السودان: موقف جيلين من الرموز الوطنية التاريخية !

 


 

يحي العوض
5 July, 2011

 



وقف الشيخ بقامته السامقة  ملتحفا  ثوبه الابيض , ممسكا  بمسبحته  فى يمناه , بينما  انغرست  عصاه   فى سجاد  الصالون  الرئاسى الفخيم  , وهرعت اليه السيدة الفاضلة بثينة خليل , حافية وسابلة  ثوبها على راسها , وقبلت يده  وطلبت منه التفضل بالجلوس , لكنه اعتزر بصوته الخافت والهادىء  النبرات .. قال لها انه ينتظره . واخبرته  ان الرئيس فى الطريق وقد تأخر لاجتماع طارىء فى القصر , وقبل اكمال حديثها  , دخل الرئيس , مهللا ومرحبا  بضيفه , ودعاه  للجلوس , وفاجأه الضيف فى نبرات حاسمه : لن اجلس , اريد سؤالك يانميرى, هل ضاقت بكم الخرطوم بكل مساحاتها  الشاسعة ولم تجدوا غير ضريح  ابوجنزير, لتقرروا ازالته لبناء عمارة ؟ هل تعبرون بهذا الاسلوب عن  احترامكم  للآباء ورموز بلادكم ؟ وتلعثم الرئيس, وصاح بأعلى صوته : يا أبيض , يا أبيض  احضر التلفون , كان ابيض الشاب الجنوبى من القلة العاملة داخل منزل الرئيس وقد رافقه منذ ان كان ضابطا  بالقوات المسلحة , ودلف مسرعا يحمل جهاز الهاتف وابتسامة وضيئة تملأ وجهه , كان قريبا وقد سمع طرفا من الحديث ولم يستطع اخفاء  دهشته  من المشهد الغريب داخل الصالون , لاول مرة يسمع من يخاطب الرئيس بهذه اللهجة ولا ينفعل كعاداته !.. وواصل الرئيس نميرى , مسترضيا الشيخ دفع الله الصائم . : ياشيخنا هل رفضت لك  طلبا من قبل ؟.. وامسك بسماعة الهاتف وخاطب الطرف الآخر بصوت غاضب : يا مهدى (مهدى مصطفى محافظ الخرطوم آنذاك ) دائما تتسبب فى المشاكل , نحن ناقصين !, اوقف فورا اى اجراءات تتعلق بضريح ابو جنزير  ومن الصباح اشرعوا فورا فى تجديده , والعصر سيزوره الشيخ دفع الله الصايم وتلاميذه وكن مع معاونيك فى استقبالهم . واغلق سماعة  الهاتف ! وتقدم الشيخ  وعانقه ودعا له وسارع خارجا بصحبة تلميذه وسائق سيارته عصام الشيخ محمد زين , الذى روى لنا تفاصيل المواجهة ونشرناها  فى مجلة" القوم" ثم فى كتاب بعنوان :" موسوعة العركيين .. كان امة من الناس : الشيخ دفع الله الصائم.."
واتحسر على جيل الابناء والاحفاد , وهم يشاهدون فى  وضح  النهار , ازالة ضريح ابوجنزير كما نشرت صحيفة" الاهرام اليوم "بتاريخ 14 ابريل 2011 م . تقول الصحيفة ان اسرة الشيخ ابوجنزير هددت بمقاضاة وزارة الشؤون الهندسية والتخطيط العمرانى , على خلفية هدم ضريح ابو جنزير بوسط الخرطوم , وقال الشيخ عبد الباسط  نور الدائم , خليفة  الشيخ  ابو جنزير , بان وزارة الشؤون الهندسية , بازالتها للضريح , قد محت جزءا من التاريخ السودانى , وان كل الحكومات السابقة , اهتمت بالضريح , ماعدا حكومة الانقاذ التى قامت بازالته. ومن متابعتنا لاجهزة الاعلام السودانية , كانت هناك مقالات محدودة تستنكر , ازالة الضريح , ولم نقرأ رأيا لمجلس "الذكر والذاكرين ", ولا فضائية " ساهور"  عن  هذه  السابقة التاريخية والمهينة  لتراثنا  ولرمز من رموزنا  الدينية و الوطنية , فمن هو الشيخ ابوجنزير .. ؟
