السودان على مفترق الطرق: حق تقرير المصير لجنوب السودان: الحق والواجب… بقلم: هانئ رسلان

 


 

هاني رسلان
26 June, 2010

 

-1-

حق تقرير المصير لجنوب السودان: الحق والواجب

 

 

 

تعيش الخرطوم هذه الأيام أجواء من الترقب المشوب بالقلق  بسبب إقتراب الإستحقاق الخاص بالاستفتاء على حق تقرير المصير المقررله ان يتم فى مطلع يناير 2011، حيث يختار شعب جنوب السودان بين البقاء فى السودان الموحد طبقا للنظام الذى أقرته اتفاقية نيفاشا وبين الانفصال فى كيان جديد، سوف يمثل الدولة رقم 11 فى حوض النيل .

 

المتابع للشأن السودانى يمكنه ان يلحظ بسهولة من خلال تصريحات كبار المسئولين وبخاصة الرئيس البشير ونائبه على عثمان طه، ومن خلال الاجواء الاعلامية وأحاديث رجل الشارع ، أن هناك إشفاقا من التداعيات التى سوف تترتب على الانفصال المتوقع.. وهنا يجب أن نفرق بين عدم الممانعة الشمالية الواضحة فى أن يذهب الجنوبيون إلى حال سبيلهم  وان يجربوا ادارة دولتهم وشئونهم بمفردهم، وبين القلق الواضح من ألا يكون الانفصال نهاية لهذه العلاقة المأزومة والمسكونه بالهواجس، وان يتحول الى نقطة البداية فى مسار جديد من الصراع بسبب التداخل بين الشمال والجنوب، فهما فى نهاية المطاف تعبير عن نسيج متداخل لابد ان يصيبه التهتك فى حالة فصله عن بعضه البعض، وايضا بسبب العديد من الملفات التى مازالت عالقة مثل ترسيم الحدود وقضايا البترول والديون والاصول المشتركة واوضاع الجنوبيين فى الشمال والشماليين فى الجنوب .. الخ ، وهناك أيضا قضايا إخرى بالغة الحساسية مثل أوضاع مناطق التخوم التى تقع على الحدود الفاصلة بين الشمال والجنوب، وهى جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة وإبيى .. هذه المناطق كان من المفترض ان تكون مناطق تعايش وتواصل وربط بين الشمال والجنوب، ولكنها تحولت بسبب الحرب والصراع الى مناطق قلق وتوتر.. ففى حالة وقوع الانفصال : ما هى آثار ذلك على هذه المناطق التى تقع جغرافيا فى الشمال( ما عدا إبيى التى لها وضع خاص ) فى حين انها اقرب الى الجنوب من الناحية الاثنية،  وخاضت اجزاء كبيرة منها الجولة الثالثة من الحرب الاهلية فى صفوف الحركة الشعبية.. هل سوف تستقر اوضاع هذه المناطق ام انها ستكون ساحة لحروب بالوكالة ام انها ستتحول الى حرب مباشرة لاسيما وان هذه المناطق تتمتع بحق " المشورة الشعبية " كما جاء فى بروتوكولات نيفاشا . يضاف الى ذلك هاجس اخر هو الاثر المتوقع على ازمة دارفور التى اكملت عامها الثامن وهى تدور فى متاهة البحث عن حلول ومخارج.. فهل سوف تنتقل اليها عدوى النموذج وتسير فى نفس الاتجاه، أى الإستعصاء على الحل السلمى والتسوية السياسية، ثم الشعور برهق الحرب والرغبة فى انهائها والتخلص من أعبائها.. ومن ثم يبدأ حق تقرير المصير الذى يطل برأسة منذ فتره فى مطالبات لفظية متناثره هنا وهناك  فى شق مساره الصاعد بعد أن تكون الأجندات الاقليمية والدولية قد مهدت له الأرضية وخلقت الاجواء المناسبة ؟.. كل هذه الاسئلة معلقة فى سماء الخرطوم ، فرغم بوادر الانفصال التلاى خرجت من حيز الاحتمالات الى التصريحات المباشرة من باقان وغيره من قادة الحركة، الا انه يمكنك ان تلحظ ان هناك احساسا غامضا لدى الكثيرين لا يريد ان يقرأ هذه المؤشرت والوقائع  ويستصحب معه طمانينه يعبر عنها شعب السودان بطريقته الخاصة " ان السودان كبير ولن يحصل له شئ ".

