السودان بين الأمم: مؤشر حرية الصحافة في العالم
30 June, 2009
أطلق في واشنطن عشية اليوم الدولي للصحافة في أول مايو الماضي تقرير مؤسسة "فريدوم هاوس" أو"بيت الحرية" الأمريكية، عن مؤشر حرية الصحافة في العالم لعام 2009، ولقد ظل التقرير يصدر سنويا منذ عام 1972، ويتخذ منهجية محددة ليس لتقييم أوضاع الصحافة في بلدان العالم ولكن لقياس مدى حرية الصحافة والإعلام عموما في كل بلد من بلدان العالم لتصنيفها وفقا لثلاث فئات أساسية كانت تقسيمها لعام 2009 كالآتي: فئة الدول ذات الصحافة الحرة (70 دولة)، وفئة الدول ذات الصحافة الحرة جزئيا (61 دولة)، وفئة الدول التي لا تتمتع فيها الصحافة بالحرية (64 دولة).
لعلك قارئ العزيز في عجلة من أمرك لمعرفة تصنيف السودان ومكانة بلادنا بين الأمم لا سيما والحديث لا يزال يدور عن قانون الصحافة الذي أجيز مؤخرا وملابسات مناقشته وإجازته. جاء السودان، كما هو متوقع بكل أسف، ضمن الفئة الأخيرة، "البلدان التي لا تتمتع فيها الصحافة بالحرية" وجاء تصنيفه في المركز 168 من مجموع 195 بلدا هذا العام. ولقد كان السودان في المركز 170 في العام الماضي فحسبنا أن ثمة تحسن ولكن بعد فحص درجات التقييم تبين لنا أن ليس من تحسن ولكن بعض البلدان تدهورت فارتفع السودان درجتين في سلم التقييم.
والبلدان العربية يدخل بعضها ضمن بلدان أفريقيا كالسودان، ويدخل بعضها الآخر ضمن فئة بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تضم إسرائيل وإيران إلى جانب 17 بلدا عربيا. وقد أتت إسرائيل، كما هو الحال في كل عام، على رأس قائمة الشرق الأوسط وشمال افريقيا محرزة الموقع (71 عالميا) ولقد تردت في هذا العام من فئة البلدان ذات الصحافة الحرة إلى فئة البلدان ذات الصحافة الحرة جزئيا وذلك بعد حملتها القمعية على غزة في نهاية عام 2008 وبسبب ممارساتها المتعلقة بحرية الصحافة في الأراضي الفسلطينية المحتلة. وأتت إيران في المركز 17 في القائمة (181 عالميا).
وإذا وضعنا الدول الأعضاء في الجامعة العربية معا ومجموعها (21) نجد أن جزرالقمر قد نالت المرتبة الأولى عربيا (101 عالميا) تليها الكويت (115 عالميا) ثم لبنان في المرتبة الثالثة عربيا (118 عالميا) ثم موريتانيا الرابعة عربيا (124 عالميا) وجاءت مصر في المرتبة الخامسة عربيا (128 عالميا) فالجزائر السادسة عربيا (136 عالميا) والبلدان العربية الستة الأولى جميعها متدنية في التصنيف عالميا كما ترى وتدخل في فئة "حرة جزئيا" وليس بين الدول العربية دولة واحدة تدخل ضمن فئة البلدان ذات الصحافة الحرة.
