لن نعكس صورة وردية واستقراراً وهمياً للأوضاع بعد توقيع الجزء الأول من اتفاق السلام في جوبا، ولن نمجد قوى الحرية والتغيير والحركات المسلحة، لأن السلام ليس هو "المحاصصة"، والتوقيع على الورق، وإلا اعتبرنا كل الاتفاقيات التي تمت في العهد البائد، ووقعت عليها ذات الحركات الموقعة اليوم، واحتفلت بذلك التوقيع بنفس الطريقة التي تحتفل بها، هو السلام الذي نسعى إليه، وحينها لن ننتظر نتائج على أرض الواقع، وسيتحول هذا الاتفاق إلى مجرد نسخة مجددة من أخطاء الماضي. نعم.. ماراثون السلام انطلق بتوقيع هذا الاتفاق، وحتى نصل إلى خط النهاية، ونحقق كل شعارات ثورة ديسمبر المجيدة المتمثلة في الحرية والسلام والعدالة، وننزل ما تم الاتفاق حوله إلى أرض الواقع، نحتاج إلى جهد مضاعف، وطاقة إيجابية، وإرادة وطنية، وإشراك أصحاب المصلحة الحقيقيين، واختيار الكفاءات السياسية لتدير شؤون الوزارات، ومراقبة الأداء، واحترام القانون، والإيمان بأن القضية ليست أموال تؤخذ ومناصب تمنح وتمكين جديد. ومنذ اليوم، يجب أن نطوي صفحة "النضال الأصغر"، المتمثل في حمل السلاح، وخوض الحروب الأهلية، والعمل على إسقاط النظام بكل الخيارات المدنية والعسكرية، لأنه حقق الهدف، عبر أعظم ثورة في تاريخ هذا البلد.. والواجب المقدم في هذه المرحلة هو أن نفتح صفحة "النضال الأكبر"، وهو العمل على التنمية، وتعمير ما دمرته الحروب من بنية تحتية في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتأتي عبقرية الزمان، للسلام المرتقب، في كون توقيع الاتفاق، تم في العهد الجديد، ولولا ثورة ديسمبر الخالدة، لكان من سابع المستحيلات، توقيع هذا الاتفاق، وفي هذا الوقت الوجيز، وكثيرون يرونه أخذ وقتاً طويلاً، ولكن العكس هو الصحيح، وفترة عام تعتبر زمن قياسي، وهنا العيب في الوثيقة الدستورية التي لم تقرأ الواقع جيداً عندما حددت فترة 6 أشهر لتحقيق السلام، وكذلك ينطبق الحال في الفترة الانتقالية التي حددت بثلاثة أعوام فقط، وننتظر تمديدها حتى نستكمل كل الملفات قبل تدشين العهد الجديد. أما عبقرية المكان، تتمثل في أن المفاوضات تمت برعاية جنوب السودان، هذا الجزء العزيز الذي انفصل عن الوطن الأم، بسبب الممارسات العنصرية والإقصائية للنظام البائد، وهم يعرفون هذه المعاناة وعاشوها، لذلك حريصون ألا تتكرر مرة أخرى في دارفور، والنيل الأزرق، وجنوب كردفان، وفي بقية المناطق المهمشة في الشمالية والشرق وغيرها، لذلك نثق في هذه الرعاية، وفي عبقرية اختيار مدينة جوبا لتكون مقراً للمفاوضات بجوار ضريح الشهيد الدكتور جون قرنق، بما يحمله من رمزية نضالية. والمهمة الأصعب الآن، هي كيفية تنفيذ هذا الاتفاق وإنزاله إلى أرض الواقع، ونعلم جميعاً أنه سيواجه عقبات وصعوبات، ولن نتجاوزها إلا بالإرادة والتصميم والرغبة الحقيقية في تحقيق سلام حقيقي. وحتى تكتمل فرحة بالتوقيع على اتفاق السلام الشامل، ننتظر القائدين عبدالعزيز الحلو وعبدالواحد محمد نور، للانضمام إلى الماراثون، لنطوي بذلك صفحة الحرب إلى الأبد، وخاصة بعد سقوط النظام البائد، الذي شكل عقبة ضد السلام لـ 30 عاماً، واليوم بعد أن أسقطه الشعب السوداني، تفتحت كل الدروب والعقول والقلوب لتحقيق واستدامة السلام والاستقرار، وعلينا أن نحرص في عدم تكرار أخطاء الماضي، بتوقيع اتفاق ثنائي وإقصاء أطراف ذات مصلحة، وبذلك تظل الحروب مشتعلة ويظل السلام عبارة عن حبر على ورق.. حباً ووداً..