الرهد تُودِّع فتاها الطاهر الطيِّب: المغوار سليل المغاوير
Khaldoon90@hotmail.com
نقلت إليَّ الأسافير عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي ليلة الجمعة المباركة ، لسبعٍ خلون من شهر ذي القعدة الحرام 1439 هجرية ، الموافق 20 / يوليو / 2018م ، نبأً فاجعاً فزعتُ بآمالي منه للكذب ، أنُ قد رحل عن الدار الفانية ، إلى رحاب الله الطاهرة ، أخونا الكبير ، وصديقنا الصدوق ، التاجر والرأسمالي الوطني المستقيم ، طاهر الذيل والسِّيرة ، والمثقف العضوي الصميم ، والرجل الاجتماعي الخلوق والموطَّأ الأكناف ، الذي يألف ويؤلَف ، والرياضي المطبوع ، ورجل البِّر والإحسان والعطف على الضعفاء والمحتاجين ، في غير ما مَنٍّ ولا رياءٍ ولا سُمعة ، الأستاذ الطاهر الطيب عبد الرحيم ( 1946 – 2018م ) ، الذي شقَّ عليَّ أنا خاصةً ، وعلى أندادي وأبناء جيلي من أبناء مدينة الرهد أبو دكنة بصفة عامة ، نعيه الأليم.
يعود فقيدنا الغالي المرحوم الطاهر الطيب بجذوره إلى بلدة " المغاوير " التي تقع بريفي المتمَّة غرب مدينة شندي بولاية نهر النيل ، ولكن طائفة من أهل منطقتهم ، كانوا قد رحلوا إلى كردفان منذ عقود خلت ، وطاب لهم المقام بمدينة الرهد فاستوطنوها ، وأقاموا بها لكي يعملوا فيها بالتجارة. وقد سكنوا في حي صغير خاص بهم ، ومنازله متجاورة ، بالمنطقة الواقعة إلى الجنوب من سوق المدينة مباشرة.
بعد أن أكمل الطاهر دراسته الأولية في أواخر خمسينيات القرن الماضي ، لحق بأعمامه وأقاربه الآخرين في الرهد ، وانخرط معهم في العمل بالتجارة. وقد كان في أثناء ذلك ، شغوفاً جداً بالقراءة والاطلاع ، فثقَّف نفسه تثقيفاً ذاتياً مكيناً ، جعله في مستوى لا يقل بأي حال من الأحوال عن مستويات أترابه من مثقفي المدينة ، حتى بعض أولئك الذين تلقوا تعليماً عالياً ، بل لعله كان يتفوق على بعضهم بكل تأكيد.
ولما كان حيُّهم قريباً من محطة السكة الحديد بالرهد ، وهي محطة كانت كبيرة وعامرة جدا ، إذ أن الرهد هي رئاسة " قسم " ، بحسب تقسيمات السكة حديد الإدارية ، مثل سنار وكوستي وبابنوسة الخ ، فقد كان الفتى الطيب ، يختلف إلى نادي السكة حديد ، مما جعله يحتك بالكثيرين من الموظفين والعمال الذين كانوا يُنقلون إلى تلك المدينة الصغيرة من مختلف أصقاع السودان.
وتحت تأثير أجواء نادي السكة حديد بالرهد ، وحركة العمال والشغيلة ، ونشاطهم النقابي الدائب باعتصامته وإضراباته وما إليها ، وخصوصاً جو النضال والكفاح المحتدم والصاخب الذي أشاعته روح ثورة أكتوبر 1964م في جميع أرجاء البلاد ، انضم المرحوم الطاهر الطيب لعضوية الحزب الشيوعي السوداني ، وصار فيه عضواً ملتزماً منذ عام 1965م، ، أي وهو في نحو التاسعة عشرة من عمره ، كما أخبرنا هو نفسه بذلك. ثم أن الطاهر تعلم الجدل ومرنَ عليه ، حتى صار " منضمةً " مفوَّهاً لا يُشقُّ له غبار.
ولكنَّ الطاهر تنسَّكَ منذ نحو عقدين من الآن ، وسلك الطريقة القادرية على يد الشيخ " أحمد الشايقي " رحمه الله ، بل ظلَّ يعتمر طاقية خضراء اللون ، وصار مقدَّمَاً في الطريقة في أمان الله.
وقبل ذلك عمد الأستاذ الطاهر الطيب ولبضعة عقود ، لتوسيع وتكثيف أنشطته الثقافية والاجتماعية والرياضية ، حيث جرى انتخابه سكرتيراً عاماً لنادي " التضامُن " الثقافي الاجتماعي الرياضي بالمدينة لأكثر من دورة ، بل كان هو في الواقع قطب رحاه ، وقاطرته الساحبة في معظم الأوقات.
أما دُكان الطاهر الطيب ، ( يا حليلو .. هكذا كنا نسميه وكأنه في خلدنا مؤسسة لها شخصيتها الاعتبارية القائمة بذاتها ) ، فقد كان إلى جانب كونه حانوتاً تقليدياً مثل غيره من الحوانيت الأخرى بمدن السودان الصغيرة لبيع المسلتزمات المنزلية الأساسية والخردوات ، كان بالنسبة لنا نحن خاصة ، طلاب الجامعات والمعاهد العليا من أبناء المدينة بين منتصف السبعينيات ومنتصف الثمانينيات من القرن الماضي ، بمثابة المنتدى الاجتماعي والثقافي والسياسي النهاري اليومي الراتب ، أثناء العطلات الصيفية.
