السكر … “نسخة” شعبية للغلابة

 


 

 

بِغِــمْ



halimam2001@yahoo.com


مقدمة:  ما  المانع  في أن تخصص الدولة  سكر (تكرير فاخر) للمقتدرين،  ونسخة تكريرية شعبية للغلابة والكادحين، تسلم للأول في فيللته ، وتباع للثاني  في حلته  (عملا بهذا رجل وذاك كراع)، ومنذ الآن فإنني أضمن للحكومة إن باقي الشعب الفضل  من ناس حلتي لن يقول بغم، خوف (القَرْيَفة)

(1)
بصفتي محسوبة على الطبقة (التحتية) من  الشعب السوداني الواقع بين ناري  الغلاء  الطاحن  والمبررات الدينية له، لم أتمالك نفسي من الضحك ساخرة وأنا اقرأ للمرة الأولى بشارة الحكومة الجديدة لنا، بابتكارها تلك الخاصية "الفريدة" برفع الدعم عن سلعتي السكر والبنزين، بحجة حرمان الأغنياء من الاستفادة من الدعم،  و ربما الاكتواء (معنا) بنيران الغلاء. بالتالي فإن فاتتنا المساواة في حياة الدعة والترف، فقد ساوت الحكومة بيننا– ولو ظاهريا وحسب منظورها– و بين الأغنياء في الشظف، هذا إن تشظفوا، علما بان طعم "المعاناة" الدائم في أفواهنا لا يماثل طعمها الطارئ على افواههم.

ثم منذ متى تؤثر مثل هذه القرارات في  طبقة الأغنياء في المجتمعات الشبيهة بمجتمعنا؟ والأهم من ذلك كيف يتسنى  لنا  أن نعقد مقارنة بين فئتين إحداهما تملك كل وسائل مقاومة الغلاء مهما تعددت وجوهه التي يظهر بها ، بينما الفئة الأخرى معدمة يبيت أفرادها الطوى ومعدتهم خاوية ولا بارقة امل تلوح أمامهم بأن الغد ربما يحمل جديدا؟

(2)
لكن ماذا نقول؟  تلك  هي المساواة  "البشيرية"،  بين طبقتي الأغنياء والفقراء.     و المؤسف  أن الرئيس البشير أطلق صافرة البشارة  والعيد على الأبواب، والناس  ينتظرون مكرمة منه ، خاصة وأنهم  استقبلوا رمضانهم  بهلع  وخرجوا منه بهلع اكبر. أولئك الذين صور خوفهم  وهلعهم وتساؤلهم "عن الحال الوقف ما زاد" ، الشاعر المبدع هاشم صديق في احدى قصائده:
و(صابر) سارح
لنفسو يصارح
-يا صابر هوي
رمضان جاييكا
حتجيب من وين
قروش السكر
وحق الويكة؟!

وبمناسبة الويكة، فقد علق احد الإخوة الساخرين من أهلنا بالجزيرة المروية (سابقاً)، قائلاً:
"الويكة الضيف الثقيل الثابت على مائدتنا، نأكل كل يوم ويكة أو بامية مفروكة، وحينما ندخل عالم المدنية والرقي، نأكلها مطبوخة".
لكننا عشنا إلى اليوم الذي رأينا فيه كيف أن  ربع كيلو اللحمة، ، ايا كان تصنيفها المُراحي، الضيف المعتاد على الطبيخ اليومي للأسرة السودانية  المكونة ربما من ثمانية افراد، عز هو الآخر ولحق بالطماطم، ولم يعد باستطاعة كثير من الأسر شرائه إلا بشق الأنفس ، أو مجزءاً  هو الآخر إلى أربعة أجزاء، الأمر الذي جعل بعض الساخرين يطلقون عليه بسخرية مريرة لقب "مس كول"،  ولا عزاء للباحثين عن "المزَزْ" ، ولا  عتبى لمحدودي الدخل أو الطامعين في أن ينزل كيلو الطماطم هو الآخر من عليائه العشرينية.

(3)
ما فات على رئيسنا العزيز، او تجاهله عمدا، إن التفاوت بين الطبقتين يظل قائما في حالة دعم الدولة لسلعة ما  أو رفع يدها عنها،  لان السياسة التي تطبقها حكومته منذ عقدين من الزمان هي التي كرست وما زالت تكرس لهذا التفاوت أكثر مما فعلت أي حكومة سودانية سابقة.  كما أن "الإخوة" الأغنياء لا يتأثرون كثيرا بأحوال السوق و سُكَره صعودا أوهبوطا.

