السودان: على أي جانبيه يميل

 


 

 


رفرفت الدولة السودانية خلال عمرها القصير بجناحين من عروبة وافريقانية. ولم يكن ذلك أمرا صعبا ولا مؤذيا فقد كان محمد احمد المحجوب يدخل ارقى الصالونات العربية ويستمع الى حديثه عرب فاغري الافواه دهشة وانبهارا وكذلك كان شأن منصور خالد في محافل الافارقة وهو يخاطبهم بانجليزيته المنتقاة ومن خلف هذين الزعيمين كان رعيل كامل من السفراء والدبلوماسيين والفنانين والمثقفين يضيئ  دروب العلاقات الافروعربية بحرارة ايمانهم واخلاصهم لقضايا الجانبين وهم رعيل يمتد من عبد الكريم ميرغني الى مصطفى مدني الى صلاح احمد ابراهيم الى نور الدين ساتي في هذا الزمان.وفي ساحة الفن والابداع كان عبد الكريم الكابلي يغني لعبد الناصر بنفس الحرارة التي يغني بها لغابات كينيا الزاهرة وجومو كنياتا البطل. ولذلك اعتبر اننا لم نأت بجديد يوم تحدثنا عن الغابة والصحراء فقد تقمصنا واقعا ماثلا دون ان نخترعه اختراعا وسعينا الى تكريسه وتخليده كوصفة روحية تغتني بها وجداناتنا وتمتلئ بها ارواحنا كمهمة قارية يقوم بها سودان مستنير.وينبغي ان اسارع الى القول اننا لم نكن من دعاة المفاضلة والتغليب فنحن عرب متأفرقون وافارقة مستعربون وقد يكون بيننا عرب خلص او افارقة خلص فمرحبا بهم أيان كانوا ولا حاجة بهم الى الخروج من ارواحهم لينضموا الى الرعيل. كما انه ليس مطلوبا من السوداني تغليب عروبته على افريقيته او الاخيرة على الاولى فذلك شبيه بتغليب اليد اليسرى على اليمنى في سؤال افتراضي وغير منطقي.ولكن الذين وقفوا على الجانب الاخر قالوا ان عروبتهم هي الاصل وانهم لايبالون بظلال السواد المرتسم على تقاطيعهم وشايعهم متدينون يرون ان اضواء الايمان الباهرة من شأنها أن تخفي الفروق الاثنية بين الناس بحيث لا يكون هنالك من فرق بين أبيض وأسود الا بالتقوى.ولقد عشنا ورأينا المعاملة التي حظي به اولئك الأماثل في بلاد العرب حين أخذ مسئول كبير للاقامة في ما يسمى عند الفرنجة شامبر دي بون كما رأينا  التجانب الديني الذي اعرب عنه زوارهم من المسلمين البيضان وهم يختلقون الحجج والمعاذير ليتجنبوا الصلاة خلف واحد من مضيفيهم السود.
*
تجمعت الروافد الاثنية والعرقية لدى اولئك المستعربين والمتدينين والمتظاهرين بالتدين  لتجعلهم يتخذون قرارهم المشئوم ببتر الجنوب من خريطة الوطن ولفترة قصيرة بعد تلك الفعلة النكراء راحوا يتباهون بذلك كعمل من اعمال البطولة يؤهل قادتهم لجائزة نوبل ويمكنهم من فرض دولة اسلامية كاملة الدسم على المستعمرة الوحيدة التي بقيت لهم وهي شمال السودان. وما كادوا يفرغون من توديع الجنوب حتى  تبددت الاحلام واكتشفت بقايا دولة السودان القديم ان ثوبها لايغطيها فاذا جذبته لفوق بانت سيقان الدجاج التي تسير عليها واذا جذبته الى فوق انكشفت الليمونتان المغضنتان على صدرها.وفي حمأة فشلها وعجزها لم تجد الدولة الممزوعة الثوب من تلجأ اليه سوى عشيرتها الاقربين من عرب الجزيرة والخليج أو من توهمت انهم عشيرتها الاقربون.