الطريف في الأمر أن الدول الست أعلاه، إلى جانب الأردن التي جاءت في المرتبة السابعة عربيا (140 عالميا)، قد أوردت في صحافتها خبر التقرير وترتيبها "المتقدم" عربيا وصمتت عن تصنيفها المتدني عالميا. كما أن أيا منها لم تذكر الدول الأولى عربيا "جزر القمر"! ولم يرد ذكر للصومال أو السودان أو جيبوتي أو موريتانيا وباستثناء موريتانيا فإن جميع هذه الدول لا تؤثر على التصنيف العام للدول الست الأولى بين البلدان العربية. أما جميع البلدان العربية الأخرى فقد جاءت ضمن فئة البلدان ذات الصحافة غير الحرة واحتلت مراتب متدنية في التصنيف العالمي ولقد جاءت ليبيا في ذيل قائمة الدول العربية
وعلى المستوى الأفريقي فقد شمل المؤشر48 بلدا أفريقيا جميع البلدان الأفريقية باستثناء دول شمال أفريقيا. ولقد جاءت مالي وغانا وموريشيوس في المركز الأول أفريقيا ( 53 عالميا لها جميعا) وجاءت إريتريا في ذيل القائمة الأفريقية (48) ومن بين آخر خمس دول عالميا بعد كوبا وقبل ليبيا وميانمار وتركمنستان وكوريا الشمالية التي احتلت ذيل القائمة.
وكما هو الحال في جميع المؤشرات أتت الدول الإسكندنافية في الطليعة حيث نالت آيسلندا المرتبة الأولي وجاءت بعدها فنلندا فالنرويج ثم الدانمارك والسويد وبعدهما بلجيكا ولوكسمبورغ. أما الولايات المتحدة فقد جاءت في المركز 42 عالميا ضمن الدول ذات الصحافة الحرة البالغ عددها 70 بلدا. والتدني النسبي لمرتبة الولايات المتحدة يأتي من ترحيلها صحفيين في عام 2008، أو رفض تأشيرات دخول إلى جانب اعتقال صحفيين في غوانتانامو.
ويمثل صدور التقرير في كل عام، شأنه في ذلك شأن تقرير منظمة "مراسلون بلا حدود" حدثا تنتظره الأوساط الصحفية والإعلامية ومؤسسات الدولة الرسمية المعنية بمكانة البلاد بين الأمم كوزارة الخارجية ووزارة الإعلام وغيرهما لترى تصنيفها صعودا وهبوطا وتتشاور فيما بينها على ما ينبغي عمله لمعالجة أسباب التدهور أو بذل المزيد من الجهد لتحسين التصنيف في السنوات القادمة. ولنسوق مثالا على ذلك ما جاء على لسان وزير الدولة لشؤون الإعلام والاتصال في الأردن السيد نبيل الشريف ذكر تعليقا على ما جاء في التقرير عن تردي الحريات في بلاده التي جاء تصنيفها السابع عربيا (140 عالميا) بقوله نحن بصدد دراسة هذه التقارير كافة والرد عليها من خلال وحدة حقوق الإنسان في وزارة الخارجية ثم بين أن الحكومة " ملتزمة بتعزيز الحريات الصحفية، موضحاً أن الصحافة تعمل بشكل مستقل ولا سلطة للحكومة عليها نحن كحكومة نحترم دورها ومعنيين بمدها بالمعلومات ولم يفته أن يذكّر بأن الأردن هو الدولة العربية الوحيدة التي تتوافر على قانون للحصول على المعلومات.
قال رئيس مؤسسة بيت الحرية ارش بودينغتون، إن الحريات حول العالم عانت من تراجع للسنة الثالثة على التوالي في العام 2008، رغم أن وتيرة التراجع بدت أقل حدة عن السنين الماضية. وقال في بيان صحفي بمناسبة صدور التقرير معظم المناطق لم تشهد تقدما فيما شهدت مناطق إفريقيا ودول الاتحاد السوفييتي السابق، من غير دول البلطيق، انخفاضاً حاداً في الحريات الصحفية. وعن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، اعتبر التقرير أن هناك مؤشرات أمل، لكن قمع الحريات الصحفية مستمر، مبيناً أن الحريات في المنطقة أحرزت تقدماً في مطلع العقد الجاري، تلتها مرحلة من الجمود في واحدة من مناطق العالم، التي برهنت أنها أكثر منطقة عصية على التغيير الديمقراطي ثم أضاف أن الدولة الوحيدة التي أحرزت تقدماً في الحريات، رغم ضآلته، هي دولة العراق (المصنّفة غير حرّة)، إذ استفاد البلد من اقتلاع العنف، ومن انحدار الميليشيات الشيعية، ومن تراجع في العنف السياسي.
