السودان : المنارة أم الجسر …..؟! .. بقلم : يحيى العوض
13 November, 2009
عصا الرئيس نميرى والبخور القاتل وحكمة الشريف ؟؟؟
دنيا لا يملكها من يملكها ....
أغنى أهليها سادتها الفقراء...
العاقل من يأخذ منها على إستحياء...
والغافل من ظن أن الأشياء...
هي الأشياء ...!!
رائعة الأستاذ الفيتوري، إستحضرها ونحن في سوح الشريف محمد الأمين الخاتم، رجل كركوج، ونستذكر الدرس الأول الذى تلقاه الرئيس جعفر محمد نميري!
لم يخطر على بال الرئيس القائد،الملهم،أبوعاج،دراج المحن،إبن الشعب البار، أن يطرده ذلك الفقير المدثر بثوب "دمور" وطاقية بيضاء، ويمنعه من صلاة الجمعة معه، بعد أن قطع أميال المسافات،قادما بالطائرة من قاعدة وادي سيدنا بأمدرمان إلى قرية صغيرة تقبع على ضفة نائية من النيل الأزرق!!
كان الرئيس يظن بل ويؤمن أن الأشياء هي الأشياء !!
ولا تثريب عليه .. مثله والأغلبية الساحقة،قبله وبعده في بلادنا ،يحسبون أن الأشياء هي الأشياء!!
وكان الدوتشي بنيوتي موسوليني، في أوج قوته وعنفوانه، وهو القائل "الفاشية هي الشمولية والدولة الفاشية مثل وحدة القيم تفسر وتسيطر على مجمل الحياة". وقد تحالف مع أودلف هتلر للسيطرة على أوروبا والعالم، قوة وإقتدارا،.... وكان بإنتظار سفيرة المبعد من بريطانيا ليطلعه على ملامح من خطط المحور للأطباق على جيوش الحلفاء... ودخل السفير على القائد الذي يرتجف الجنرالات العظام في حضرته... ولم يرفع رأسه عن أوراق كانت أمامه وبالتالي لم يرد على تحية السفير الذي ظل واقفا في إحترام وخشوع ... وبعد لحظات من الإذلال، رفع الدوتشي رأسه وخاطب سفيره:
- ما رأيك لو نمطر الحلفاء بسلاحنا الجديد من الغازات السامة؟
وأجابه السفير في صوت واهن :
- سيدي هناك أسلحة أكثر فتكا من الغازات السامة ..!
إندهش القائد الأعلى للقوات المسلحة الإيطالية وجيوشها المحشودة من مستعمراتها، ورمق سفيره متسائلا:
- قل لي هل هناك أسلحة أكثر فتكا من الغازات السامة غير القنبلة الذرية التي لا نعلم إن كانت حقيقة أم لا حتى ألان ؟1
نعم سيدي القائد !
- ماهي وهل بإمكاننا الحصول عليها؟
- نعم سيدي وهي موجودة ويعرفها وزراؤك ومستشاروك !!؟
وبنفاد صبر وبنبرة حاسمة:
- تكلم ... ماذا تقصد ؟
- "البخور" سيدي، أخطر من الغازات السامة!
- وأوشك الدوتشي أن يمد يده إلى مسدسه ...
- وأستطرد السفير :
- سيدي القائد أن الأسلحة الأكثر فتكا وتدميرا من الغازات السامة، هي غازات "البخور" الذي يطلقه حملة المباخر، كذبا ونفاقا ويحجبون عنك الحقائق ... سيدي لقد فات الأوان قوات الحلفاء على أبواب برلين وروما !
وفعلا بعد شهور قليلة ... شنق موسوليني في عمود الكهرباء بالميدان العام في روما ... وتجرع أودلف هتلر السم منتحرا في قبو ببرلين ...!
وهكذا مصير الطغاة .. وهم معذورون، فسحب بخور النفاق تعمي البصائر والقلوب ! وهكذا تمضي سنن الله وأقداره في كونه...
الغافلون سادرون في غيهم ويريهم حملة المباخر مايريدون رؤيته ويحسبون أن الأشياء هي الأشياء!!
