيا كيما يدفع الرأسماليين لتوظيف المزيد من العمالة. ومن جانب آخر فإذا ما انخفضت الأسعار بدرجة ما فمن شأن ذلك أن يقبل الناس على الشراء، اذا انخفضت أسعار الفائدة سيقدم المستثمرون على الإقتراض لتمويل المزيد من المنشآت الصناعية. لكن الكساد الكبير خلال ثلاثينات القرن المنصرم، قد أثبت أن تلك التوقعات غير قابلة للتحقق.. فحينما تركت الأشياء لعوامل السوق وفق المفهوم الكلاسيكي، تحقق الإتزان آخر الأمر، لكن ذلك لم يحدث إلا بعد أن تم ارسال ثلث الأيدي العاملة إلى الرصيف.
في أوضاع كهذه ستكون الدولة وحدها هي القادرة على ترميم الطلب . ومن المؤسف حقا فإن المطالع للمقالات اليومية المعاصرة يلاحظ ان هذا المقطع لوحده هو ما تم الإحتفاظ به من الكينزيانيزم. بينما ظلت الأعمال العظيمة لجون ماينارد في أضابير النسيان.
(٥)
"النظرية العامة" جان ماينارد كينز
إن كتابه "النظرية العامة للتوظيف، والفائدة، والنقود" والذي صدر باللغة الإنجليزية في العام ¹٩٣٦، قد بدا وكأنه إعادة نظر متكاملة لكل النظريات التي كانت سائدة فيما سبق. الشئ الذي كان قد تطلب منه استحداث مفاهيم جديدة - وكيف أن مترجمه الفرنسي، بوليتيكنيسيان ومراجع مالي يُدعى جان دو لارجانتاي، قد واجه عقبات جمة في العثور على التعابير الملائمة في اللغة الفرنسية لما يقابل مفردات من شاكلة "مضاعف الإستثمار" زي مالتيبلايار إفيكت"، معدل "الشره الإستهلاكي"، او بروبينسيتيه تو كونسيوم، إضافة لأخرى ك "الولع بالسيولة" او زي ليكويديتيه بريفرانس وخلافها.
في الوقت الذي كان فيه فرانكلين روزفلت قد قضى ثلاث سنوات في حكم الولايات المتحدة الأمريكية، كانت الوصفة الرئيسية لكينز قد بدأ تفعيلها على أرض الواقع في حزمة جديدة لمجابهة العجز العام في التوظيف.
(٦)
ممول دولة الرفاه
في خضم الحرب العالمية الثانية إستطاع جون ماينارد كينز أن يستعيد مكانته في وزارة الخزانة البريطانية. فقد شارك الرجل في مفاوضات تحصلت فيها المملكة المتحدة على مساعدات عسكرية أمريكية إبان الحرب، حتى قبل ان تقرر أمريكا المشاركة فيها في مواجهة ألمانيا النازية. كما أنه قدم مساعدات للورد بيفيردج للحصول على تمويل لإنجاز دولة الرفاهية في بريطانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية. خلال الثلاثةعقود التي أعقبت الحرب، بلى لقد كنا "كلنا كينزيون": بريطانيا العظمى، الولايات المتحدة الأمريكية (المجتمع الكبير لليندون جونسون)٫ السويد وفرنسا. ما شهده العالم من الإنكماش التضخمي منذ منتصف السبعينات من القرن المنصرم، كان قد مثل نهاية الوصفة الكينزية. فقد صار لدينا في وقت واحد عجوزات كبيرة في الخزانة العامة، مصحوبة بالعطالة والتضخم في وقت معا.
كثيرا ما يتردد إن كينز ، الذي كان ينتمي ، مثل بيفريدج ، لفترة طويلة إلى الحزب الليبرالي ، قد "أنقذ الرأسمالية من نفسها". فقد أُفرِدَ الجزء الثاني من كتاب زاكاري كارتر لالقاء الضوء على التاريخ الصاخب للكينزيانيزم بعد رحيل مؤسسها. احتفالًا ، في عام 2016 ، بالذكرى الثمانين لنشر نظريته العامة ، كتب روبرت سكيدلسكي كاتب سيرة جون ماينارد كينز أن "طلاب الاقتصاد يجدون انفسهم راغبون عن فرضيات تنبني على تفاعل عناصر إقتصادية مشغولة بمضاعفة المنفعة، سعيا لعالم تتسم كائناته بطابعها الإنساني. وهي أكثر أنغماسا في تاريخها وثقافاتها ومؤسساتها، تصادف ميلا غريزيا في العلوم الاقتصادية لكينز. لهذا السبب أعتقد أن كينز سيظل هناك وفي أحسن حال بعد 20 عامًا من الآن ، خلال الذكرى المئوية للنظرية العامة ، وما يليها. "
إنتهى..
nagibabiker@hotmail.com