السودان. . . أبناء الشمس

 


 

 




يمكن القول ان المعارض الحقيقي والناجع لأيّ تجربة سياسية إسلامية، هو الطبيعة البشرية. ورغم القول بأن الإسلام هو دين الفطرة، إلا أن تحويل الإسلام-الدين إلي سياسة يضعه تماما عكس الفطرة والطبيعة البشرية. فقد أكدت مظاهرات السودان في الاسبوع الماضي هذه الفرضة. فالظاهرة الملفتة للإنتباه، هي أن المظاهرات الراهنة قام بها –حصريا- شباب دون الخامسة والعشرين، ويتأكد ذلك من سجل الوفيات والإصابات. وهذا يعني تطابق أعمارهم مع عمر النظام أي من 1989، وبالتالي لم يعرفوا أو يعيشوا نظاما غير حكم الاسلامويين الحالي. فكيف عجز النظام، رغم الجهود الهائلة التي بذلها، عن جعلهم جزءا أصيلا منه؟
بشّر الإسلامويون أهل السودان، عند استيلائهم علي الحكم، بمشروع حضاري بهدف إلي" إعادة صياغة الإنسان السوداني". وكان استهداف الشباب من أولويات الاستراتيجية التي شرع النظام في تنفيذها. فقد بدأ بتغيير جذري لمناهج التعليم في كل المراحل، تحت شعار الأسلمة والتأصيل. وكانت هذه العملية تعني في حقيقة الأمر، استنبات نصوص قديمة في واقع حديث. وكان التأصيل عملية فكرية أظهرت لاتاريخية العقل الذي يقف خلفها. كما ساهمت في اغتراب غير مقصود، فقد جاءت المقررات المدرسية خالية من الموضوعات الخاصة بالسودان لتحل محلها موضوعات أسلامية كبرى. فالغاية هي "الأمة"الإسلامية وليس الوطن السوداني. وعوضا عن جغرافية السودان وتاريخه، يدرس الطالب مقررا بسمي: الإنسان والكون. وتعمد النظام التعليمي الإسلاموي، إضعاف الحس القومي الضيق-حسب تقديرهم- وتقديم الشعور الاممي الديني عابر الحدود. وهكذا، ساهموا بوعي او لاوعي في تآكل الهوية السودانية لدي الشباب.
من ناحية اخري، إهتمت الدولة باحتكار وتوجيه الثقافة والإعلام، كوسائل فعّالة في تزييف الوعي. وابتعد النظام عن أي ثقافة جادة يمكن لها علي المدي الطويل أن تنتج عقلا نقديا يعمل علي التغيير. فقد وضعت رقابة مشددة علي طباعة الكتب، وعلي أدخالها، وعلي المعارض. وقد اعطيت إدارة المصنفات الفنية سلطات واسعة في رقابة المطبوعات والمنتوجات السمعية والبصرية. وعمل النظام علي وضع الشباب في خيار ثقافي صعب بين ثقافة التعصب والظلامية أو الإنحلال والهبوط. فالتلفزيون مثلا، يبث بكثافة المدائح والفتاوي والاحاديث الدينية السفلية، وبعدها تركز السهرات علي الأغاني والمسلسلات غير الجادة. وهذا مايربك الشباب ويجعله يحاول التوفيق بلا جدوي في المعادلة الصعبة التي يدعونها التراث والمعاصرة أو الأصل والعصر. ويعيش الشباب السوداني حالة انفصام ثقافي ونفسي حادة. ولم ينجح النظام في تحويله إلي شباب متدين، كما تتوق خطط المشروع الحضاري. وقد حدث العكس تماما، لأن الشباب خلق أيقوناته من فنانين في عمره مثل (محمود عبدالعزيز). وقد تابع الجميع ما فعله عشاقه حين وصل جثمانه لمطار الخرطوم.
