السودان: عام على الثورة (1969 – 1970م) .. ملخص لمحاضرة ألقاها بيتر كيلنر .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

تقديم: هذه ترجمة لمحاضرة عنوانها The Sudan: A Year of Revolution، قدمها بيتر كيلنر، رئيس تحرير مجلة Arab Report and Record، للجمعية الملكية الأفريقية في الثالث من يونيو 1970م. وقدم المحاضر رئيس الجلسة اللواء السير دنكان كامينج، الذي عمل بين عامي 1950 – 1951م نائباً للسكرتير الإداري لحكومة السودان في عهد الحكم الثنائي.
نُشِرَ تلخيص لهذه المحاضرة في المجلد رقم 69، الجزء رقم 277 من مجلة "الشؤون الأفريقية African Affairs" الصادرة عام 1970م، ص 375 – 376.
المترجم.
******* ******* ***** ********
تناول المتحدث باختصار التحالف الجديد الذي أقامه السودان مع مصر وليبيا. ويبدو أن الأنظمة الحاكمة في الأقطار الثلاثة لديها الكثير من الأهداف المشتركة، وبدا هذا واضحا من اللقاء الثلاثي الذي جمع الرؤساء جمال عبد الناصر ومعمر القذافي وجعفر نميري. ومن الواضح أن التعاون بين الدول الثلاث في مختلف المجالات أمر منطقي ومفيد، إذ أنها تُكَوِّنُ كتلةً كبيرة العدد وشاسعة المساحة، ولديها الآن العديد من الخطط لإقامة مشاريع مشتركة. والسودان هو أضعف الأطراف في هذه الشراكة، فليبيا دولة غنية من عائدات بيع النفط، ومصر غنية بالخبرة المتأتية من اقتصاد متقدم نسبياً، وليس بالسودان سوى الأراضي والسكان. غير أن المساعدات العسكرية التي يقدمها السودان لمصر مهمة، فهو يقدم لها الآن القواعد ومرافق التدريب. وفي المقابل، فإن الوجود العسكري المصري في السودان يساعد في تعزيز سلطة النظام الحكم في السودان. ويبقى وضع ليبيا غامضا نوعاً ما؛ فمن جهة، هي متنازعة بين السودان ومصر (وهما يرغبان في التعاون الوثيق معها)، وبين جيرانها في المغرب العربي، من جهة أخرى. وتوجد بعض الإشارات التي تدل على أن موقف ليبيا الأيديولوجي أكثر التباساً من موقفي السودان ومصر.
بعد ذلك تناول المتحدث المشاكل الداخلية في السودان التي تتعلق بالطائفية. وخص بالذكر أنصار المهدي وحركتهم، وما قام به (مؤخرا) النظام العسكري الحاكم من قمع عنيف لتلك الحركة. وليس من المفهوم بصورة واضحة أسباب قيام الدولة بذلك. ليس هناك من حاكم راديكالي قوي بمقدوره أن يحتمل لوقت طويل وجود "دولة رجعية نسبيا" في داخل دولته ليس له عليها سلطان؛ بينما لا يزال هناك كثير من السودانيين في داخل السودان وخارجه يرون أن سحق النظام العسكري لحركة الأنصار كان عملا شريرا وخبيثا وبالغ العنف. وكان من رأي المحاضر أنه ليس هنالك من أمل في إحياء حركة الأنصار مرة أخرى.
وذهب المتحدث إلى أن الجنرال نميري هو قائد بكل معنى الكلمة، ولكن على الرغم من كل الكاريزما التي يتصف بها، فغالب السودانيين يقومون النظام الذي يحكمهم بإنجازاته فحسب، وحتى الآن لا يرى رجل الشارع العادي إلا أقل القليل من الإنجازات. وربما لا يزال عامة الشعب السوداني ينظر لحكامه العسكريين الجدد نظرة ملؤها الشك. ولا تزال الخدمة المدنية المحبطة بحاجة إلى الإلهام. وشدد المتحدث على حاجة أولئك الذين سيكونون على استعداد لتحمل بعض المضايقات للانخراط في إعادة الإعمار الوطني خارج نطاق العاصمة المثلثة. واستشهد المحاضر هنا بما صرح به النميري من أن نحو 75% من المسؤولين بالدولة لا يقومون بأداء أي عمل.
