الزّبير باشا رحمة (1913/1831)
وإِذَا ظُلِمْتُ فإِنَّ ظُلْمِي بَاسِـلٌ..
مُـرٌّ مَذَاقَتُـهُ كَطَعمِ العَلْقَـمِ
ولقَد شَربْتُ مِنَ المُدَامةِ بَعْدَمـا
رَكَدَ الهَواجرُ بِالمشوفِ المُعْلَـمِ
عنترة الشاعر
(1)
لقد حاولتُ جهدي العثور على الحلقة التلفزيونية التي قام بتسجيلها الموثق الراحل " الطيّب محمد الطيّب"، وقد زار فيها قصر الزبير باشا بالجيلي المبني بالطين اللبن، والتقى ببعض من سلالة الراحل الزبير. وظهرت في البرنامج سيدة كبيرة السن تسمى ( الزّبير)، تيمّنا بصاحب السيرة. وقدمت له الأسرة مصحفا مكتوبا بخط يد الزّبير، كان قد كتبه وهو صائم، ذات مسلك أهل دارفور من رجال الدين ( الفقرا) في كتابة المصحف اليدوي. دعا الطيّب في الحلقة الباحثين للتدقّيق في نسبة جرائم الرّق التي نُسبت للزبير باشا وبحث دقّة التوصيف. وقد قرأت الكتاب الذي سطره الدكتور عز الدين إسماعيل بعنوان ( الزبير باشا ودوره في السودان - في عصر الحكم المصري)، وهو الاستثناء الوحيد الذي يدافع عن هذه التُهمة التي أُلصقت بالزّبير باشا!.
تقاطرت معلومات كثيرة تشيع أن الرجل تاجر رقيق، وقد تمّت تلك الأقوال من الإنجليز أكثر من غيرهم، وهم كانوا بعدين عن المسرح والعمل الميداني الذي رافق وجود الزّبير في قرى الجنوب ودارفور، حتى ترسّخ الزعم في الضمير العام. و نحتاج نحن أن نعيد النظر فيما يُكتب عن التاريخ وفق مصالح الذين يَكتبونه. ونستعيد المبادرة أن الحقيقة التي نسعى وراءها، هي حقيقة نسبية آخر الأمر، وهي بأية حال لن تكون حقيقة مطلقة. لأن مُلاك الحقيقة المطلقة، هم الذين يؤمنون بقدسية معتقداتهم. وتلك في حاجة لنقدها بإلحاح.
(2)
بعد الحروب التي شنها جيش هولاكو وأسرته على بغداد وسوريا، انهارت الخلافة العباسية، ولم يوقف الزّحف سوى المماليك في مصر، إذ هزموا المغول في معركة عين جالوت. وبعد هذه الأحداث الجسام، فرّ عدد كبير من مسلمي العراق طلبا للنجاة بحياتهم وذويهم، ومن بين هؤلاء الفارين الشيخ "جموع بن غانم" الجدّ الأكبر لأسرة الزبير. واستطاع أن يَفتدي حياته بكل ثروته التي تزيد عن مائة ألف دينار، ولم يلبث أن فرّ شطر الشام فرارا من المغول، ومن الشام مضت قافلة الشيخ "جموع " نحو مصر. وهناك توفى وخلفه ابنه، الذي شهد تولّي الملك المعز الحكم، بعد إقصاء شجرة الدّر، وما صاحب ذلك من قسوة الحياة، فانحدر الاتجاه بالقافلة جنوبا نحو النيل. استقرت العائلة على جانبي النيل الابيض، وبعضهم شقّ طريقه إلى دارفور وإقليم وادي النيل، والتي كان بعضها ينحدر من سلالة القبيلة المعروفة بالجميعاب، التي ترجع أصولها من الجّد الأعلى كما ذكرنا. واستقرّت على النيل بين جبل جيري وجبل الشيخ الطيب، واصبحوا مشهورين في أرجاء السودان .لم يكن السودان منطقة مغلقة عبر عصور التاريخ، أمام الهجرة العربية عن طريق مصر من الشمال. وقد وجدت قبيلة الجميعاب في بيئة السودان، ما شابه موطنها الأصلي من مراعٍ لم تجدها في مصر. وكان السودان متسامحا مقارنة بما لقيه من اضطهاد، إبّان العصور السياسية والمذاهب الدينية في مصر. وذلك مهّد الاتصال من الألفة والمودة بين المهاجرين والمستوطنين، التي بلغت حدّ المصاهرة والإقامة والاستقرار في هذه الربوع. وتمتد قبائل الجموعية والجميعاب على الشاطئ الغربي للنيل الابيض لمسافة 30 -40 ميل، جنوب أم درمان وإلى القرب من شلال السبلوقة وجنوب كرري، على الضفة الشرقية للنيل: وينقسمون الى: شاهيناب ، جوداب ، شيبراب ، والنامابات التي ينسب إليها الزبير رحمه. وقد عُرفت بقبيلة الأم بالجميعاب. أما نسبه، فهو الزبير بن رحمة بن علي بن سليمان بن ناعم بن سليمان بن بكر بن شاهين بن جميع بن جموع بن غانم العباسي. تمّ المسارعة بالترحيب بالحكم المصري التركي عام 1821، وعاهدوه على الولاء، وكان بينهم الشيخ رحمه والد الزبير ، ولد الزّبير في 8 يوليو 1831 في جزيرة واوسي.