ويبرع إعلام السلطان في التلوين والتدجين :
شدوا الأحزمة لأجل الوطن ....
إلتزموا الصمت لأجل الوطن
أطيعوا الأمر وأهل الأمر
لأجل الوطن ....
وموتوا من أجل الوطن :
فقلنا : مهلا ... نحن الوطن ..!!
وليعذرني مريد البرغوثي لإقحامي أبياته الرائعة في هذا السياق ... ونحن في الهزيع الأخير من العمر، ولا توجد سرعة خلفية في محركه، نصرخ مع صلاح عبدالصبور :
- أيتها الحقيقة وحدك الأمل
- وعلى مرماك تلقى القضايا دون حل !!
- فهل بلإمكان إعادة صياغة تاريخنا وحاضرنا بصدق وعقلانية ونرمي بعيدا أختام، "ياأبيض يا أسود"، ونقتصد في الإطناب وأفعال التفضيل ؟:
أشجع الناس
أرجل الناس
أكرم الناس
ويوم الحارة ديل أهلي ..!!
- هل بإمكاننا دحض حجة السيد جون دانفورث، ممثل الإدارة الأمريكية السابق في السودان ثم مندوبها الدائم في الأمم المتحدة عندما لخص تجربته في السودان قائلا :
-السودانيون يعتبرون الكلام نشاطا مساويا وموازيا للفعل لا ممهد له !!!!
- وهل نملك إلا نهز رؤوسنا وبالإجماع السكوتي، كما أراد لنا الدكتور الترابي ذات يوم، ونردد مع حكيمنا الدكتور فرانسيس دينق:
- أن مشكلة السودانيين توجد فيما لا يجرؤ الناس على قوله علنا ويمارسونه فعلا ...!!
هكذا كانت حكمة الشريف محمد الأمين الخاتم عندما أوضح لرئيس الجمهورية أن الأشياء هي ليست الأشياء كما يعتقد،وطرده !!!... ثم كانت أبلغ دروسه ... لا دجل ولا شعوذة ... التصوف تربية وسلوك .. لا طلاسم ولا إدعاء بالغيب أو إدعاء بالتحكم في مصائر الناس وأرزاقهم ...
كان الشريف يتلو على تلاميذه قوله تعالى :
"قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ماشاء الله ولو كنت أعلم الغيب لإستكثرت من الخير وما مسني السؤ إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون" الأعراف 188
وقبل رحيله أوصى أن يكتب على قبره الآيتان الكريمتان والمثبتتان ألان على ضريحه:
"ماقلت لهم إلا ما امرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد أن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" المائدة 117-118
فهل إستوعب الرئيس نميري هذه الدروس وهل إبتعدت عنه جيوش المشعوذين والدجالين الذين جاءوا من كل فج عميق ونصبوا شباكهم ومصائدهم ؟..
الإجابة ليست عندي .. فالرجل في رحاب الله ومن يعرفونه كثر، وهم على قيد الحياة !!
وإنصافا للرجل فقد تحدث في كلمات "موثقة" عن الفارق بين حكمة وتربية الشريف محمد الأمين الخاتم وضلالات الدجاجلة، وأوضح حكاية تلك العصا التي أهداها له الشريف في زيارة أخرى، وكثر الحديث عنها ونسجت الأساطير عن أسرارها !!!
والمتعارف عليه عند أهلنا في السودان تكريم الرؤساء والزعماء، بهدايا نوعية، سيوف ،مسابح،مصاحف،مخطوطات وأحيانا وثائق بيعة وعهود ولاء ...!!
وفعلا في زيارته الثانية لكركوج أهداه الشريف عصا فرح بها كثيرا .... لكنه أوضح أن العصا التي كان يحملها ليست وحدها عصا الشريف ..!
وقال :
- كنت دائما أحمل عصا وأرفعها حتى تكون الأعين منصبة حولها .. فقد كنت أتحصن وراءها من عيون الناس وألان فقد ذهبت العيون وإنتهى دور العصا ..!!