السودان الآن في حالة اقتصادية سيئة. وعلى الرغم من انتعاش سوق مبيعات القطن، محصوله النقدي الأهم، إلا أن ميزانيته تعاني من عجزٍ في ميزان المدفوعات بلغ في العام الماضي (أي في1969م. المترجم) نحو 9 مليون جنيه. ولا يبدو أن بمقدور الحكومة خفض ذلك العجز في المستقبل. فتَكلِفة الخدمات الاجتماعية عالية، وأعداد العاملين بالخدمة المدنية في تضخم، والانفاق العسكري في تَضَاعُفٍ مُسْتَمِرٍّ؛ وكل ذلك يلقي بأعباءٍ كبيرة وخطيرة (على اقتصاد البلاد). كذلك تزداد أعداد سكان البلاد بمعدلات سريعة. ولا يزال القطن هو وحده ما يشكل قاعدة السودان الاقتصادية. وتأمل وزارة الزراعة الآن في تطوير سلالة جديدة من القطن بإمكانها مضاعفة الإنتاج في المستقبل القريب.
يتجه النظام العسكري الجديد نحو أسواق شرق أوروبا بصورة متزايدة. وكان الروس هم من ساعدوا في تخطيط وصياغة ميزانية التنمية بالسودان. وتتوقع تلك الخطة إنفاق نحو 400 مليون جنيه خلال السنوات الخمس القادمة. وربما يستطيع السودان توفير 120 مليون فقط من ذلك المبلغ. وأشار المتحدث إلى أن أول أولويات النظام الجديد لتنفيذ برنامج لإعادة تأهيل جنوب السودان ربما يكلف نحو 100 مليون جنيه. وعبر المتحدث عن أسفه على عدم قيام المجتمع الدولي بتقديم العون اللازم لتنفيذ ذلك البرنامج.
ومما يثر الشك في احتمالات قيام القطاع الخاص بأعمال جديدة في السودان هو ما أقدمت عليه الحكومة من عمليات مصادرة وتأميم شملت كل المصارف و35 من وكالات تأمين. وبالمجمل، كان المتحدث يرى أن الآفاق في السودان كانت إلى حد ما تشابه تلك التي كانت سائدة بمصر في الفترة التي أعقبت الثورة ضد الملكية، حيث منعت شركات الدولة فعلياً عمل الوسطاء / السماسرة middlemen، وتم، في كثير من الأحيان، توجيه التجارة (الخارجية) نحو المقايضة مع دول أوروبا الشرقية.
لا يكتمل النقاش حول السودان دون ذكر "مشكلة" جنوب السودان. وانتقد السيد كيلنر بشدة الذين يتحدثون عن 15 سنةً من الحرب الأهلية، إذ أن النزاع الحالي لم يبدأ إلا في نوفمبر من عام 1963م. ويقول النظام العسكري الجديد بأن ذلك الوضع قد حدث بسبب التجاهل "الاجرامي" للأنظمة الحاكمة السابقة. وذكر المتحدث أن بعض الفظائع التي اُرْتُكِبَتْ كانت بالتَّأكيد كافيةً لجعل أي جنوبي يتمرد على ذلك الوضع، إلا أن الانفصال التام عن شمال السودان ليس له من سبب منطقي، بل هو عمل يفتقر للمعنى والجدوى من الناحيتين السياسية والاقتصادية. وكان المتحدث يرى أن الحل الأمثل لـ "مشكلة" جنوب السودان هو قيام حكم ذاتي إقليمي أو اتحاد فيدرالي بالبلاد. ومنح النظام الجديد في (التاسع من) يونيو 1969م جنوب البلاد حكما ذاتيا إقليميا، وعين وزير دولة لإدارة شؤون الجنوب (هو جوزيف قرنق، 1932 -1971م. المترجم) يعمل بجد في تنسيق عمليات إعادة تعمير الجنوب. وعلى الرغم من أن الأوضاع بالجنوب هي الآن أفضل مقارنةً بحالتها قبل ستة أشهر أو عام، إلا أنه من الضروري استباب الأمن تماماً قبل الشروع في إقامة مشروعات مستدامة. وهناك خطران محتملان: قيام "بيافرا" أخرى في جنوب السودان، وأن يصبح جنوب السودان بمثابة أحد "البيادق" في الصراع العربي – الإسرائيلي. وكان "الاهتمام" الإسرائيلي بشأن المتمردين الجنوبيين يقابله "اهتمام" من الطيارين المصريين في الجنوب، الذين كانت مهمتهم – فيما يبدو – هي مواجهة المتمردين. وإذا تواصلت تدخلات الأجانب في جنوب السودان، فمن الممكن أن تحدث فيه المزيد من المجازر.
لقد وقعت العديد من الأخطاء منذ استقلال السودان عام 1956م، ويتحدث النظام الحالي الآن عن 13 سنة من الاضطراب والفوضى في الحكم. لا شك أن هناك حماسة جديدة قد تتجاوز وتتفوق على نفسها، وقد تفعل ذلك بإفراط تحت تأثيرات خارجية. غير أن السودان يبقى بحاجة ماسة إلى الطاقة والحيوية (الذاتية) إن أراد حل مشاكله العديدة الصعبة.

alibadreldin@yahoo.com

 

آراء