انا مع الذين يروجون لنظرية أن بث المراسلات الأمريكية السرية مع كل دول العالم في هذا التوقيت هي عملية منظمة ومقصودة ، ففي العادة هناك تقليد في كل من بريطانيا وأمريكا وهو أن الوثائق السرية تحال للنشر العام بعد ثلاثين عاماً من تاريخ حدوثها ، وللتأكيد على ذلك لا ننسى الضجة التي أحدثها الدكتور عبد الله علي إبراهيم قبل عدة أعوام ، فلقد ذهب لمكتبة الكونغرس ودفع 10 دولارات فقط من أجل نسخ وثيقة سرية وهامة أشارت للمتعاملين مع الولايات المتحدة في فترة الستينات ، وبما أن تصفية الحسابات هي من إختصاص النخب السودانية ، فقد تجاهل الدكتور عبد الله إبراهيم السياق التاريخي لتلك الوثيقة ، حيث أنها جاءت في حقبة الحرب الباردة ، ففي تلك الفترة حتى الأخوان المسلمون تم تصنيفهم بأنهم رافد في المشروع الأمريكي ، وقد ركز الدكتور عبد الله علي إبراهيم على خلافه الشخصي مع الدكتور منصور خالد ، هذا الهدف جعله يتطاول على الأمانة العلمية وينحرف عن الموضوعية ليصبح الأمر مثل المهاترة والسباب . فهذه الوثائق هي تمثل فقط نظرة الولايات المتحدة وليس بالضرورة أن تكون صحيحة .
والآن بعد عامين أخرجت الولايات المتحدة غسيلها القذر امام كل العالم ، والشخص الوحيد الذي يجب أن تغمره السعادة هو الرئيس المصري حسني مبارك ، فهو نصح الأمريكان بعدم غزو العراق وبعد أن غزوه نصحهم بعدم الخروج منه ، ففي كلتا الحالتين كان الرد الأمريكي هو النفي ، اما الحرج الذي وقع فيه هو الوثيقة التي كتبها مدير مخابراته عمر سليمان للإدارة الأمريكية والتي ربط فيها إستفتاء الجنوب بحصة مصر من مياه النيل ، اي أنه عامل السودان كأنه بحيرة تدر مائها لمصر من دون أن ينظر لتكلفة الدماء السودانية لو نشبت الحرب من جديد ، فمصر كانت تضع نفسها كحكم مقبول بين الحركة الشعبية وحزب المؤتمر الوطني ، لكن ما جاء في تلك الوثيقة يثبت أن مصر هي مع مصالحها وليست مع أحد في هذا النزاع ، فهي مع دولة قوية في الجنوب تلعب دور حارس الصهريج المائي الذي يغذي مصر بالمياه ، ولذلك أقترحت صيغة الكونفدرالية والتي رفضتها كل من الولايات المتحدة والحركة الشعبية .
لكن المريب في الأمر أن الوثائق المسربة لم تتناول حزب المؤتمر الوطني على وجه الخصوص ، صحيح أنها ذهبت شمالاً وفضحت التدخل المصري من أجل تحريف إتفاقية نيفاشا وإعادة صياغتها بما يوافق الرؤية المصرية ، لكن لماذا حُجبت مراسلات حكومة الإنقاذ مع الولايات المتحدة ؟؟ وكلنا نعلم حجم الإهتمام الأمريكي بالسودان ، إهتمام مثله كل من جون ونتر وروبرت زوليك ودانفورث وسكوت غريشن وكارتر وجون كيري ، هذه الشخصيات تمثل الإدارة الأمريكية بشقيها الديمقراطي والجمهوري ، الحمائم والصقور ، فأين ذهبت مراسلات كل هؤلاء المسوؤلين ؟؟ فهل يا ترى كانت مراسلاتهم غير مطبوعة وغير محفوظة في الخادمات ؟؟ عدم نشر وثائق السودان بالشكل الكافي يثبت أن عملية التسريب ممنهجة ومنظمة ، وربما لم يحن وقت كشف أسرار حكومة الإنقاذ لأن الملف لا زال ساخناً ، ولا زالت الولايات المتحدة تطمع في تطوير علاقاتها مع حكومة الإنقاذ لكن عن طريق الزواج العرفي ، فقد أعترفت المخابرات الأمريكية بأن السودان يتجسس على دول القرن الأفريقي ويزودها بالمعلومات في حربها على الإرهاب ، لكن الخطورة تكمن في أكبر من ذلك ، ماذا لو كان السودان يتجسس على بعض الدول العربية مثل مصر والسعودية ودول الخليج ؟؟ فهذا نظام معزول ومرعوب ومن الممكن أن يضعه يده في يد الشيطان من أجل الإستمرار في الحكم ؟؟ وماذا سيحدث لو كانت الضربة الإسرائيلية التي وقعت في شرق السودان تمت بتنسيق بين السودان و الولايات المتحدة ؟؟ ، فقد ثبت الآن في وثائق ويكيلكس أن الولايات المتحدة تجوب الأجواء اليمنية وتصطاد أعضاء تنظيم القاعدة ، ففي العلن ينكر الرئيس علي عبد الله صالح ذلك لكنه في الوثائق يطلب من أمريكا توسيع ضرباتها على الكل ، فهناك اسرار كثيرة عن السودان حافظت عليها الإدارة الأمريكية ولم تنشرها للعلن .
