الزبير باشا لم يجمع السودانيين خلال حياته

 


 

 

 

من أكابر السودان قبل ظهور الدولة الحديثة، الرجل عمل تاجرا - ناهيك عن أنه كان من أعيان السودان، إلا أنه لم يبلغ ذلك بالوراثة، بل من خلال وجاهته الإجتماعية، كما أنه أصبح معارضا سياسيا ضد بريطانيا، وقد منحته تلك الأدوار مكانة إجتماعية وسياسية في أوساط مكونات من المجتمع السوداني المنقسم على ماهيته اجتماعيا،وسياسيا واقتصاديا.

كان بمقدوره مقايضة بريطانيا والبقاء في السودان، إلا أنه غادر، وبطبيعة الحال ليس من منظور الحرص على السودان، بل بفعل شخصيته النرجسية، حيث كان له مشروعه السياسي الموازي للحكم المصري والبريطاني، فطموحه كان يلامس حكم السودان.
وقد قطع عليه الطريق نحو ذلك، وتلك النهاية لطموحاته فرضت رحيله وبقائه في المنفى، وصدامه مع الأجنبي جسد رمزية نكاية بخصومه.

لقد كان ملكا غير متوج وصاحب نفوذ في العديد من جهويات السودان، طوعا وقهرا، ونظرة سودانيو زمانه له، غلب عليها التبجيل لقدره، إذ كان جزء من تاريخهم واقتصادهم الذي تعارفوا عليه، وبغض النظر عن طبيعته الغير إنسانية، وما يؤكد ذلك أن طبيعته لم تكن إستثناء عن غالبية أعيان السودان والذين لم يكونوا يرون تجارة الرقيق كجريمة في حق البشر.

هل كان جون قرنق راضيا عن الزبير باشا رحمة؟
بعد إستثناء الجنوبيين كان الكثير من السودانيين يتعاطفون مع قرنق ونظروا له على أنه مخلص بلادهم من حكم الكيزان، إلا أنه لم راضيا عن ذاكرة الزبير باشا، فالنائب السابق للبشير وقومه لم يكونوا على رضى تجاه ماهية الباشا تاريخيا، ولأجل ذلك أصبح هذا الأمر أبرز مآخذهم على صناع التاريخ السوداني المسلمين، وانطلاقا من ذلك حشدوا التعاطف مع مشروعهم داخليا في أوساط الجنوبيين تحديدا وعلى المستوى الخارجي.

فالزبير باشا كان بالنسبة للجنوبيين مؤسسا للإرث الذي سارت عليه الدولة السودانية بعد الاستقلال، لدى ليس هناك خلاف بين الشعب السوداني في الجنوب على ماهيته، ببنما نجد التباين على ما كان يمثل بين سودانيو الشمال، أكان على اعتبارات قبلية،جهوية،أيديولوجية وإنسانية.
والنتيجة أنه مختلف عليه، بفعل أدواره وتعدد المكونات السودانية والرأي العام تجاهه، ولا شك أن حسم ما كان يمثل ذو ارتباط بالوعي العام ومدى شفافية الجهات الرسمية القادرة على المساهمة في تحقيق طبيعة تلك الشخصية الجدلية.

وهناك مؤيدين له بغض النظر عن استيعابهم لتاريخه، والكثير من هؤلاء يرون أنه كان إبن بيئته التاريخية، وأن الحقبة التي عاصرها فرضت النمط الإقطاعي وتجارة الرقيق، وفي المقابل هناك الكثير من ضحايا ذلك النظام الاقتصادي لا يرغبون حاليا في التحقيق ونبش تاريخ مضى، وذلك بعد أن تجاوزوا أثار وذاكرة تلك الحقب السابقة، حتى لا تفسد عليهم حياتهم الراهنة.
وهناك من هم مدافعين عن بعض تلك الرموز لاعتبارات قبلية أو جهوية وايديولوجية.

فهل كان الزبير باشا رحمة لسودان؟
في عيون الجنوبيين وأهالي غرب السودان وتحديدا دارفور، لا يبدو الأمر كذلك، فكلا أبناء تلك المناطق يرونه أنه أضر بحياتهم، وأن ما تعرضوا له في ظل دولة الاستقلال كان امتداد لنهج الزبير باشا تجاه حريتهم واستقلاليتهم في شؤونهم، وأن ارتباطه مع الدولة المصرية قد أضر بهم.

هل يحسم هذا الجدل التاريخي بالعودة لمرجعية الدين بحكم أن المجتمع السوداني مسلم؟
بدورها لن تحسم طبيعة الجدل والاختلاف تجاه تاريخ الرجل، إذ سنجد فقه إسلامي يساند وجهة النظر المؤيدة لرق.
ليس ذلك فحسب، فالاسلام ذاته كدين لم يحرم العبودية بصورة حاسمة، ويحل استعباد البشر ومفهوم ملك اليمين يشمل المسلمين ذاتهم.
وبالعودة للعادات والتقاليد بدورها لن تكون على قطيعة مع تلك الظاهرة التاريخية، والتي لا زالت أثارها راسخة في السودان.

سيرة الزبير باشا والتي لم يستطيع السودانيين حسم مضمونها وما تمثل من رمزية، ليس إستثناء سوداني سلبي عن واقع الجنس الإنساني، فهناك سير أقران الباشا في الكثير من البلدان، إلا أن هناك شعوب قطعت شوطا كبيرا لتصحيح تاريخها الإنساني والوطني، ووقفت أمام تمرير جلاديها وأعادت كتابة تاريخها كما يجب، ولم تقع في فخ تبرير أن تلك الممارسات حدثت انطلاقا من الواقع التاريخي لتلك الحقب، ورغم ذلك لا زالت تعاني الانقسام بصدد المواقف والتقييم.
أما على مستوى الدول فإنها لم تتمكن بدورها من الانحياز الإيجابي لأجل حسم الجدل.
بينما هناك شعوب ودول غير قادرة بعد على التصالح مع تاريخها وإعادة صياغته كما يجب.

فوجود النظم الإقطاعية والراسمالية في عالمنا المعاصر يمرر إرث العبودية السابق، كما إنه يجسدها على شتى المستويات الحياتية، وبطبيعة الحال فإن هناك الكثيريين ممن تقتضي مصالحهم بقاء الرق أيا كان شكله.

إذا أردت أن تدرك ماهية الزبير باشا فلست بحاجة إلى بحث وتحليل عميق، فعليك أن تنظر إلى وجوه الكثير من حاربوا الاحتلال الأجنبي لبلدانهم وقاموا بالثورات، وبعد أن تمكنوا ارتكبوا بدورهم ما قام به الاحتلال الخارجي تجاه شعوبهم، هذا المشهد يفسر عن قرب تضارب سيرة الزبير باشا رحمة وأمثاله هنا وهناك، وما يفوت على الكثيريين أن ما يقدمه الشخص لوطنه واجب، أما ممارسته التجاوزات فلا تفارق سجله السلبي، وعرف المحاسبة واجب، أما التكريم فهو خيار خاضع للقياس والمعايير، ويستحسن منحه لصاحب سيرة يجتمع حولها الناس ليس في حياته فحسب، بل بعد وفاته أيضا.

خالد حسن يوسف

khalidsf5@gmail.com

 

آراء