(3)
تعلّم الزبير " بخلوة الشيخ أبو قرين " في مدينته الجيلي، ثم بكتّاب الخرطوم في ما ترويه بعض المصادر, فحفظ القرآن وتفقه على مذهب الإمام مالك. تدرب على ركوب الخيل ومارس التدريب على الفروسية. تزوّج الزبير خلال فترة حياته والتي امتدت 82 عاماً 40 زوجة أنجب منهن 34 ولداً و26 بنتاً. وعندما انتقل الزبير إلى الرفيق الأعلى في 16 يناير 1913م، كان في عصمّته من زوجاته الست "زينب بت منصور". و"سكينة محمد الأمين عمار" و "خديجة السنوسي" و "مدام كوخ". ثم له زيجات كثيرة أثناء إقامته في الجنوب. وكان تاجرا اقتضت حراسة بضائعه أن يكون رجال حراسة مسلحين، وتطورت إلى جيش. وخاض حروبا في الجنوب ودارفور. وخرج منهم جميعا منتصرا. وكان محبّا للحكم المصري التركي رغم خداع واجهه من قبل القادة المصريين والأتراك، وذاك عيبه.
(4)
قصة تسميته بتاجر العبيد.
عاد الزبير إلى دار زوجته "رانبوة" ابنة الملك "تكمّة" وبدا الإتجار كالعادة، وكانت العادة في تلك البلاد أن يعرضوا للبيع في الأسواق أصحاب الجنايّات كاللصوص والزناة، حيث يُذبحون كالنعاج، وتباع لحومهم طعاما لمن يشتري. ولما أحسّ الزبير بحاجته لجمع عدد من الرجال الذين يدافعون عن تجارته، رأى أن ينتهز هذه الفرصة ويفتدي من الذبح من يراه أهلا لحمل السلاح، من بين هؤلاء المذنبين، ففعل ذلك حتى اجتمع عنده 500 رجل، أنقذهم من المصير الرهيب الذي كان ينتظرهم، ثم قام بتسليحّهم بعد أن درّبهم على استعمال السلاح، فكانت هذه البداية لعهد القلاقل والصعاب، التي اكتوى بها الزبير في بلاد "النيام نيام " وبقية قرى الجنوب. كان التجارة التي يمارسها الزّبير وأشباهه، هي تجارة البضائع التي تروج ببلاد الجنوب، مثل الخرز بكافة أنواعه وأشكاله وأحجامه وألوانه، الودع والقصدير والقماش المصنوع من القطن، وغيرهم من البضائع للمقايضة عليها بريش النعام وسن الفيل والخرتيت والمطاط والحديد والذهب، وغير ذلك من موارد البلاد. واصطحاب رجال للقيام بأعمال الحماية لأحمال البضائع وأدلّاء ومرشدين عبر الطرق والمناطق التي يتجهون اليها.