كنا نتوجه من بيوتنا في نهار كل يوم تقريبا من أيام العطلات بعد الإفطار – وكان الناس يفطرون باكراً نسبياً - تلقاء دكان الطاهر الطيب ، ونلتقي فيه ، ابتداءاً من نحو الساعة الحادية عشرة صباحاً ، وحتى الساعة الثانية بعد الظهر ، فيستقبلنا هاشَّاً باشَّاً ، فنتوزَّع جلوساً على ما تيسر من كراسي بالدكان ، أو فوق أكداس جوالات الذُرة والسكر والفول المصري ، أو صناديق الشاي الكبيرة وغيرها. وربما جلس بعضنا على الطاولة الكبيرة التي تكون أمام البائع نفسه ، أو ما يسمى ب " البنك ". ثم يُجاء إلينا بالماء البارد وبالمشروبات الساخنة كل حسب طلبه ن من شاي وقهوة وكركدي " شيريا " الخ ، والجميع على حسابه ، وهو يشدد على ذك حالفاً بالطلاق ، رغم التقدمية والأيه والأيه.
ثم يبدأ تجاذُب أطراف الحديث بهدوء وعلى مهل ، غالباً في مواضيع تتعاق بسير تنفيذ برنامج العمل الصيفي لرابطة طلاب المدينة ومجلسها الريفي ، أو قضايا أخرى تهم المدينة أو أحوازها ، ثم ما يلبث المجلس أن يتحول إلى شيء أشبه بركن نقاش بإحدى الجامعات ، وبمشاركة الجميع الذين يمثلون كافة ألوان الطيف السياسي والفكري والحزبي الخ في السودان.
وسائرهم فتيةٌ أينعوا
رأوْا شُعلةَ النُّورِ فاستبسلُوا
كما قال أستاذنا المرحوم الشاعر " محمد الواثق ".
وقد كان كل ذلك يمضي في إطار من الود والاحترام والإخاء الحقيقي ، بل روح الدعابة والمرح ، وخصوصاً عندما ترتفع عقيرة أخينا عبد الحليم عمر النمر ، الطالب بكلية الطب بجامعة الخرطوم آنئذً ، واستشاري الطب الباطني بقطر حالياً ، بضحكته المجلجلة وقفشاته الرائعة ، التي لقبه المرحوم الطاهر بسببها " أبو الهول ".
وقد كانت تحدونا جميعنا ، رغبة أكيدة في تطوير مجتمعنا الصغير آنئذٍ ، انطلاقاً من أشواقنا وأمانينا الكبرى الطامحة لإصلاح الأوضاع في السودان بأسره كل من منطلقه ووجهة نظره ، وقد كانت تقف من وراء ذلك - بكل تأكيد – الرعاية الأدبية والمعنوية واللوجستية لأخينا الكبير الطاهر الطيب ، الذي كان يشاركنا النقاش بآرائه الخاصة ، مثله مثل غيره من الحضور ، من غير إملاء ولا فوقية.
وكنا نحرص على أن يزور تجمعنا بدكان الطاهر ، كل من يلم ببلدتنا من زملائنا بالجامعة لأي غرض من الأغراض ، خصوصاً من أبناء مدن وقرى كردفان المجاورة ، مثل طالب الطب آنئذٍ ، الدكتور سليمان عبد الرحمن حاج سليمان ، أو الدكتور سليمان مرحب مدير مستشفى الأمل التخصصي ببحري حالياً ( ود أم روابة )، وطالب الهندسة وقتها ، والباشمهندس حالياً ، الخلوتي الشريف النور الأمين العام للصندوق القومي للاسكان ( ود أم دم حاج أحمد ) ، وطالب اقتصاد الخرطوم آنذاك ، والاقتصادي المرموق حاليا ، حسن مُركز ( ود الجفيِل ) ، وطالب هندسة الخرطوم وقتئذٍ، والمهندس الكبير حالياً ، عبد الله أبو سارة ( ود عرديبة ) وغيرهم. بل كان ينضم لمجموعتنا أحياناً بعض أصدقاء الطاهر من شباب المدينة من غير فئة الطلاب ، مثل الأستاذ إسماعيل سالم أبو علامة " الذبيح " وغيره.
ويقيني في الختام ، أنَّ نعيَّ الطاهر الطيب لن يشقَّ علينا نحن وحدنا ، فئة طلاب الجامعات والمعاهد العليا السابقين بالرهد ، وقد صرنا كهولاً الآن ، فضلاً عن سائر الأجيال التي أتت من بعدنا ، وإنما على كل من عرفه ، وتعامل معه ، خصوصاً من فئة الموظفين والعمال بمدينة الرهد ، تلك الطائفة التي أضحت مستضعفة من محدودي الدخل ، الذين دالت دولتهم ، وجار عليهم الدهر بعد أن اغتالهم غول السوق الكريه ، والرأسمالية المتوحشة في كل مكان في السودان والعالم ، فكم كان يُحسن التعامل معهم ، وكما كان " يُجرّرْهم " سائر احتياجاتهم ومستلزمات أسرهم ، ويصبر عليهم الشهور الطويلة للسداد ، كما سوف تبكيه عشرات النساء الأرامل ، والأطفال اليتامى ، وغيرهم من جموع الفقراء والمساكين الذين كان يحنو عليهم ، ويسد حاجاتهم ، ويمد إليهم يد العون والمساعدة سريعاً وخفيةً ، صوناً لكرامتهم ، ومراعاةً لمشاعرهم ، من دون تبجح ولا مراءاة.
ألا رحم الله أخانا الأستاذ الطاهر الطيب رحمة واسعة ، وغفر له ، وتجاوز عن سيئاته ، وأنزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا. وجعل البركة في رفيقة دربه ونجليه " راشد " و " غسَّان " وشقيقاتهما ، وأحسن عزاءهم وعزاء جميع آله وذويه ، وعارفي فضله فيه .. إنا لله وإنا إليه راجعون.
//////////////////////