في أوائل هذا الشهر نفذ رجال ونساء وشباب محلية نرتتي ولاية وسط دارفور اعتصاما تقدم بمطالب مشروعة للحكومة الانتقالية لبسط الأمن واجراء تعديلات في القيادات الرسمية المحلية ونزع سلاح المليشيات وتأمين الموسم الزراعي والقبض على مرتكبي الجرائم وتقديمهم للعدالة.
تكررت الاعتصامات المطلبية بعد ذلك في كتم وكادقلي وفتابرنو ومستري والضعين وكبكابية وفي أجزاء أخرى من دارفور وقد فض اعتصام فتابرنو ومستري برغم سلميته ووعد قيادة الحكومة الانتقالية بالاستجابة للمطالب المشروعة وفقدنا مزيدا من الشهداء تقبلهم الله في عليين وقد تكررت ذات الاعتصامات المطلبية في كسلا وأمري بالولاية الشمالية ودبندة شمال كردفان والدويم في النيل الأبيض وربما تحدث في جهات أخرى من السودان طالما أن الأسباب قائمة .
تلك الأحداث المحزنة المخيبة للآمال باعتبار أن هناك ثورة قامت يفترض يتبعها تغيير ليست بعيدة من حيث المسببات عن أحداث الاقتتالات القبلية التي دارت في كسلا وفي بورتسوان وفي القضارف وفي مناطق أخرى من السودان ،فكلها ذات عنوان واحد :غياب الأمن وعدم اكتمال الثورة. والأسباب تكاد تكون واحدة فحتى اليوم ما زال الولاة عسكريون وما زالت السيطرة- خاصة في الولايات، لذات الوجوه التي أسقطها الشعب بثورة ديسمبر المجيدة وقد صرح القيادي بحزب الأمة الحبيب القانوني اسماعيل كتر في لايف تم بثه يوم 14 يوليو الجاري
ان الوفد الذي زار نرتتي لمعرفة مطالب المعتصمين
٩٠٪ منه من
ذات الوجوه القديمة مما يدل على ان التغيير في الولايات لا اثر له مع استمرار وجود اذيال النظام المباد..مما يعني لا غرابة ولا استغراب من فض لاعتصام فتابرنو ومستري وغيرها من تعديات دفعت للاعتصامات المطلبية.
من المعلوم أن السلام ثاني ثلاث مطالب رئيسية تضمنها شعار ثورة ديسمبر المجيدة :حرية، سلام وعدالة ..و الوثيقة الدستورية التي قامت على أساسها الحكومة الانتقالية قد اهتمت به بذات القدر وتوافق الناس كلهم على إعطاء السلام أولوية قصوى وعلى تخصيص الستة أشهر الأولى من عمر الانتقالية حصريا لتحقيق السلام.
برغم هذا الاهتمام الكبير وبرغم أن تحقيق السلام يعتبر مدخلا أساسيا لتحقيق مطلوبات أخرى لها سهم وافر في إنجاح الانتقالية إذ يمثل تحقيق السلام تحد كبير لتحقيق العدالة وللتنمية المستدامة ومن ثم لاستقرار وديمومة الديمقراطية نفسها، و برغم النوايا الحسنة والارادة السياسية التي أبدتها جميع الأطراف لكن مع كل ذلك ما زال تحقيق السلام يراوح مكانه، فالقضايا لا تحل بحسن النوايا وعراض الأماني انما بدخول الأمر من بابه الصحيح ومخاطبة القضايا التي سببت الحرب ودفعت لرفع البندقية بصورة تستوعب كل أصحاب المصلحة وبإزالة آثار الحروب بالتنمية والتعويضات للضحايا وبتطبيق العدالة الانتقالية .