ولقد قالت السيدة جينيفر ويندسور، المديرة التنفيذية لمنظمة فريدوم هاوس في حفل إطلاق المؤشر "إن مهنة الصحافة اليوم تتحمل ضربات موجعة كي تبقى حية، حيث تفرض عليها ضغوط الحكومات والقوى الفاعلة الأخرى وأزمة الاقتصاد العالمي تكلفة هائلة". وأضافت "الصحافة هي خط الدفاع الأول عن الديمقراطية، وضعفها له عواقب هائلة على الديمقراطية إذا لم يستطع الصحفيون تحمل دورهم الرقابي التقليدي"
وفي بحثنا عن استقبال أجهزة الأعلام وردود فعل المسؤولين وهيئات الصحفيين والإعلاميين وأقسام الأعلام في الجامعات في السودان لم نجد شيئا كثيرا وكأني بها لم تسمع بالتقرير وإلا لأفردت لها المكانة التي يستحقها فأمره يعنيها أكثر من غيره من التقارير وحتى لا نظلم الصحف جميعا ربما تكون إحداها قد نشرت خبرا عن صدور التقرير وحجبه الرقيب كما حدث لتقرير استعرضناه في الأسبوع الماضي على صفحات هذه الصحيفة عن مؤشر السلام في العالم وتصنيف البلدان اقترابا وابتعادا من السلم والسلام وفقا لمعايير محددة وقد جاء ترتيب السودان بين الدول الخمس الأخيرة بعد إسرائيل وقبل كل من الصومال وأفغانستان والعراق أورت صحيفة "أجراس الحرية" خير صدور التقرير وتصنيف السودان كخبر لم يتعد السطرين فحجبه الرقيب! ومما يدعو للدهشة أن مناقشة قانون الصحافة في البرلمان لم تقم الصحف بتغطيتها بما يليق بها من تغطية خاصة وأنه قانون أساسي من قوانين التحول الديمقراطي وموضوع مثار جدل مما يجعل نقاش يوفر مادة إعلامية ثرة، كنت حريصا لمتابعة النقاش حول هذا القانون بعد أن رأيت تصنيف السودان في مؤشر حرية الصحافة في العالم فلم أجد إلا شذرات هنا وهناك في الصحف اليومية ووجدت بعض الأخبار في المواقع الأسفيرية مما حال الرقيب دون نشرها في الداخل. فإن لم يكن من حق الصحفيين إيراد ما يدور من نقاش في الجلسات العلنية لبرلمان بلداهم عن القانون الذي يعني مهنتهم مباشرة بحرية وبالشكل الذي يريدون فكيف يا ترى سيتحسن ترتيبنا في مؤشر الحريات الصحفية! وإلى متى يا ترى ستسمر الزيارات الليلية لضباط الأمن لينزعوا ما شآؤوا من أخبار ومقالات ولقد قبل أن الرقابة القبلية التي يقوم بها جهاز الأمن هي إجراء استثنائي ومن سمات الاستثناء عدم الاستمرار ولقد مرأكثر من 16 شهرا على هذه الرقابة الأمنية المفروضة بغير سند دستوري.