الشباب، تقوم علي الإمعان في تهميشه سياسيا، واقتصاديا، وثقافيا واجتماعيا. فقد عمل النظام علي تكوين نخبة شبابية موالية تسانده مطلقا وتكون بديلة عن منظمة شبابية جماهيرية. وفي الاتحادات الطلابية يتم افساد مبكر تنتج  عنه قيادات طلابية نراهم بالبدل الكاملة وفي العربات الفارهة، وهم مازالوا طلابا. ويسمح لهم بالدخول في عطاءات شراء الكتب والادوات المكتبية. واخيرا يأتي التهميش في عملية التوظيف المنحازة لأهل الولاء. وكانت النهاية عطالة أو تعطيل لأعداد هائلة من الشباب، رمت بهم في حالة من الفاقة واليأس والاكتئاب. وكان من المحتم أن برمي بهم هذه الاوضاع في أتون الأمراض الاجتماعية من إدمان للمخدرات، ودعارة وأطفال غير شرعيين، وجريمة منظمة(عصابات النيقرز). وكان هذا هو مقتل  هو العصر بعد أن اندثرت. لذلك، جاءت ردة فعلهم عنيفة من خلال قوانين قمعية مثل قانون النظام العام. وأصبح الشباب عرضة للملاحقة والجلد في أماكن عامة إمعانا في الإهانة والإذلال. وسرّعت ممارسات النظام من تقدم الشباب بمبادرات تكافح الاستنقاع السياسي الذي تعيشه البلاد. فقد شاخت الأحزاب السياسية ولم تعد قادرة علي التجديد الذاتي ولا إعلان الوفاة. وكان هذا سبب استمرار النظام وليس لقدراته وقواه الخاصة دخل في البقاء. وبدأت مجموعات الشباب في الانشقاق من أحزابها أو قيادة انقسامات داخلية. ثم ظهرت كيانات شبابية صرفة مثل :"شباب التغيير" أو " قرفنا" أو تنسيقيات الشباب في الداخل والخارج. وبدت الظاهرة وكأنها صراع أجيال مفتعل أو قتل للأب، لأن قضايا الخلاف لم تكن دقيقة وواضحة المعالم. خاصة وأن الجميع متفق حول اسقاط النظام الحالي وقيام نظام تعددي.
أصبح خلاص الشباب السوداني خارج حدود الوطن بعد أن أصبح مفهوم"وطن" نفسه غائما وغامضا. وصار غالبية الشباب تشككيا وساخرا حين تجادله حول الوطن وواجباته. وصارت الهجرة الأمل الوحيد ويعمل الفرد من أجلها مهما كان الثمن. وصار المرء يري في شوارع السودان أشباح لبشر في سنين نضرة ضاقت أمامهم فسحة المستقبل. وتدنت نوعية الحياة بل اختزلت الوجبات الثلاث إلي واحدة، ولم يعد هناك حزام يمكن شده. لذلك كانت سياسة رفع الدعم عن سلع أساسية، يعني لهم أن من لم يمت بالسيف مات بغيره.
جاءت المظاهرات التي اندلعت في23 أيلول/سبتمبر2013 تعبيرا عن اليتم السياسي للشباب السوداني، وحتي اللحظة لم يحدد تجمع الأحزاب موقفه خاصة الحزبين التقليديين الكبيرين. ونزل الشباب إلي الشوارع في عفوية يحركها الحس السليم فقط، وغير مهتمة بالنداءات المطالبة بالسلمية ولا تري عيبا في العنف المضاد. ومن الواضح أن النظام قرر استخدام العنف المفرط بدقة تحقق هدف بث الرعب وإرهاب الجماهير. فأعداد القتلي وكثافة استخدام الرصاص الحي، تؤكد أن النظام يخشي عواقب أي تساهل محتملة.
هذه انتفاضة شبابية نتاج أزمة إقتصادية-إجتماعية وثقافية بين الشباب، وهم غير مسيسين جدا، لذلك تحتاج لدفعة سياسية مبتكرة وذات خيال مبدع. وفي كل الأحوال نحن أمام حركة إجتماعية وليدة أشكال متعددة للتهميش انتهت بفصل الجنوب وقهر النساء والفخر بجلدهن علنا.
Hayder Ibrahim [hayder.ibrahim.ali@gmail.com]

 

آراء