عندما انحازت اللجنة الأمنية رغبا أو رغما لصوت الشعب في الحادي عشر من ابريل 2019 أدى ذلك التغيير المتوافق عليه الى وضع لم يكن مرجوا منه أن يحقق أهداف الثورة جملة واحدة انما بتدريج محسوب ومضبوط بحيث حتى لو لم تتحقق كل المطالب في ذات الوقت يجب ألا يسمح بضياع مكتسبات الثورة بالالتفاف عليها من قبل عناصر النظام المباد أو اللجنة الأمنية التي صارت جزء من التغيير وقد عملت مواكب الثلاثين من يونيو 2019 على إعادة ذلك التوازن بصوت الشارع وحراسته لمكتسبات الثورة.الاتفاق حول السلام لا ينبغي التنازل فيه عن المنهج الاستراتيجي من أجل سلام عادل وشامل.
بالنسبة للملف الذي نتناوله اليوم نعلم أن الاهتمام بالسلام قد بدأ مبكرا بُعيد سقوط نظام الانقاذ في 11 ابريل 2019 مباشرة، حيث استضافت دولة الامارات في ابو ظبي حكومة ما قبل الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة (العدل والمساواة، حركة تحرير السودان،طرفي الحركة الشعبية –شمال،مسار المنطقتين) وصدرت من تلك المفاوضات "وثيقة ابو ظبي" التي أبرزت فيها الجبهة الثورية رؤيتها لتحقيق السلام.
وفي يونيو 2019 تقدم الرئيس سلفاكيرميارديت رئيس دولة جنوب السودان بمبادرة "لتقريب وجهات النظر بين كافة الأطراف السياسية السودانية" حيث أعلن المجلس العسكري ترحيبه بالمبادرة.
بعد تكوين الحكومة الانتقالية أصدر المجلس السيادي مرسوما يقضي بتشكيل مجلسا أعلى ومفوضية للسلام في 12 اكتوبر 2019 لقيادة المفاوضات مع الحركات المسلحة في مدينة جوبا برئاسة رئيس المجلس السيادي للعمل على معالجة قضايا السلام الشامل الواردة في الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية ووضع السياسات العامة المرتبطة بمخاطبة جذور المشكلة ومعالجة آثارها وصولا الى تحقيق السلام العادل. ويضم المجلس أعضاء المجلس السيادي ورئيس الوزراء ووزير مجلس الوزراء ووزير العدل ووزير الحكم الاتحادي الى جانب ثلاثة خبراء من ذوي الصلة..ألحق بهم 9 من قادة الحرية والتغيير بعد انقضاء خمسة أشهر على تكوينه وظلت مفوضية السلام التي سمي رئيسها بلا مهام.
بموجب مبادرة الرئيس سلفاكير والاستجابة لها جرت عدة جولات للمفاوضات(سبتمبر، اكتوبر،نوفمبر،ديسمبر،يناير،يوليو ) لكنها لم تنته الى توقيع نهائي بعد، حيث أعلن تأجيل ذلك التوقيع برغم الوعود المتكررة والنوايا الحسنة الى أجل غير مسمى بعد الوصول لاتفاق بخصوص الترتيبات الأمنية..وهنا تجدر ملاحظة كيف يعلن عن موعد لامضاء اتفاق بدون اتفاق على الترتيبات الأمنية؟
نلحظ فيما جرى من مفاوضات قبل وبعد قيام الحكومة الانتقالية، ذات العيوب التي دمغت المفاوضات التي كان يديرها نظام الانقاذ المباد فمجلس السلام تعلو فيه الصبغة العسكرية وقيادته بيدهم، و نرى أنه من الخطأ اسناد ادارة هذا الملف السياسي بامتياز لمشيئة العسكر ليس شكا فيهم بل ادراكا لكون تأهيلهم المهني لا يخولهم لذلك الأمر ومن مقالات سابقة بعنوان : الجيش في السياسة لزوم ما لا يلزم كنا قد تطرقنا لأن الطريقة التي يفكر بها العسكريون غير صالحة تماما لتداول ملفات السياسة وأن التنشئة التي ينشئون عليها وهي ضرورية جدا لأداء مهنتهم المقدسة في حماية البلاد والذود عنها بتميز، تقتضي عدم تدخلهم في الشأن السياسي الذي من طبيعته الأخذ والعطاء والرأي والرأي الآخر ومن طبيعة ادارتهم الضبط والربط والطاعة بلا نقاش..الخ الفروقات.