ولكنها كانت قد اوغرت صدور هؤلاء بما جرته على اسلامهم وعروبتهم من سمعة سئية بجلدها مرتديات البنطلون ومنعها حفلات المرح البريء وبترها الايادي والسيقان وأخيرا بفصلها الجنوب عن الشمال ليتحول الى دولة صديقة لاسرائيل تقف شوكة في خاصرة الوطن العربي وتتهدده بقطع مصادره المائية وتركيعه على ركبتيه. وبسبب من ذلك ترددت كبرى الدول العربية (اقتصاديا) وحوقلت وبسملت ثم قالت لطالبي عونها:"الحقيقة نحن نترك مسائل الاستثمارات هذه للقطاع الخاص  ولا نكرههم على شيء ولكن من اجل عيونكم العسلية سنوعز الى احد افراد العائلة المالكة لينظر في امر مساعدتكم" .وبعد اسبوعين ثلاثة جاء المنتظر ناثرا حول نفسه قنابل الدخان وبعد ان تسلم الدكتوراه الفخرية من  جامعة البلاد الاعرق قام بمنحها مليونا من الدولاارات وهرب بجلده.
وعلى الجانب الآخر لم يكن الجفاء الافريقي اقل وضوحا فقد اعترض سبيل السودان الى عضوية مجموعة شرق افريقيا كلا من يوغندا وتنزانيا ومارستا ضده الفيتو .واستمعت محكمة كينية لدعوى ضد بلادها واصدرت قرارها بوجوب قيام سلطاتها التنفيذية بالقاء القبض على الرئيس السوداني متى وطات قدماه الاراضي الكينية مرة ثانية. وهكذا فشلت الدولة الممزوعة في دغمسة نفسها للعرب بينما  اعتقلها الافارقة بتهمة استخدام جواز مزيف.
*
في الماضى كان من الممكن –نظريا- نشوء وضع من ذلك النوع ولكنه كان ممكنا الميل من جانب الى جانب فاذا غاضبنا اهلنا العرب "ميلنا" على الافارقة واذا غاضبنا هؤلاء "ميلنا" على اولئك.اما اليوم فنحن أشبه بالوضع الذي صوره المتنبي لاميره حين قال: وسوى الروم خلف ظهرك روم فعلى أي جانبيك تميل؟فقد ساء عرب ذلك الزمان ان يتصدى ذلك الملك الشاب وامارته الحدودية الصغيرة لجهاد الروم وغزوهم   بالشواتي والصوائف بينما يخلد بقية الاعراب الى بياتهم الشتوي وبنفس الوقت يهب البيزنطيون بوجه الغازي ويردون الصاع صاعين –متى استطاعوا-  لذلك المجتريء.وكل ذلك مع مراعاة الفارق ففي حالتنا الراهنة ظل ابوزيد يجعجع ويفتري على شعبه ولكنه لا غزا ولا شاف الغزوة ولم يحقق انتصارا على احد سوى انتصاره على شعبه قبل اثنين وعشرين من الاعوام.
فعلى أي جانبيه يميل هذا السودان المحاصر الذي تبرع بثلث مساحته للصهيونيين وطعن أمتيه (العربية  والافريقية) في الخاصرة دون ان يستفيد من ذلك شيئا فقد تبخرت وعود اعفاء الديون ووعود اقامة السفارة الامريكية الاكبر على اراضيه وصدق عليه المثل العربي القديم :يداك أوكتا وفوك نفخ*.
لقد كتبت الانقاذ نهاية نفسها بنفسها يوم قبلت بنيفاشا ومهرتها بتوقيعها بكثير من الاستخفاف لتعود بعد شهرين فقط لتتعلم ان الجنوب ليس عبئا على الشمال بقدر ما هو اخ شقيق وشريك في المصادر الاقتصادية وان خروجه من معادلة الدخل القومي يورث الشمال ضعفا وهزالا اقتصاديا ويهبط بمكانته بين الدول الى أسفل سافلين.

*اصل المثل ان احد الناس اراد ان يعبر نهر الدجلة فاخذ قربة ونفخ فيها ثم ربطها ربطا محكما ليمنع خروج الهواء  وحضنها الى صدره ونزل الى الماء فلما وصل الغريق شعر بالهواء يتسرب من القربة بما يتهدده بالغرق فجعل يستنجد بالواقفين على الضفة التي يقصدها  فسمعه احدهم وفهم موقفه فرد عليه ذلك الرد القاسي: انت الذي ادخل نفسه في المأزق فان يداك ربطتا القربة دون ان تحكم ربطها  وفمك هو الذي نفخ فيها الهواء فلم يملأها على الوجه المناسب


Ibrahim ELMEKKI [ibrahimelmekki@hotmail.com]

 

آراء