المفارقة الغريبة أن نشر اللقاء  جاء متزامنا  مع اجتهادات بعض رجال الدين المحسوبين على النظام، والتي تم فيها دمغ الغلاء  بصفة الابتلاء الرباني ، ليبدو الأمر كأن الحكومة لا ناقة لها فيه  ولا جمل، و بالتالي يتوجب على الشعب الصبور،  القبول والتسليم به كأنه قضاء منزل والاحتساب إلى يوم الحساب ولا عزاء " للشفقانين".  وبما ان هذه الحجة لن تنطلي على الشعب ، لان  الكتوف لن تتلاحق  ابدا في هكذا وضع اقتصادي، فما  المانع  في أن تخصص الدولة  سكر (تكرير فاخر) للمقتدرين،  ونسخة تكريرية شعبية للغلابة والكادحين، تسلم للأول في فيللته ، وتباع للثاني  في حلته  (عملا بهذا رجل وذاك كراع)، ومنذ الآن فإنني أضمن للحكومة أن باقي الشعب الفضل  من ناس حلتي لن يقول بغم.

(4)   
الشاهد أن سياسة الإنقاذ عمدت منذ البداية، وبالمكشوف إلى الإعلان عن  ما اسمته إعادة تأهيل الإنسان السوداني عبر برنامج إعادة صياغة المجتمع. وفي  إطار تلك السياسة، سعت إلى إعادة  صياغة "كيوفه" القهوجية أيضا.  الغريبة  أن وزير خارجيتها آنذاك مصطفى عثمان اسماعيل  الذي اتهم الشعب السوداني بأنه اوشك ان يصبح ثلة من الشحاتين لولا وصول الانقاذ إلى سدة الحكم في الوقت المناسب وذلك في اثناء زيارته العاصمة السعودية الرياض، وعايره أيضا بأنه كان يشرب الشاي بالـ"جُكّة. لمن لا يعرفون الجكة هي  التمر. وكلام الوزير يحمل في  طياته أن الشعب قبل حكومة الإنقاذ، كان يشرب الشاي شبه  ماسخ. وفات على الوزير الهمام ان حكومته  كانت قد جربت تطبيق نظام البطاقة التموينية منذ اكثر من عشرين عاما لتجعل ليس الشاي فقط، وإنما طعم الحياة  كله امسخ مما كان عليه.

ففي اوائل تسعينات القرن الماضي طبقت الحكومة نظام البطاقة التموينية ،حيث حصرت حصة الفرد في بضعة مواد تموينية تصرف اسبوعيا، اذكر انه من بينها الشاي والصابون والزيت والدقيق، وبالطبع كان السكر على راس القائمة. فإذا استصحبنا معنا أننا مجتمع مفتوح، وأننا لا نتوقع أن يهبط علينا ضيف فجأة،  حاملا معه حصته التموينية، أو أن البطاقة كانت من المرونة  بحيث تسمح للشخص بصرف حصته التموينية اينما كان، نجد أن الأمر ابعد من ذلك بكثير.

ثم تلى ذلك الانتقال  إلى مرحلة "مواطن دعم الدولة" ، تلك المرحلة التي كانت ابرز ملامحها حرمان شريحة كبيرة من الناس نفسها  من السكر،  لمدة خمسة سنوات ، بحجة دعم التنمية ، وربط مناطق الإنتاج بمناطق الاستهلاك، فطلع علينا في نهاية المطاف طريق الإنقاذ الغربي بفقه "خلوها مستورة" ، وراح "كيف"الأهالي وسكرهم في "حق الله"  ولا عزاء "للمُتَقَرْيِفين"، أو مواطني دعم التنمية.

(5)
خمسة مصانع تعمل في إنتاج السكر في السودان، بعضها يعمل منذ بداية الستينات، ورغم ذلك فالسودان يستورد السكر من الخارج لمقابلة الاستهلاك السنوي البالغ 1.2 مليون طن. ثم يدعي انه بصدد تصدير السكر عام 2014، أي في ظرف عامين، علما بان السكر سلعة رئيسية مرتبطة بالزراعة ، وان واقع الحال يغني عن السؤال. من اين لهم السكر الذي يتوقع تصديره خلال عامين؟
أكثر من ثلاث شركات تعمل في توصيل السكر من مناطق الانتاج ، إلى فم المستهلك الذي يتناول الشاي مرتين او ثلاثة مرات لتقفز بعض الاحصاءات  غير الدقيقة بمتوسط استهلاكه  إلى 23  كجم سنويا.