على الناحية الاخرى تبرز اسئلة اخرى كثيرة عن قدرة الكيان الجنوبى الجديد على التماسك والاستمرار، فضلا عن قدرته على حفظ الامن والحد الادنى من الاستقرار اللازم لتوفير مقومات الحياة، وعن توافر الخبرات والقدرات الادارية الضرورية لبناء وقيادة دولة جديده تتسم بالانعدام الشامل للبنية التحتية واعباء ما بعد الحرب من استيعاب المقاتلين والتحول الى الحياة المدنية. فالجنوب كما هو معروف يتكون من فسيفساء واسع من القبائل التى تمتلك كل منها لغتها وثقافتها ومعتقداتها الخاصة، ومعظم هذه القبائل بينها تاريخ طويل من الصدام والصراع وعلاقات يسيطر عليها تاريخ طويل من المخاوف.. والولاء الاخير للانسان فيها هو للقبيلة حيث لم تنشأ بعد فكرة الانتماء الاوسع الى وطن. كما ان المشاركة من قبائل عدة فى خوض الحرب ضمن الحركة الشعبية كان محدده الاساسى هو وجود ما كان ينظر له باعتباره عدوا مشتركا هو الشمال ، اما بعد اختفاء هذا العدو او ازاحته فمن المتوقع ان تعلو سمة التناقضات الداخلية على ما عداها، وهذا ما تشير اليه الاشتباكات الدموية خلال عام 2009 والتى نجم عنها حوالى 3000 قتيل واكثر من 270 الف نازح حسب تقارير بعثة الامم المتحدة فى الجنوب، ثم التمرد الحالى بسبب نتائج الانتخابات والذى لم يتم احتوائه بعد .. هذا العنصر نفسة هو احد مسببات القلق، فعدم القدرة على التماسك او توفير الامن فى الداخل قد تغرى قادة الدولة الجديدة بتطوير الخلافات مع الشمال الى شكل من اشكال الحرب او الصراع  لاستعاده الادوار الخاصة بالعدو الخارجى لشغل الداخل ودعوته الى تاجيل خلافاته وتناقضاته الى ما بعد المواجهة مع العدو الحقيقى او المتوهم . ومن ثم يكون السؤال المطروح هل هناك مصلحة حقيقية لعامة الشعب الجنوبى فى الانفصال! ام انها دوافع ورغبات ومصالح النخب ؟

 

حول هذه القضايا المتصلة بحق تقرير المصير عقد مركز السودان للبحوث والدراسات الاستراتيجية، ندوة حاشدة فى الخرطوم فى منتصف هذا الشهر تحت عنوان " تقرير المصير الحق والواجب " ، نوقشت فيها مجموعة من الاوراق بالغة الاهمية، والتى تناولت الجوانب المختلفة لحق تقرير المصير وتداعياته المرتقبة، وتجدر الاشارة هنا الى ان كل من هذه الاوراق  يحتاج الى عرض ومناقشة خاصه لا يتسع له هذا الحيز،على أمل ان نعود اليها فى فرصة اخرى ، ولذا سنكتفى بالاشارة الى عناوينها التى جاءت على النحو التالى :

 حق تقرير المصير ومالات الاستفتاء - د.خالد حسين محمد ، قضية الهوية في جنوب السودان حالتي الوحدة والانفصال - بروفسور: حسن مكي، اثر الانفصال علي مياه النيل - د.اكرام محمد صالحى، مآلات انفصال جنوب السودان علي المناطق الثلاثة - د.حسين كرشوم ، اثر انفصال الجنوب علي علاقات السودان الخارجية - د.صفوت فانوس ، الآثار السياسية المترتبة علي انفصال جنوب السودان - د.ادم محمد احمد ، الانفصال والمخاطر علي الامن الوطني السوداني - الفريق الفاتح الجيلي ، تقرير المصير وتقاطع الاستراتيجيات – الفريق السر محمد احمد .

 

الندوة التى نظمها وأشرف عليها الدكتور خالد حسين والطاقم المعاون له، تم الترتيب لها بعنايه بحيث تم اختيار المشاركين كل فى مجاله وشارك فيها عدد من ابرز اساتذه الجامعات السودانية ومن الباحثين والمتخصصين، وان غابت عنها المشاركة الجنوبية على مستوى الاوراق المكتوبة وان كانت لم تغب عن صفوف الحاضرين الذين شارك العديد منهم بتعليقات هامة، وقد برر الدكتور خالد حسين النقص فى هذا الجانب ، بانه كانت هناك اوراق من مثقفين جنوبيين الا انهم اعتذروا قبيل موعد الندوة لاسباب متعددة .  

