لن نقُل كما قال أحمد بن الحسين الجعفي الكوفي " المتنبي " في هجائه مصر وأهلها :
إني نَزلتُ بكَذَابينَ ، ضيفُهُمُ .. عن القِرَى وَعَنِ الترْحالِ محْدودُ جودُ الرّجالُ من الأيدي وَ جودُهُمُ .. منَ اللسانِ فَلا كانوا ولا الجُودُ نامَتْ نواطيرُ مِصرٍ عن ثَعَالِبِها .. فَقَدْ بَشِمْنَ و ما تُفنَى العَناقيدُ
وطننا هو القصعة التي تقاتل عليها أبناؤه ، ومصرُ تُجهز لهم في الباطن مثل حملات " محمد علي الكبير " : التي كانت تطلب الأرض والرجال والذهب ، وهذه تطلب النيل والأرض ، في وطنٍ صار الأعز فيه الأذل . لا يلتفت القوي أو المُخادِع إلا ليستأثر بالقصعة لنفسه ، في حين مصر تُجهز عدة القتال في السِّر ، ليست للدولة الصهيونية التي قصمت ظهرها في الماضي ، بل لقصعة السودان ، التي ساد فيها من لا يستحق ، ونامت نواطير بلدنا عن ثعالبها . وهو البيت الشِعري الذي يصحُ في بلدٍ تكالب القلّة من أهله بالضغينة والحسد وسوء الطوية . ونشروا سُمّهم بين الأهل والأقربين ، فخرج بعض أهلنا من بلد كانت" تكسو الكعبة المشرفة " إلى بلدٍ يسترزق أبناؤه وبناته من صحن التسول في المُهاجر ، أو ماتوا دون مأربهم غرقاً.
تلك العصبة الصهيونية هي التي احتلت مصر وأراضيها ، وبقيت تُنازعها آخر الأمر أرضاً صغيرة تعادل ألف مترٍ مربع تبقت ، وكانت في منطقة " طابا" ، لم تُعيّنها بالدليل إلا دار الوثائق القديمة في الخرطوم برئاسة "دكتور إبراهيم أبو سليم "، ذلك القيّم على التوثيق في بلدٍ اعتاد أهله تدمير وثائقهم بالجهل حيناً وبسوء النيّة أحياناً كثيرة !! .
تلك الأرض السودانية الخيِّرة بأهلها هي ، التي سندت مصر أيامٍ جفل عنها الجميع جفولهم عن المجزوم ، حين وقّعت اتفاقية " كامب ديفيد " مع الصهاينة دون مشورة أحد ! . وإنها لحسرة ، إذ لم يقف معها سنداً إلا سلطة السودان في ذاك الزمان !. وإنها لحسرة أيضاً أن يتقاتل عندنا أبناء الوطن الواحد ، في حين حسمت مصر أمر " حلايب " منذ منتصف تسعينات القرن الماضي ، في تسوية سرّية مع المتأسلمين ،بالصمت عن القادة المشاركين في عملية محاولة اغتيال الرئيس المصري " حسني مبارك " عام 1995 ،قبل أن يتم حسم الخلاف بين البلدين حول اتفاقيتي عام (1899 ) التي حددت خط عرض عند الدرجة 22 حدوداً شمالية للسودان ، والثانية وهي الاتفاقية الخاصة بالحدود الإدارية عام ( 1902 ) التي بموجبها تمّ ضم " حلايب " للسودان !.
(2)
لن تعترف مصر بنديّة السودان ، فليس في تاريخها الماضي ولا القريب ،درجة مع الرأفة مع أهلنا . قبل زمان مضى هاجر تُجار السودان إلى مصر وقفلوا محالهم التجارية، بعد أن وجهت سلطة "25 مايو " سهامها تستقصدهم. بدأ كثيرون في مجلس الشعب المصري يتململون و يتحدثون عن هجرة السودانيين لمصر ، على أنهم يضيّقون على أهلها . فوقف رئيسهم " حسني مبارك" يتحدث عن أن أموال السودانيين في مصر تعادل 18 مليار دولار! ، فتوقف الهرج . نورد عيّنة مما كتبه رجال الشِعر والسياسة في مواضي تاريخ مصر، منذ منتصف القرن التاسع عشر ، مروراً بالقرن العشرين . وضجَّ بها الإعلام في وقته وزمانه ، بل تمّ صياغة بعضه أغانٍ ، إزراء بالسودان وأهله . وتلك قصة لن تزول مع الوقت أو بالنوايا الطيّبة ، لكن يتعين أن تتغير صفة الحديقة الخلفية ، إلى معاملة النّد لشقيقه النّد . وتلك لا تأتي بلا صبرٍ و جلد ، ولكن الدولة القوية هي التي يقيم الأصدقاء قبل الأعداء حساباً حقيقياً لها. وفي وطننا ، بيننا وبين الجهل النشط في السودان بيدٌ دونها بيدُ ، قبل أن نستلّ الوطن من الذّل والخنوع.