نعود لثالثة الأثافي ، الرائد الصوارمي خالد الناطق بإسم القوات المسلحة ، وحاج ماجد سوار وزير الشباب والرياضة ، ومعاوية عثمان خالد مضوي الناطق الرسمي بإسم الخارجية السودانية ، هؤلاء مثل الغول والعنقاء والخل الوفي فلن تجد لهم مثيلاً في الساحة السودانية ، فالصوارمي خالد يجعلك تحس بأنه ناطق رسمي ضد حركة العدل والمساواة فقط ، ولو أحصينا عدد إنتصاراته على حركة العدل والمساواة – وهي بمعدل 5 إنتصارات في الشهر – لأيقنا بأن هذه الحركة قد إنقرضت ولم يعد لها وجود في الميدان ، أما حاج سوار فهو مغبوط لأن قطر وقع عليها الإختيار لإستضافة كأس العالم في 2022 ، وهو يضع كل إمكانيات السودان تحت تصرف القطريين ، وسؤالي هو لماذا لم نقوم بهذا الكرم الحاتمي مع جنوب أفريقيا ؟؟ وكلنا نعلم الدور الذي يلعبه رئيسها السابق ثامبو أمبيكي من أجل طرد شبح المحكمة الجنائية عن شخص الرئيس البشير ، وهو دور عجزت حتى قطر عن تقديمه ، فثامبو أمبيكي اصبح الآن من زمرة المستشارين للرئيس البشير ، وهو الوحيد القادر على تسويقه في أفريقيا ، بل هو الشخص الوحيد الذي صوّر له إمكانية حضور القمة الأفريقية الأوربية التي أنعقدت في طرابلس ، صحيح أن الضغط الأوربي حال دون ذلك إلا أن البلوغ للهدف كان ممكناً ، أما معاوية عثمان خالد مضوي فهو ناطق يجعلك تموت من الضحك ، وأعتقد أن يمارس عمله تحت جناح نظرية : أن العفش داخل البص على مسؤولية صاحبه ، فهو يريد أن يخلى طرفه من تهمة أنه لم يخرج وجهة النظر السودانية في وقتها ، لذلك آسف كثيراً لما حدث بين الكوريتين وطالبهما بالتهدئة وتحكيم صوت العقل ، وقد كان متوازناً ولم ينحاز لأي من الكوريتين ، وهو ليس مثل الرئيس البشير الذي إنحاز للمسيرية في أبيي ووقف ضد دينكا نقوك ، فالرئيس البشير من الأشخاص الذين لا يطيقون الإنتظار في إشارة ملتقى الطرق ، لذلك كانت حروبه تمثل التضاد الثقافي والإجتماعي ، فهي إن لم تكن بين الكفار والمسلمين فهي بين العرب والأفارقة ، فربما يكون هذا الدبلوماسي الصغير- معاوية عثمان خالد- متخصص في الشئون الدولية ، لذلك هو غير ملم بالحرب التي تشعلها تصريحات الرائد الصوارمي خالد في الداخل ، فما يحدث بين الكوريتين هو اقل بكثير مما يحدث في شمال وجنوب وغرب السودان.
sara issa [sara_issa_1@yahoo.com]