لو صدقنا هذه الاحصاءات، وطابقناها مع واقع الحال من توفر حصة 8 مليون فرد بعد انفصال الجنوب، فلماذا إذن لم ينزل السكر من عليائه وتشهد اسعاره ثباتا، ولو مؤقتا؟ أم ترى ان تلك الحصة تم رصدها للتصدير ولا عزاء للمساكين. ولماذا تستورد الحكومة السكر الان وفي نيتها تصديره عام 2014؟  ام تراها بدأت التصدير غير المعلن منذ الان؟

هذا عن السكر باعتباره سلعة  فائدتها على مستوى الاستهلاك الشخصي ليست كبيرة، اما ان يترافق رفع الدعم عنها ،  برفعه عن سلعة البنزين، (كيتن) في الاغنياء ، فذلك ما لم استطيع هضمه. أن تكون سياسة الدولة معنا أشبه بسياسة (راجل المرتين) الغاضب منهن، فيهجر البيت نكاية في الاثنين، فهذه سياسة تحتاج إلى وقفة.  فاذا كان الاغنياء هم الاكثر استخداما للسكر، فهم الاكثر مقدرة على شرائه مهما غلا وعلا سعره، بينما يشكل شاي الصباح مع قطعة خبز، افطار الصباح لمعظمنا وربما وجبة عشاء كذلك بنفس الكيفية، خاصة مع اختفاء صحن "سلطة الدكوة" الرئيسي من حياتنا بعد ان تعززت طماطمه، وفاق سعر الكيلو منه ضعفي سعر كيلو التفاح.

لكن رغم هذا الواقع (الماسخ)، الا ان  غلاء السكر وندرته، لم تمنع مخيلة العامة من صنع مصلحاتها "السكرية " الفاهمة، فكانت "ست اللهيج السكري" والسكر نقع " و"قالوا قطعة سكر" وغيرها  من المصطلحات الشاعرية، و الباذخة الطعم في توصيف النساء نغما وطعما.

(6)
لو سايرنا الرئيس في منطقه بان دعم السكر والبنزين يصبان في مصلحة الأغنياء، فإننا بنفس المنطق يمكننا الادعاء بأن دعم التعليم يصب في خانة المدارس الخاصة، ودعم الدواء يصب في  خانة المستشفيات الخاصة، و دعم البنزين- إن  كان الرئيس يقصد بذلك البترول-  لا يصب في مصلحة الاقتصاد بصورة عامة وإنما يستفيد منه فقط  الأغنياء  ومالكي السيارات الخاصة  والشاحنات والحافلات ، وان ترشيد المياه يصب في مصلحة صهاريج الأغنياء.. إلخ.

لا يخفي عليكم كيف سيكون الحال لو اضرب الفقراء  عن استعمال السيارات، حتما ستبور سيارات مصنع جياد،  وربما تختفي تبعا لذلك  انشطة مرتبطة بالمرور وربما تختفي كذلك حوادث المرور، وتبور مهنة حفاري القبور، ويمكن الاستطراد بهذه الكيفية إلى ما لا نهاية، مرور ببوار جمعيات حسن الخاتمة الخاصة بالمقابر وربما هندستها.
وفي هذا الشأن، شاء حظي العاثر ان أحضر جزءا من حلقة قدمتها  احدى القنوات الفضائية  السودانية خلال فترة العيد، فاستضافت رجلا في بداية الخمسين من عمره،  يتمتع بصحة جيدة وبنية سليمة ، كان يتحدث بمنتهى الفخر عن  مهنته التي عشقها و أطلق عليها اسم "هندسة القبور" والتي لأجلها ترك مهنة الهندسة التي درسها، وجاب عددا من البلدان الأوروبية والإفريقية والعربية، ووقف في جميع تلك البلدان  على هندسة قبورها، كما قال.  كان الرجل يتحدث بكل فخر  عن براعته الهندسية (القَبْرية) ، دون أن يكلف نفسه بالسؤال: أيهما الأولى بالحياة، ان يساهم في بناء  مساكن بسيطة التكلفة للمساكين ، أم يحفزهم على مغادرة هذه الحياة الفانية إلى قبره "المُهَنْدس"؟