- "صحيفة الخرطوم العدد 84 عام 1995م وكان الرئيس نميري بالقاهرة وكذلك الخرطوم كانت تصدر من هناك"
- لقد تحدث الرئيس نميري بذكاء إبن البلد ومكره، عن التأثير النفسي على جماهير مستقبليه عندما يرفع العصا التي يحملها .. والمعروف أن العصا جزء مكمل لرجال القوات المسلحة والشرطة في السودان وكذلك الوجهاء والعامة أحيانا !!
- - وأقول هادفا من هذه الرواية الحديث عن منهج التربية الذي تميز به الشريف محمد الأمين الخاتم وأتحسر وبألم ممض عندما أقارن ألان بيزنس أدعياء التصوف ...!! ولسد زرائع الحراقصة،لا أدافع عن الرئيس نميري ولا عهده ولا رجاله وسيداته فبعضهم من حملة المباخر ومازالوا "يزرعون الكوارث في تربة السودان الخصبة" حتى اليوم !!
- وقد أتيح لي عام 1984م إصدار مجلة "القوم" ومنعت من ترخيصها في البداية حتى تدخل الأساتذة الكرام، الرشيد الطاهر بكر ومحمد الحسن أحمد الحاج وعلي شمو ومحمد خوجلي صالحين لمعرفتهم بإنتمائي لشيخنا الشريف محمد الأمين الخاتم وتلميذه الجليل الشيخ البشير محمد نور ، فإستدعاني الأخ الفاضل اللواء كمال حسن أحمد أمد الله في عمره وكان نائبا لمدير الأمن القومي وطلب ملفي وتصفحه أمامي وقال ضاحكا.. أنهم يصنفوك "يساري غير نشط " منذ عطبرة الثانوية وهو تصنيف أقل بكثير من "الخلايا النائمة"، لأنه من غير المنطقي أن تدير مكتب وكالة أنباء تاس السوفيتية وأنت من أهل اليمين !! ونزع تلك الصفحة من الملف ومنحت تصديق إصدار "مجلة القوم" !!
- وألملم نفسي فقد طوفت بعيدا ... وأعود إلى الشريف الخاتم محمد فضل المولى يوم إختطاف بنك فيصل الإسلامي من بين أيدينا وفي وضح النهار !! بعد إفتتاح ثلاثة أفرع لبنك فيصل الإسلامي وخلال عام، تمت الدعوة لإنعقاد أول جمعية عمومية لحملة الأسهم من المؤسسين ... وبحكم موقعي مديرا للعلاقات العامة والإعلام، أشرفت على إرسال بطاقات الدعوة داخل وخارج السودان وكان من بين حملة الأسهم سعوديون وكويتيون وإماراتيون معظمهم من دبي .. وأتممت الإجراءات مع إدارة قاعة الصداقة لتخصيص كبرى القاعات لإنعقاد الجلسات الممتدة لثلاثة أيام ، كما تولت إدارة البروتوكول بوزارة الخارجية ترتيبات إستقبال وإستضافة الأمير محمد الفيصل ...
- وتتابع وصول الوفود من الخارج وأغلبيتهم من السودانيين المغتربين، في دول الخليج ورغم ضآلة حجم اسهمهم إلا أنهم كانوا الأكثر حرصا على الحضور مما يشكل كتلة لا يستهان بها عند التصويت لإختيار مجلس الإدارة الجديد جاءونا في جلابيب ناصعة البياض "وعمم" متناسقة تخطف الأبصار برونقها وألقها تسخر من هندام أهلنا في الداخل ضحايا رياح السموم وما تحدثه ومازالت من شحوب وعكارة طامسة لإبيضاض أزيائهم .. وتذكرت في هذا السياق مارواه الأخ دينق ألور، ايام الغابة، عندما أوفدوا أحد ضباطهم ليستطلع أحوال الخرطوم بعد إنقلاب 1989م وعندما عاد سألوه عن إنطباعاته ، قال ..."خلينا مندكرو بعمة واحدة ... اليوم بقى بعمتين ... واحدة في الرأس والثانية في الأكتاف..!!" هذا بالضبط كان إنطباعنا عندما رأينا القادمين إلينا من الخليج في جلاليبهم الناصعة البياض .. وهي مرحلة ستتلوها لاحقا مافعله الفنان راشد دياب للزي السوداني في الألفية الثالثة !!!...