كما يجدر بنا قول أنه طالما أن تلك الحركات المسلحة هي شريك أصيل في الثورة وعامل مهم من عوامل نجاحها فلماذا تدار مفاوضات معها بذات العقلية التي تدار بها المفاوضات بين المتحاربين والافتراض الذي يخطر على البال أنه بمجرد سقوط النظام المباد يكون وقف الحرب اوتماتيكيا بغير حاجة لجلسات للحوار حوله.ونجد أنه برغم احتفاء الحركات المسلحة بثورة ديسمبر المجيدة التي هي جزءً أصيلا لا يتجزأ منها بل و بعض تلك الحركات المسلحة أعضاء في تحالف نداء السودان احد الكتل المكونة لتحالف الحرية والتغيير الذي قاد ثورة ديسمبر المجيدة وحتى الحركات الأخرى من خارج نداء السودان والحرية والتغيير ( ما عدا بعض الأصوات التي كررت ذات ما فعله الدكتور جون قرنق بتصنيفه للحكومة الانتقالية بعد ثورة ابريل 1985 كمايو ثانية)، كلهم احتفوا بالتغيير الذي جرى وحرصوا على سلمية الثورة ووقف اطلاق النار طيلة شهور تدفق الجماهير في الشوارع مما عمل بالتأكيد على تجريد بندقية النظام المباد من كل شرعية بل صيّرها بلا فعل.
ولأن المجلس الأعلى للسلام هو الذي يدير عملية السلام بما يغلب عليه من سمة عسكرية وأسلوب غاب عنه المنهج السليم نجد أن المفاوضات طابعها التجزئة والحديث عن المحاصصات بصورة أعاقت استكمال مؤسسات الحكومة الانتقالية نفسها.مما يخالف الوثيقة الدستورية التي نصت على تكوين مفوضية للسلام بصلاحيات واسعة لادارة ملف السلام وفق منهج استراتيجي يتناول كل القضايا التي أفرزت الحروب والتهميش في كافة أرجاء السودان واعتبارها ذات أولوية قصوى ومعالجتها من باب ازالة أسباب الاقتتال وازالة آثار الاقتتال.
من العيوب التي أفرزها غياب المنهج ووضع الخبز في يد غير يد خبازه ، ادارة ملف السلام على أساس مسارات متعددة تشمل ( خمسة مسارات): اقليم دارفور(غرب) ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق،شرق السودان،شمال السودان ووسط السودان..
مع كامل تقديرنا واحترامنا لحركات القتال المسلح والتي هي شريكة في الثورة وقد تحملوا عن أهلهم وعن كل السودانيين مسئولية مواجهة دولة ظالمة بعد أن سدت أفق الحلول السياسية ..لكنهم مع ذلك لا يمثلون كل من يتحدثون باسمهم .لذلك يجب أن تكون أطراف الاتفاق اوسع من الحركات المسلحة.
التفاوض بطريقة المحاصصات اسلوب فشل مجرب لن يؤدي للحلول بل الى مزيد من تناسل الحركات التي تحمل السلاح طمعا في السلطة والثروة..