(7)
إن تجفيف الدعم عن أي سلعة يعني توفر نسبة مقدرة من الأموال. في هذه الحالة، من حقنا السؤال عن مصير اموال دعم السكر وأين ذهبت؟  ولماذا لم توظف في وجهة أخرى تعود فائدتها إلى الجمهور المغلوب على أمره؟   لماذا لا يخصص جزءا يسيرا منها لدعم مرضى السكري مثلاً، كأن يكون ذلك بدعم عقار الأنسولين ، ورفع الضرائب عنه وجعله في متناول مقدرة المرضى الشرائية،  خاصة وان نسبة الاصابة بمرض السكري،  تجاوزت  الـ (19) في المائة في ولاية الخرطوم  والـ (20) في المائة في الولاية الشمالية، والمؤسف ان حوالي مليون طفل مصابون بهذا المرض اللعين ،  بينما ،بلغ عدد المصابين غير المكتشفين حوالي «8» ملايين شخص، كما بلغت نسبة البتر «12%»،(صحيفة الراكوبة الاكترونية.)

ثم لماذا لا تخصص الأموال المتوفرة عن دعم البنزين ، لدعم التقاوي الزراعية ومدخلات الصناعة مثلا،  بحيث  توفر للمزارعين مدخلات الإنتاج الهامة،  فتسهم في زيادة مواردهم؟

في كثير من الدول الإفريقية والآسيوية حينما ترفع الدولة يدها عن دعم السلع الأساسية، غالبا ما توجه ذلك في الاستثمار في بناء المصانع لتحارب البطالة ولتشغيل الفقراء والمساكين، فترتفع بالتالي دخولهم.. خلافا للدولة في السودان التي تكرس للغنى في يد الأغنياء وإفقار الفقراء وخلق بيئة جديدة للفساد  الأصغر.

المؤسف أن هذا النمط من الممارسات يعكس أزمة نظام وليس ندرة سلع. على سبيل المثال، تعاني ولاية الخرطوم هذه الايام من ازمة مياه شرب طاحنة، من المؤكد ان السبب لا يشمل  رفع الدعم عنها،  حتى يشرب الناس كدرا وطينا.

(8)
من الواضح  أن مسألة دعم السكر والبنزين، تعكس معمعة انقسام المجتمع الى طبقتين واضحتي المعالم : طبقة الأغنياء أو الناس الفوق  او اولاد المصارين البيض، ان شئت،  و طبقة الفقراء على احسن الاحوال أو الناس التحت، بمصطلحات اليوم.  ثلة هبط عليها الغنى، وغالبية  كتب عليها الحرمان المبين، منذ فجر الإنقاذ ولا عزاء للمحتجين. إذن وفي ظل هذا الإستقطاب المجتمعي الحاد ،  فإن السياسات العلاجية الفطيرة والمبررات التي تسوق لها  الدولة وفقهائها لتبرير وقف الدعم عن هاتين السلعتين، لن تساعد في امتصاص  غضب الفقراء، بل هي مجرد ذر للرماد في العيون. فكلام الرئيس يحمل معنى واحد ظلت الإنقاذ تعمل به منذ فجر الثلاثين من يونيو 1989، وهو الإيديولوجية التمويهية القائمة على توجيه الخطاب السياسي لكسب تعاطف الفقراء، بينما مجمل سياساتها تكرس لتركيز الثروة في أيادي فئة قليلة من المحاسيب الأغنياء، الخ.

(8)
إن  كانت احصائيات الفقر غائبة عن بال الراعي ، فكيف تغيب عنه  صورة الفقر الذي تمدد وأحاط بالعاصمة الخرطوم  إحاطة السوار بالمعصم،  مفندا بذلك دعاوي "الانقاذ" ، فاصبح  السودان يحتل الصدارة دوليا، في كل الأوضاع المعكوسة، اقتصاديا وعلميا وتقنيا وصحيا وامنياً الخ.

لو غلبنا حسن النية وقلنا أن سلوك الحكومة تجاه السكر ينطلق من مراعاتها المصلحة الصحية لمواطنيها جراء الإفراط في استخدام السكر، ما هي إذن جهودها لاستئصال شأفة الاستهلاك غير المرشد وتوفير البدائل السكرية بأسعار معقولة وميسرة وفي متناول الجميع، وما هو مبررها تجاه دور النقل في الاقتصاد، بخلاف سيارات الأغنياء؟

ما استغرب له، رغم أن السكر والبنزين سلعتين سياسيتين بجدارة في سوداننا الحبيب، قادرتين على هز العروش المهترئة ، فما الذي يجعل الرئيس البشير واثقا تماما أن الشعب لن ينتفض ضد حكمه وهو يصرح بعدم رغبته في دعم هاتين السلعتين الهامتين، وحجم غول التضخم  والسوق الموازي الناتج عن مثل هذه القرارات الاعتباطية؟

 

آراء