يثير الحراك الشعبي المتجدد الاخير في عدد من البلدان العربية سؤالا هاما: هو لماذا لم تصل عواصف ما يسُمي مجازا بـ «الربيع العربي»، ذلك القطر الجنوبي الصاخب: السودان؟ رغم أن السودان كان ومازال يموج بالصراعات والغضب، فقد ظل ساكنا. فاحتار المراقبون في تفسير ذلك الصمت المريب.
ووجد البعض التفسير في فكرة الاستثناء، ولكنهم اختلفوا حول لماذا يكون السودان استثناءً ؟ ومن ناحية أخرى، كان من الطبيعي أن يحاول النظام تجيير عدم الحراك الشعبي في السودن لصالحه، واعتباره دليلا على الرضا وقبول النظام. ويروج لفكرة اختلاف الظروف في السودان وأنه لا يعاني من غياب الديمقراطية والفساد مثل الدول التي انتفضت شعوبها. ووصل الأمر بالنظام درجة ترديد إعلامه القول بأن ربيع السودان جاء مبكرا مع إنقلاب النظام الحالي أي منذ صيف 1989.
ومن الخطأ فهم عدم الحراك من خلال اختلاف الاوضاع السياسية السودانية أو أنها أفضل. ولكن يعود الهدوء الظاهري إلى طبيعة الشخصية السودانية التي تميل للحلول الوسط أكثر من المواجهات والحسم السريع. حقيقة لم يشهد السودان حروب الشوارع والقصف مثل سوريا واليمن وليبيا، ولكن كما يقال: «من لم يمت بالسيف مات بغيره». فالسودانيون في كثير من المناطق يموتون بغيره، فهم يعانون من نقص الغذاء أو المجاعة، والأوبئة وغياب العناية الصحية، والنزاعات القبلية. وتحولت البلاد إلى حكم دولة فاشلة، إذ يعيش السودان نزيفا مستمرا في موارده الاقتصادية والبشرية. فقد فقدت الدولة سيطرتها علي كامل ترابها الوطني، وتراجعت عن تقديم الخدمات الأساسية المتوقعة منها مثل الصحة والتعليم.
لم تحظ التجربة السودانية خلال ربع القرن الماضي ـ للأسف ـ بالاهتمام العربي المستحق. وقد يعود ذلك لكون السودان قطرا هامشيا، كما أن تفاصيله شديدة التعقيد. رغم أن التجربة شهدت أول بروفات تقسيم العالم العربي مع انفصال الجنوب عام2011. وهو للمفارقة عام إنطلاقة الانتفاضات الشعبية العربية. فقد استولت الحركة الإسلامية السودانية علي السلطة عن طريق الإنقلاب العسكري في 30 حزيران/يونيو1989. وبعد فترة قصيرة من التقية، أعلن الإنقلابيون عن أول «مشروع حضاري إسلامي» في بلد سني. ولأن الإسلامويين كانوا أقلية شعبيا، فقد حصلوا في آخر انتخابات(1986) علي نسبة حوالي 5% من الاصوات فقط، رغم المقاعد التي منحتها لهم دوائر الخريجين. وقد فرض عليهم ذلك الشعور الأقلي، ضرورة ابتكار وسائل ناجعة لتأمين السلطة.
وقد استوجب ذلك التركيز الكامل على الأجهزة الأمنية، بل صارت هي التي تحكم فعليا لعدم وجود حزب قوى. وكان من أولويات خطة ما سُّمي لاحقا بالتمكين، إبعاد كل المعارضين أوالمعارضين المحتملين من جهاز الخدمة، ثم فتح باب الهجرة لكل من يرغب في الخروج من الوطن. وهذا يعني إفراغ البلاد من الكوادر المهنية وفي نفس الوقت من الناشطين نقابيا وسياسيا. فقد كان الإنقلابيون يعملون على تأسيس مجتمع جديد تماما، تطبيقا لشعارهم: «إعادة صياغة الإنسان السوداني». وأنشئت وزارة سُميت «وزارة التخطيط الاجتماعي» تعمل على تحقيق ذلك الهدف من خلال الإعلام والثقافة والدين والتعليم، كما يظهر من أقسامها المتعددة. وشرعت الدولة- بالفعل- في خلخلة كل ثوابت المجتمع السوداني الثقافية والقيمية والأخلاقية. ثم أكملت الأزمة الاقتصادية تحطيم ما تبقى.