العيوب التي عددناها يمكن بسهولة معرفة ما يمكن أن تنتهي اليه المفاوضات الجارية الآن في جوبا بسببها اذا استعرضنا الاتفاق الذي توصل اليه الطرفان :
(منح الحركات المسلحة 3 ممثلين في مجلس السيادة الانتقالي،5 وزراء في الحكومة التنفيذية،75 مقعدا في المجلس التشريعي الانتقالي، ونالت الحركات في مسار دارفور 40% من الحكم في الاقليم ومثلها لمكونات الانتقالية،و20% لأصحاب المصلحة بالاقليم كما منحت الحركات المسلحة 10% في السلطة بولايات الشمال ونهر النيل وسنار والجزيرة والنيل الأبيض. وأعطى الاتفاق منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان الحكم الذاتي . واتفق على أن تدفع الحكومة 7 مليارات ونصف خلال 10 سنوات لتنفيذ اتفاق السلام في دارفور وتخصص الأموال لعودة النازحين واللاجئين والبنية التحتية الأساسية وتتكفل الحكومة بسد الفجوة المالية واقامة مؤتمر للمانحين يخصص لمعالجة اختلالات التنمية، تمديد الانتقالية 39 شهرا تسري عقب التوقيع النهائي للسلام واستثناء ممثلي الحركات المسلحة من المادة 20 في الوثيقة الدستورية التي تمنع كل من تقلد موقعا في أجهزة السلطة الانتقالية من الترشح في الانتخابات المقبلة..)
هذا الاتفاق برغم تحقيقه مكتسبات للحركات المسلحة طرفه(وتجري المحادثات بين الحكومة السودانية وتحالف الجبهة الثورية الذي يضم نحو سبعة فصائل مسلحة بجانب الحركة الشعبية شمال بقيادة القائد عبد العزيز الحلو)، لكننا لم نستطع اكماله بالتوقيع عليه والمنهج الخطأ أوقعنا في السلام بالتجزئة وفي فتح باب المزايدات واسعا لمطالبات الفصل فيها ليس من مهام الانتقالية (مثل اثارة حركة القائد عبدالعزيز الحلو لقضية الدين والدولة).
من عيوب هذا الاتفاق أيضا نصه على تمديد الفترة الانتقالية 39 شهرا تسري بعد التوقيع النهائي للسلام! وهذا عجيب ومخالف لما اتفق عليه في الوثيقة الدستورية فهل كل حركة ستطلب تمديد الفترة الانتقالية عند الاتفاق معها ؟
أي اتفاق يتم الالتزام به ويكتسب شرعيته من رضا اطراف المصلحة فيه ومع الاعتراف بدور الحركات المسلحة في النضال من أجل الحقوق لكن هذه الحقوق لابد تكون لمصلحة الجماهير ولا تجير لصالح الموقعين على الاتفاقيات..مثلا بالنسبة لدارفور وهي القضية الأكبر بسبب دخول السلاح طرفا في النزاع يمكن معالجتها وفقا لمنهج صحيح نصح به الامام الصادق المهدي السيد مجذوب الخليفة منذ بداية الحرب في دارفور(الرجوع للاقليم الواحد،الرجوع للحدود الأولى لدارفور قبل 89،المشاركة في السلطة والثروة لأهل دارفور بحسب عدد السكان،التعويض لأهل دارفور) وطبعا ممكن مواكبة هذه النصيحة المبنية على دراسات وورش عمل واستبيانات ومقابلات واستماع بعقل وقلب لأصحاب المصلحة وزيارات للمنطقة، ممكن اضافة بند تطبيق العدالة الانتقالية في دارفور، والتمييز الايجابي في التنمية.لا شك أن هذا النموذج للحل يمكن تعميمه على كافة أرجاء السودان بحسب خصوصية النزاعات.
الأطراف التي ترفض مثل هذا الاتفاق الذي يحقق مصالح الناس يبذل جهد لاقناعها فإن أبت هي حركات ارهابية تعامل على هذا الأساس.
لكل ما ذكرنا أعلاه يبدو مهما أن قيادة وادارة ملف السلام لابد من وضعها في يد الحكومة المدنية وفي يد مفوضية سلام ذات صلاحية واسعة بحسب ما اقتضت الوثيقة الدستورية للنظر للأمر من زاوية أكبر من خرم الزوايا الأمنية..أو المفاوضات التي تغيب عنها الصورة الكاملة لتنحصر فقط في المحاصصات وافتراض أن حملة السلاح هم من يمثلون وحدهم الأقاليم التي يتفاوضون عنها.
ولا نمل من تكرار أن تناول ملف السلام دون منهجية استراتيجية خطر عظيم .