(5)
قصة الزبير باشا وعبدالله التعايشي
ص 95 -96 من كتاب (الزبير باشا ودوره في السودان في عصر الحكم المصري) بقلم د. عزالدين اسماعيل: { كان من بين الأسرى الذين وقعوا في يد الزبير، بحلة السّروج رجل يدعى "عبدالله ود محمد آدم تورشين"، لم يتردد الزّبير في الأمر بإعدامه أول الأمر، ولكن العلماء المرافقين للزبير اعترضوا حين أمر الزبير بإعدام عبدالله، بحجة أن الشرّع لا يجيز له قتل أسير من أسرى الحرب، فضلا عن أن السياسة تنكر إعدام رجل يعتقد الناس في صلاحه، ويؤدي الى اعتقاد الناس أن الزّبير طاغية. وأمام هذه الأسباب عفا عنه الزبير. وعند فتح دارفور طلب "عبدالله" من الزبير أن يقطعه قطعة من الأرض، فأقطعه الزبير إياها على أن يكف عما فيه من الدجل والشعوذة، ولم يمض سوى القليل حتى بعث للزبير بكتاب، وهو في داره يقول له فيه{ رأيت في الحلم أنك أنت المهدي المنتظر وأني أحد أتباعك فاخبرني إن كنت مهدي الزمان لاتبعك } فرد عليه الزبير بالرد التالي:{ استقم كما أمرتك والا أعملّت السّيف في رقبتك إنني لست بالمهدي المنتظر، وانما أنا واحد من جنود الله يحارب من طغى وتمرّد) ورغم ذلك لم يكف عبدالله من الدجل والشعوذة، حتى اشتهر أمره مع محمد أحمد المهدي في جزيرة ابا.}
*
وصل الخلاف بين الزّبير وبين حكمدار السودان ورجالات الحكم بعد أن توسع نفوذه، أن قرر السفر للقاهرة في 10 يونيو 1875 ليوضح مظالمه للخديوي. وهناك تمّ احتجازه، ولم يسمح له بالعودة للسودان.
(6)
وفي أثناء وجوده في مصر التقى بابكر بدري، الذي قدم مجاهدا في معركة توشكي التي انهزم فيه جيش النجومي، والذي أورد في مذكراته( حياتي) الآتي:
{ انتصب الباشا الزبير، بعد إتكاءة خفيفة، ثم قال لي:
- إن المرأة التي تزوجّتها أنا قالوا امرأتك!
قلت:
- بل مطلقتي.
قال:
- لا امرأتك.
قلت:
- سبحان الله يا سعادة الباشا، أنا الزوج الأول اعترف بالطلاق، وأنت الزوج الثاني تدّعي ضده، فهذا معكوس.
قال : اسمع يا بابكر أنت قلت كل ما ذكرت، والحقيقة أنت جئت لامرأتك أو لرجوع مطلقتك.
قلت:
- من أين أخذت هذا يا سعادة الباشا ؟
قال:
- أنا رأيت كتابتك التي جاءت منك بالرغبة، ورأيت الجوابات التي راحت لك بالإجابة.
قلت:
- لما رأيت كل هذا لماذا تزوجتها؟
قال متهيجا:
- يا ولد ضحوي، يا رضوان، يا ود المجذوب، تعالوا اسمعوا هذا الكلام. هذا الولد الذي تقولون صغيرا لا يُعبا به، أنا والله منذ كنت الزبير، ما سمعت مثل هذا الكلام. ما هذه البلادة (شفت كتاباتك ) ( عرستها ليه لما شفتها؟) ما بلادة أشهد على نفسي!.
ثم خرج الجماعة الثلاثة والتفت اليّ:
- اسمع يا بابكر المرأة دي أنا صرفت عليها نحو ثلاثمائة جنيها، من مصاغ إلى لباس إلى فراش، شيء يليق بمقامي أنا، والآن عزمت أطلقها، وتبقى معي حتى تستعد، وارجعها لك بما عملته لها ، وأنا الزبير أعمل لك هذا كله.
قلت متحمسا:
- انت والله هذا ليس لك بفخر.
قال:
- انت تعمل هذا.
قلت:
- نعم أنا ما عندي مال كهذا، ولكن إذا تكتب لي خطابا تطلب مني طلاق زوجتي، وإرسالها لك أعمل ،فانظر أنت أصعب الزوجة أو المال.
سكت مليا ثم قال:
- إن كنت تجبر خاطري وتعتبرني كوالدك، تقبل مني طلاقها ورجوعها لك، لأتدارك غلطتي.
قلت:
- يا سعادة الباشا هذه البنت، كانت ترى بيتنا أكثر من بيت أبوها، والآن صارت في بيت الباشا، الذي هو أكبر بيت سوداني، الآن فلا ترضى بي.
قال:
- عليّ الطلاق راضية بك لأني حين أخبرتها بوجودك، جرت مدامعها وبدا عليها أثر الحزن.