- وكان معظمهم، القادمون من الخليج، بوقار وإحتشام لا يتناسب مع الكثيرين منهم، بحكم السن .. يبدأون حديثهم بالبسملة والصلاة على الرسول الكريم .. وبداهة أدركنا أنهم ينتمون إلى مدرسة واحدة وأنهم جاءوا في نسق تنظيمي لا تخطئه العين لتكون لهم الغلبة في إنتخابات مجلس الإدارة الجديد !! وكانت ليلة ماراثونية بالنسبة لنا في إدارة البنك .. وراجعنا بدقة كل الكشوفات وقارناها بالحضور ومن أين جاءوا!؟ ولاحت لنا بارقة أمل عندما دققنا في قوائم كبار المساهمين وإكتشفنا أن عددا لا بأس به من رجال الأعمال الختمية، لكنهم لم يكونوا بين الحضور بعضهم إعتذر بحجة تواجدهم في الأقاليم أو خارج السودان !! وعقدنا إجتماعا عاجلا مع الشريف الخاتم وإستقر الرأي بأن أذهب إلى السيد محمد عثمان الميرغني، زعيم الختمية لإبلاغه بكل التفاصيل ولإتخاذ إجراءات عاجلة تستبق اليومين قبل إنتخاب مجلس الإدارة، وكنت على صلة مع السيد وقد شرفني قبل ذلك بحضور عقد قراني وإتمام إجراءاته بنفسه على كريمة الخليفة تميم الدار علي محمد خير في 12/12/1962م ... "يالها من ذكرى لا تخبو أبدا !!" ولي ذكريات معه سأرويها لاحقا ...
- ورأيت الإستعانة بالأخ الكريم، ومن أبناء عمومتي، الأستاذ سيد أحمد الحسين وكان في ذلك الوقت مستشارا قانونيا لشركة أجب وله مكتب بشارع الجمهورية وبالطبع كان نشاطه سريا في الحزب الإتحادي الدمقراطي !!
- وذهبنا سويا للسيد محمد عثمان الميرغني في منزله بالخرطوم "1" وشرحنا له مايدور وتوقعاتنا، إنطلاقا من الدور المأمول من البنوك الإسلامية والتي تستطيع من خلال اسلوبها الجديد في المشاركة والمرابحة " مع عملائها السيطرة الكاملة على نشاطهم وتوجهاتهم السياسية والإجتماعية ، أذا كانت واجهة لأحزاب سياسية أو تنظيمات أيدولوجية وأشرنا إلى مؤسسات هذه البنوك من شركات تأمين وبنوك عقارية وصناعية وقدرتها على إستقطاب الحرفيين وأصحاب المشاريع الصغيرة بما في ذلك تمليك عربات التاكسي والحافلات كما ستشكل قوة إعلانية كبرى تمكنها من إختراق أجهزة الإعلام والسيطرة على مدخلات الطباعة، والخلاصة سيتم إعادة حرث الخارطة الإقتصادية و السياسية وإنبثاق واقع جديد يمتلك كل القدرات للحكم والسيطرة والتمكين !!
- كان السيد ينصت بإهتمام ويدون ملاحظاته في ورقة أمامه .. وفي نهاية الإجتماع طلب مني إبلاغ الشريف الخاتم تحياته، وكلف الأستاذ سد احمد الحسين بالإجتماع فورا بالأمير محمد الفيصل، ليشرح له خطورة الموقف كما أبلغنا أنه سوف يتصل بكبار المساهمين من رجال الختمية للمشاركة في الجمعية العمومية والتنسيق في إختيار مجلس الإدارة الجديد .. وخرجنا وفي الطريق وبتواضعه الجم قال لي الأستاذ سيد أحمد :
- هذه أول مهمة سياسية يكلفني بها السيد .. أدعو لي بالنجاح !!!
الحلقات من 1- 4 منبر الرأي Sudanile