في إطار بحثي عن ردود الفعل السودانية على صدور المؤشر وقعت على مقال يتيم عن صدور المؤشر وصحافة السودان نشره موقع سودانييز أونلاين المعروف بعنوان (صحافتنا وتقرير فريدوم هاوس لحرية الصحافة) بقلم توفيق عبد الرحيم منصور حيث يقول: " هذا وأسوق هنا التقرير الذي أصدرته مؤخراً (فريدوم هاوس) والذي "توصلت به" عبر الإنترنت من الدكتور (مصطفى أحمد علي) الخبير بالمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم، الذي كأني به قد كان منزعجا أيما انزعاج للمرتبة التي وضعنا فيها التقرير، ولكنه لم يكن بالمستغرب" لأ أدري ماذا عنى الكاتب بعبارة " ولكن ليس بالمستغرب هل المكانة التي وضعنا فيها التقرير أم انزعاج دكتور مصطفى؟ فإن العبارة تقبل التفسيرين فمكانتنا بين الأمم في هذا المجال ليست حاليا مما يسر البال وانزعاج الدكتور مصطفى ليس مستغربا فبغض النظر عن طبيعة العمل التي جعلته يهتم بمثل هذه التقارير في منظمة هي في قلب قضية الثقافة والمعرفة والحرية في العالم الإسلامي ولا شك بأن وجه قد اكفهر عندما قرأ التصنيف المتدني للبلدان الخمسين التابعة للمنظمة والبلدان العربية جميعها من بينها، وازداد اكفهرارا عندما رأى تصنيف السودان المتدني ولا شك أنه قد تذكّر تقريرا كنا قد استعرضناه معا في باريس في منتصف الثمانينات صدر عن مؤسسة ترصد حال الصحافة في العالم وكيف أن التقرير قد احتفى بشكل خاص بالحريات الصحفية في السودان وصحافة السودان التي خرجت من ركام ستة عشرة عاما من الشمولية وكيف استطاعت أن تزدهر في وقت وجيز وتتمتع بتنوع وجرأة نادرة المثال في المنطقة العربية التي وصفها تقرير فريدوم هاوس بأنها منطقة عصية على التحول الديمقراطي. حقا كنا نباهي الأمم وقتها بحرية صحافتنا ونزهو بمستوى الحريات في بلدانا عند نقاشنا مع الزملاء من الطلاب والمثقفين العرب الذين تعج بهم باريس في كل حين وكنا نتطلع حقا لنفوق العالم أجمع ولكن! فهل ثمة آمل أخي مصطفى بأن يكون الغد أفضل؟وانزعاج الأخ مصطفي الذي تلمسه كاتب المقال لا يقل عن حسرته وانزعاجه هو نفسه حيث يقول "بغض النظر عن نزاهة واجتهادات (فريدوم هاوس)، أو تحيزها، أو تحاملها، أو أية اتجاهات مضمرة لها، أو لأمثالها، نقول أن المرتبة التي تم وضعنا فيها للعام 2009 متدنية للغاية، ولكنها مع الأسف قريبة من الواقع إن لم تكن هي الواقع نفسه، وقد أتت متوافقة مع مراتب سبق أن حصل عليها السودان في مجال حرية الصحافة من جهات أخرى حول العالم . إذن ودون أية انفعالاتٍ علينا أن نعمل على تحسين وضع صحافتنا من حيث حريتها بداية حتى نقوي من آلياتها التي نأمل من خلالها الكثير الموجه لأجل الديمقراطية التي ننشدها لأجل البناء والرقي ببلادنا وإنساننا .. فالطريق أمامنا ما زالت طويلة وخطيرة، وصحافتنا لا شك إن أعطيت الفرصة والحرية المسؤولة اللازمة ستشكل خط الدفاع الأول لنا توجيها ونقدا وتمحيصا وإرشادا، وفي حقيقة الأمر فإن المرتبة التي دوما نحتلها في مثل هذه التقارير، لا ترتقي وعدد صحفنا وعراقة بعضها وكوادرها المتمرسة والمؤهلة والمعتقة خبراتها للحد الذي يجعلها تتفوق على الكثير من جيراننا في مضمار الصحافة، لا بل قدنا ونقود دفة الصحافة الناجحة ببلادٍ غير بلادنا"ولم توضع التقارير الخاصة بكل بلد بعد على موقع المؤسسة وسنرصد ما يرد في تقرير السودان عند نشره لمعرفة أسباب هذا التقييم المتدني تحديدا حيث أن التقرير يقييم البيئة السياسية والاقتصادية والقانونية التي تمارس فيها مهنة الصحافة ويرصد التدهور والتحسن في كل من هذه البيئات من عام لآخر فتقرير 2009 يقيم الأوضاع حتى ديسمبر 2008.
نقلا عن جريدة الصحافة ليوم الثلاثاء 23 يونيو 2009