(7)
اندلعت الحرب بين روسيا والدولة العثمانية سنة 1877 وعُيّن ضمن ضباط الحملة التي عهد إليها للأمير حسن باشا بأمر قيادتها. وأُسّند إلى الزبير قيادة وحدة خاصة من الجيش، مكوّنة من أربعة آلاف رجل. وقد أبلى الزبير باشا بفرقته بلاء حسنا في هذه الحرب، وكان بفرقته دوما في طليعة المهاجمين وكثيرا ما أوقعت الهزيمة في صفوة الجيوش الروسية.
ولما نشبت معركة مدينة "صاري" ظهرت بطوّلة وقوّة شكيّمته في القتال، وقد كاد الزبير أن يفقد حياته مرتين في ذلك اليوم. وقد انتهت المعركة بانتصار الجيش العثماني. وقد أثنى عليه الأمير حسن باشا وقال له وهو يشدّ على يده مصافحا:
{ لم أكن لأصدق كل ما كان يقال عن شجاعتك ودهائك في القتال في ربوع السودان ، ولكنني بعد أن رأيتك بالأمس وأنت كلما سقطت من تحتك جواد تستبّدل به غيره، ثم تمضي متقدما الصفوف. آمنت بأن ما يقال عنك، إنما هو في الواقع شيء قليل بالقياس لما أنت عليه}
*
ساءت حالة الزبير الصحية بعد ذلك، ووقع فريسة للمرض ورأت القيادة إعفاءه من التقدم، فأُرسل في حراسة فصيلة من الأتراك إلى الاستانة، حيث أنزلوه في أحد المستشفيات للعلاج، وبعد أن تماثل للشفاء دعي لمقابلة السلطان عبد الحميد، وكان قد وصلته أخبار حُسن بلائه في معركة صاري نصوحلر، فرحّب به وأنعم عليه برتّبة الفريق الرفيعة، وبالنيشان العثماني الثالث، ثم أمر ياوره بالسّهر على راحته مدة إقامته بالاستانة، حيث أقام في أحد القصور المطلّة على البسفور. وبعد تمام شفائه عاد للقاهرة، فعاود الخديوي تهنئته ثم نزل في قصر الجيزّة.
(8)
أرسل الزبير الرسالة التالية لغردون باشا الذي طلبه لمساعدته في السودان في 16 ابريل سنة 1884، بعد ان تآمر لاغتيال ابنه سليمان من قبل، بالتلغراف التالي:
{ إلى غردون باشا بالخرطوم. لقد تشرفنا بورود تلغراف سعادتكم المتضمن تعييننا من طرف سعادتكم وكيلا لحكمدارية عموم السودان، ونعرّف سعاداتكم أننا في غاية التشكّر ونهاية الممنونّية من حسن التفات سعادتكم، وجميل توجهاتكم في سائر الأحوال، ويسوئني أن أعرّف جنابكم مع غاية الأسف، بأن الحالة الحاضرة لا تسعف الآن بالمرغوب، وأرجو الله تعالى أن يديم سلامتكم ويتم نجاحكم بما فيه الخير والصلاح العمومي، أفندم}
(9)
الزبير منذ نفيه عام 1885 لجبل طارق بعد أن أتت المؤامرات أُكلها، كان معتادا على ردائه الأسمر اللون أو بلون الخردل، وفي بعض الأحيان يرتدى جاكيتا ضيقا أسود اللون وسروالا مخططا، وساريا من الجلد وحذاء شرقيا مألوفا، وكان في ردائه أشبه بالأوروبي الذي لم تكتمل مدنيّته، وكانت يداه مرسومتين بدقة حساسة، ذات أصابع طويلة جدا وقدماه نحيفتان طويلتان أيضا. أما ملامحه فكانت سوداء جدا، وغريبة حقا على ذلك اللون الأسمر. وكانت جبهته بارزة تشبه الجمجمة، يبدو الجلد منها مشدودا والعينان غائرتين لا يكاد يبدو لهما بريق، ولم يكن يتزيّن بأية مجوهرات باستثناء خاتم شاحب اللون غير شفاف، كان قد أحضره معه من بحر الغزال، وقد منحه للمستر سدني عندما غادر جبل طارق. وقد كان الزبير نادرا ما يخرج من مقره إلى الأرض المحيطة، لأنه لم يكن يشعر بالابتهاج في هذه المنطقة التي حُددت فيها إقامته، أو بالنسبة للظروف المحيطة به، لكن خطواته كانت تتصف بالسرعة والانسياب، والتي نسمّيها بحركة الحصان، وقد كان هناك وداع حزين بين كاتب المقال والزبير أراد الزبير أن يسجله بقوله:
{ لقد أضحيت رجلا عجوزا، وأصبحت من الآن أترقب الموت، ولكنني قبل أن أموت أحب أن أرى بلادي، التي شهدت أيام صباي تنعم بالسكينة والسلام، وأن أرى التجارة تزدهر عبر النيل من أقصاه إلى أدناه، قد لا أعود إلى وطني، ولكن إذا تيسر ذلك، فإنني سأعمل على تقديم النصيحة التي أعطيها الأن لشعبي، الذي سيبارك ويذكر اسمي بكل ما هو طيب، لأنني لا أرغب في أن أكون عظيما، فسوف أنال ما أستحقه من دعوات في قبري، بعد موتي بزمن طويل، ولو أنهم استخدموني لعمل أي شيء فإني سأكون مسرورا وسيكون ذلك طيبا، واذا لم أعد بلا فائدة، فإن ذلك أيضا شيء طيب، ولكن دعني وعائلتي ترحل من القاهرة إلى السودان، فسوف أذهب إلى إحدى المدن المقدسة: مكة أو المدينة او القدس، وهكذا اقضي بقية أيامي ...}
*
نقل المقال الحارس وقد كلفه السير جون ـآدي بهذه المهمة، كانت هذه آخر كلمات الزبير وهو يودّع صاحب هذا المقال والحارس لمقر إقامته، وقد رأينا كيف أنها تعبّر عن نفس صافية، لا يملوءها الحقد أو الضغينة على أحد، بل كانت هذه النفس فريسة لمن ظنوا به سوءا، دون أن يحمل لهم هو أيّ كراهية رغم ما فعلوه معه. كان مؤمنا بالحكم المصري التركي، وكان مخلصا له.
(10)
طول إقامة الزبير في مصر امتدت لسنوات عديدة، بدأت منذ وصوله اليها في العاشر من يونيو سنة 1875 حتى تاريخ رحلته الاخيرة الى السودان في العاشر من اغسطس سنة 1912، لم يبتعد فيها الزبير عن مصر الا مرات معدودة، بدأت بسفره في الرابع عشر من أغسطس سنة 1877 ضمن الحملة التي أرسلتها مصر لمساعدة الدولة العثمانية في حربها ضد روسيا، ثم عودته منها في السنة التالية، والمرة التي ترك فيها مصر عند نفيه إلى جبل طارق في أغسطس سنة 1887. والمرة الثالثة هي زيارته الأولى للسودان في أواخر سنة 1903، وعودته منها في أوائل سنة 1905. وبحسبة بسيطة نجد أن الفترة التي قضاها خارج مصر في أسفاره هذه، لم تزد على خمس سنوات، بينما امتدت إقامته في مصر الى السبعة وثلاثين عاما، وبذلك يمكن القول بأن مصر أصبحت بالنسبة للزبير بمثابة الوطن الثاني، ولكننا لا نستطيع أن نقول إنه قد أصبح مواطنا مصريا، لأنه بالرغم من طول مدة إقامته في مصر، بالرغم من أسفاره الكثيرة خارجها، والأحداث والظروف التي مر بها، والشخصيات التي احتكّ بها وعرفها، وبالرغم من المظاهر الحضارية التي لمسها في مصر وخارجها، فان كل ذلك لم يجعله يفرط في التمسك بسودانيته، وكل ما يتصل بها من عادات وتقاليد، انعكست صورتها في شخصيته وسلوكه، اللذين حببا اليه الكثيرين ممن عرفوه واتصلوا به، الا أنه رغم ذلك عاد الى رطنه السودان، وهو متمسك بكل ما هو سوداني فحق لوادي النيل أن يفخر به ويضعه بين عظمائه.
توفي الزبير صباح السادس من يناير سنة 1913، بعد حياة امتدت لاثنين وثمانين عاما. نُكّست الاعلام وتم إقامة جنازة رسمية له من قبل الدولة، الى مقابر الجيلي حيث مضى باحتفال عسكري مهيب.
عبدالله الشقليني
12 مايو 2020
alshiglini@gmail.com