نجحت السلطة الجديدة في القيام بأخطر وأصعب مهمة في تاريخ السودان المعاصر. فقد تم اجتثاث النخب الحديثة التي ظلت تتكون منذ مطلع القرن الماضي، بدعوى أنها نبت استعماري. وقطع النظام بسياساته واجراءاته الأمنية والإدارية، الطريق أمام التطور التحديثي الذي كان السودانيون يتوقون إلى تأسيسه بعد الاستقلال. وبدأت مظاهر التقليدية والمحافظة تنتشر في كل مناحي الحياة العامة، وكان من الطبيعي أن يواكبها تعصب ديني وهوس تكفيري. ومن ناحية أخرى، تزايد ترييف المدن بسبب إهمال الريف وغياب خطط التنمية الريفية.وتسبب النزوح الكثيف للمدن في تغيير الطابع الحضري، بالذات فيما يتعلق بالثقافة والترفيه ونوع الخدمات المطلوبة.وبقصد تفكيك الانتماءات الحزبية، عاد النظام لتشجيع وبعث العلاقات القبلية والعشائرية بالإضافة لدعم الولاءات الطائفية والطرق الصوفية. ويلاحظ الزائر للعاصمة السودانية غياب المظاهر الجمالية التي تميز المدن عادة. فهي تكاد تكون خالية من الحدائق العامة، والنوافير، والتماثيل والجداريات، والمكتبات العامة، ودور السينما والمسارح والمراسم ودور العرض، وحتى المقاهي الراقية والتي حلت محلها ظاهرة «ستات الشاي» أو البائعات المتجولات. سجل النظام الإسلاموي سريعا إنجازا كبيرا يصب في عملية التمكين وتأمين السلطة السياسية وحمايتها من الانتفاضات الشعبية. فقد حوّل المجتمع السوداني المعروف بحيويته وتسييسه المبهر إلى مجتمع فاشل، فقد تم تسريحه سياسيا.
وبالتالي نجد أنفسنا في حالة استثنائية فعلا، شعب يعيش تحت وطأة دولة فاشلة ومجتمع فاشل أيضا.فقد عجز المجتمع السوداني عن إعادة انتاج معارضة سياسية موحدة وديناميكية قادرة على تعبئة الجماهير وإنزالها إلى الشارع. ففي العام الماضى، ثم اعتقال زعيم قوى الإجماع الوطني المعارض ورئيس كونفدرالية منظمات المجتمع المدني لأكثر من أربعة شهور، ولم تخرج ولا مظاهرة واحدة تطالب باطلاق سراحهم. ومن نجاحات النظام فك ارتباط المعارضة السودانية بقواعدها، والرضا بالعمل من الخارج. وقد كان العمل الخارجي مطلوبا ومقبولا في السنوات الأولى وحتى عام1995. ولكنه بعد ذلك لم يعد مجديا بسبب تغير الظروف.
ومن البديهي أن أيّ عمل سياسي بعيدا عن الجماهير والواقع اليومي يعجّل بوقوع المعارضين في الاحباط، ويفاقم خلافاتهم الثانوية، ويشخصن العمل بسبب عدم التفاعل المستمر. ولكن من الملاحظ، أن اللامبالاة السياسية قد شملت الجميع، فلم يعد النظام نفسه يسيّر المواكب المليونية المفبركة.
بسبب أفواج الهجرة المستمرة من الوطن، تحولت المعارضة السودانية الخارجية إلى معارضة افتراضية مسرحها الصحف والمواقع الاسفيرية، وهذا الوضع الخيالي ينتج كثيرا من المعارك الدونكشوتية. ويجد المعارضون في الخارج أنفسهم في وضع أقرب إلى التراجيديات الاغريقية القديمة، فالوطن قريب جدا وبعيد أكثر. فالبعض انجب أطفالا في المنافي، هم الآن فوق الخامسة والعشرين عاما، وقد أكملوا دراستهم وبعضهم تزوج واستقر نهائيا، وتحصل علي جنسيات البلاد التي يعيشون فيها.وهذه الدياسبورا السودانية صارت حقيقة ولكن النخبة السودانية المعروفة بحنينها للماضى وعدم تقديرها للزمن،لم تستوعبها بعد، وتعمل لاستعجال العودة للوطن وعودة الوطن نفسه للديمقراطية. وهذه امنيات المعارضة التي عجزت عن أن تجعلها واقعا.
يعيش السودان ـ حاليا- فراغا سياسيا مفزعا ولا يخدعنك الهدوء أو الجمود الظاهري. وتحيطه حالة من عدم الأمن الكامل، ومن يتابع سوء الإدارة، والفساد، والتفكك المجتمعي، ومعدلات الجريمة، مع تدهور التعليم وتزايد البطالة بين الشباب، والرغبة في الهجرة والهروب؛ يحس بقرب الخطر.
ومن المؤكد أن النظام المأزوم، مستمر في الحكم، ليس بسبب قوته الذاتية بل لضعف البديل أو غيابه. ويبدو أن الحكومة والمعارضة أحستا بخطر المجهول، فكانت الدعوة في الفترة الأخيرة للحوار الوطني. ولكن المشكلة أن لكل طرف فهما يتناقض جذريا مع فهم نظيره، وهذا سبب المناورات الجارية منذ إعلان الرغبة في الحوار. كما أن الموقف التفاوضي للنظام بدأ في التحسن بعد التقارب مع السعودية وحلف عاصفة الحزم والبعد عن إيران. وتعتبر زيارة الرئيس الاوغندي (موسفيني) مكسبا للنظام وضربة للمعارضة.
كل هذا يفسر تعنت النظام وشروطه التعجيزية للمعارضة، مما يهدد سير الحوار. عن القدس العربي21/9/2015