 

شهدت قاعة الصداقة حيث جرت وقائع الندوة حضورا ومشاركة كثيفين وتغطية اعلامية واسعة من مختلف الوسائط المرئية والمسموعة والمكتوبة، بسبب أهمية الموضوع الذى تناقشة وهذا العدد الكبير من المتخصصين من مختلف الاتجاهات،  ومشاركة وزير الخارجية الجديد على كرتى فى الجلسة الافتتاحية فى اول ظهور له بعد ان ورد اسمه فى التشكيل الوزراى وقبل ان يؤدى القسم الذى كان محددا له اليوم التالى للندوة .

 

حديث "كرتى"  كان يسعى فى مجملة إلى وضع قضية حق تقرير المصير فى إطارها الواقعى ، حيث تناول بالنقد الحملة الاعلامية واسعة النطاق التى تسعى للتعبئة من اجل الحفاظ على الوحدة، وقال انه فات الوقت على انتظار معجزات من اجل الوحدة وان هذه التعبئة قد تكون ضارة لانها تخاطب مواطنى الشمال الذين لن يشاركوا فى التصويت، كما أنها سوف تخلق توقعات متزايدة قد يصعب تلبيتها، مما قد  يخلق احباطا واثرا عكسيا، وانه يجب توجيه هذه الحملة الى الجنوب الذى سوف يصوت فى الاستفتاء .

 

كرتى تناول أيضا الاطارين الدولى والاقليمى وقال ان الموقف الامريكى حائر بسبب موقف جماعات الضغط المنحازة الاقرب الى دعم مواقف الحركة الشعبية، فى حين أن الموقفين البريطانى والفرنسى يمكن الوصول معهما الى تفاهمات، وفيما يتعلق بدول الجوار الافريقى أشار الى الدور الاوغندى وقال انه يسعى الى دعم التوجه الى الانفصال بالنظر لما يعتقد ه الاوغنديون انه مصالح لهم . وحين تطرق الحديث الى الدور المصرى اشار كرتى الى ضعف معلومات مصر عن تعقيدات الاوضاع فى السودان، وان الدور المصرى ضعيف مقارنه بما يحدث فى العمق الاستراتيجى لمصر. كان من الواضح بالنسبة لى – حيث كنت مشاركا فى الجلسة الافتتاحية بجوار الوزير -  ان الرجل كان يقصد النخبة المصرية حين تحدث عن عدم الالمام بتعقيدات الاوضاع السودانية، حيث ان الدولة المصرية لديها بالتاكيد  معلوماتها وملفاتها المتكاملة فى هذا الاطار، ومن غير المنطق تصور غير ذلك، لاسيما ان المام النخبة المصرية بما يجرى فى السودان ضعيف بالفعل ولهذا اسباب كثيرة. اما الحديث عن الدور المصرى الضعيف فان القراءة الطبيعية له هى ان المطلوب دور اكبر من ذلك .

 وسائل الاعلام لم تاخذ من حديث كرتى سوى عباراته عن الدور المصرى التى اخرجت من سياقها واستخدمت كعناوين رئيسية  فى العديد من الصحف، الامر الذى استدعى رد فعل مصريا يطلب ايضاحات رسمية لتصريحات الوزير ، وبدا ان هناك توترا فى الاجواء بين البلدين سرعان ما تم تجاوزه ، بعد توضيحات شافية من المتحدث الرسمى باسم الخارجية السودانية ، غير ان هذه الحادثة اوضحت بلا شك ان هناك جوانب كثيرة فى العلاقات المصرية السودانية تحتاج الى حوارات مطولة ومعمقة بين الجانين ، وان هذه الحوارات يجب ان تتم بالاساس مع النخبة السودانية بمعناها الواسع او العريض وبما يشمل اساتذة الجامعات ورجال الاعلام وكتاب الراى  وقطاعات الاقتصاد والثقافة والعمل المجتمعى .

 

لقد لمست الحاجة العميقة والعاجلة لايجاد اطار جديد يستطيع ان يلبى هذا الاحتياج، وذلك عبر مجموعة من الحوارات واللقاءات التى دارت فى مؤسسات عدة  وبالغة الاهمية والتاثير والتى لقيت فى العديد منها صورا مغلوطة او مبتورة عن مصر ورؤاها وسياستها تجاه السودان ، وهذا وان كان يتم حتى الان فى اطار من العلاقة التاريخية التى ما زالت تحفظ العديد من الروابط، الا ان استمرارها على هذه الشاكلة سوف يحمل اخطارا اكيدة على المستقبل .

 

الاهرام الاقتصادى / الاحداث السودانية

 

 

آراء