(3)
خليل مطران (1872- 1949 ) كتب قصيدة ، نورد جزاء منها : فَلْتَحْيَا مِصْرُ وَشَطْرُهَا سُودَانُهَا .. وَلتَحْيَا وِحْدَةُ مِصْرَ وَالسُّودَانِ وَليَحْيَا فَارُوقُ المَلِيكُ المُفْتَدَى .. وَيَعِزُّ تَحْتَ لِوائِهِ القُطْراَنِ
(4)
رفاعة رافع الطهطاوي ( 1801- 1873)
كتب قصيدة يزري بمنفاه في الخرطوم منتصف القرن التاسع عشر :
رحلتُ بصفقة المغبون عنها .. وفضلي في سِواها في المزاد وما السودانُ قطُ مُقامُ مثلي .. ولا سَلماي فيه ولا سَعادي بها ريحُ السمومُ يشم منه .. زفيرَ لظى فلا يُطفيه وادي عواصفها صباحاً أو مساءً .. دواماً في اضطراب واطّراد ونصفُ القوم أكثره وحوشٌ .. وبعضُ القوم أشبهُ بالجماد فلا تعجبْ إذا طبخوا خليطا .. بمخ العظم مع صافي الرماد ولطخُ الدُّهْنِ في بَدنٍ وشعر .. كدهن الإبل من جَرب القراد (5) أحمد شوقي ( 1868- 1932) كتب قصيدة وضع ألحانها الموسيقار " رياض السنباطي " وغنتها " أم كلثوم " عام 1946. تقول أبياتها : وقى الأرض شر مقاديره لطيف السماء ورحمانها ونجّى الكنانة من فتنة تهددت النيل نيرانها عند الذي قهر القيصرين مصيرُ الأمورِ وأحيانُها ويختلف الدهر حتى يبين دعاة العهود وخوّانها فما الحكم أن تنقضي دولةٌ وتقبل أخرى وأعوانُها ولكن على الجيش تقوى البلاد وبالعِلم تشتدُّ أركانُها ولن نرتضي أن تقدَ القناة ويبترُ من مصر سُودانها وحُجتنا فيهما كالصباح ليس بمعييك تبيّانها فمصر الرياضُ وسودانها عيون الرياضِ وخُلجانها وما هو ماءٌ ولكنه وريد الحياة وشريانُها تتمم مصر ينابيعُه كما تتمم العين انسانها وأهلوه منذ جرى ماؤه عشيرة مصر وجيرانها وكم منْ أتاك بمجموعة من الباطل الحق عنوانها ودعوى القوي كدعوى السباع من الناب والظفر برهانها
(6)
مصطفى كامل ( 1874- 1908 )
في مقال كتبه "مصطفى كامل " في يوم 20 يناير سنة 1900 ، بعد مرور عام على اتفاقية (1899 ) ، نقطف منه ما أورده الدكتور " مكي شبيكة " في " السودان عبرالقرون ":
{ ...أجل كان الأمس تذكار المصيبة الكبرى والداهية الدهماء التي أنزلها وزراء مصر وساسة بريطانيا على أمتنا الأسيفة من سماء عدالتهم وإنصافهم . فإن كان لكم معاشر المصريين شعور وإحساس فتذكروا هذه الحادثة تذكُر الأحياء ، واعتقدوا أن حقوقكم في السودان مقدسة ، وأن كل المعاهدات والاتفاقيات لا تميت هذه الحقوق أبداً ، وعلموا أبناءكم معنى هذه الحقوق المقدسة ليطالبوا بها كباراً ، أو يحافظوا عليها إن استرجعتموها أنتم . تذكروا معاشر المصريين أن اخوتكم في الوطن والدين أهرقت دماءهم العزيزة في سبيل استرداد السودان . تذكروا معاشر المصريين أن أرض السودان رويت بدمائكم وصرفت فيها أموالكم وسلبتكم أشد الرجال وأعز الأبناء . تذكروا معاشر المصريين أن مصر لا حياة لها بغير السودان وأن القابض على منابع النيل قابض على أرواحكم . تذكروا معاشر المصريين أن ضياع السودان ضياع لمصر ، وأنكم بغير السودان فاقدون الحياة . تذكروا معاشر المصريين أن اتفاقية السودان مخالفة لدستور البلاد وفرمانات جلالة السلطان الأعظم ومعاهدات الدول الأوروبية . تذكروا معاشر المصريين أن فرنسا لم تنس الألزاس واللورين إلى اليوم ، وقد مضى على انفصالهما ثلاثون عاماً ، وما حاجة فرنسا إليها كحاجة مصر إلى السودان ....}