اجتهدنا فى مجلة القوم (1984-1989م) للاجابة على هذا السؤال , بعد تعدد الروايات حول شخصية الشيخ ابوجنزير . واسعدنا ان البروفسير عون الشريف قاسم اعتمد   دراسة " القوم "  واعاد  نشرها   فى  مجلدات 
" موسوعة القبائل والانساب فى السودان " . كلفت "القوم" الشيخ خليل ابو النور ,من احفاد الشيخ ابوجنزير, والاستاذ بخيت محمد زكى , لتحقيق وتوثيق الروايات  الثلاث المتداولة عن  شخصية  الشيخ  ابو جنزير .
يقول الشيخ خليل ابو النور ,ان الشيخ ابو جنزير هو  الشيخ خليل بن الشيخ مجلى وقد قدم  الى السودان عام 1875م من مصر , ونزل فى بلدة ارقو فى شمال البلاد  ضيفا على الشيخ عكاشة الذى اكرمه  واقام عنده مدة طويلة يعلم القرآن والفقه , وتوطدت العلاقة بينهما فزوجه شقيقته الكبرى السيدة سكينة  , ورزق منها بنتان ,هما هاجر والتى دفنت بالقرب من والدها  , والثانية خديجة وقد تزوجت الشريف ابو النور عثمان السيد غازى والمقيم بمصر , وتسمى احدى محطات السكة حديد باسمه "محطة سيدى غازى " , وتعود اصول هذا الشريف الى المغرب, وهاجر الى مصر عام 356 هجرية مع ابن  خالته  الشيخ  الشهير  احمد البدوى , ومقامه  فى طنطا . وفى عام 1883 غادر الشيخ  خليل ابو جنزير ارقو وبصحبنه ابنته هاجر الى بلدة قنتى بالشمالية ثم الى تنقاسى حيث التقى بالشيخ مصطفى , جد  السيد الأنور بن السيد ميرغنى الادريسى . ثم واصل سياحته  الى  الخرطوم , واقام خلوته  فى مكان الضريح   حتى اندلاع الثورة المهدية وفتح الخرطوم  .ووقع  خلاف بينه  والخليفة عبد الله التعايشى   , وكان يستعد الى الحج  ومنعه الخليفة والذى أفتى بان الجهاد افضل  من الحج  ثم اعتقله لاحقا  . وكانت ابنته هاجر تقوم برعايته حتى وفاته  فى سجنه  ودفن فى مكان الضريح  ولحقت به ابنته ودفنت بالقرب منه.
والرواية الثانية حققها الأستاذ بخيت محمد زكى  ويقول  انه  ومنذ الخمسينيات ادعى الكثيرون صلتهم بالشيخ ابو جنزير , وطالبت عدة قبائل  وافراد بالاراضى التى حول ضريحه بزعم انهم ورثته . واوضح ان الشيخ ابراهيم عمر , حفيد الشيخ  ابراهيم المشهور بقرة العينيين  , كتب فى جريدة" الرأى العام " مبينا شجرة عائلة ابوجنزير , كما يلى :  الشيخ ابراهيم بن محمد بن عوض الكريم بن حمد بن محمد بن امام  وينتهى نسبه الى الشيخ عبادة بن ابى بن كعب الصحابى الانصارى الخزرجى. ويوضح ان الشيخ امام بن محمد الوارد فى هذا النسب هو ابو جنزير وترجع التسمية الى السياج الذى اقيم حول قبره , والذى شيده مدير مديرية الخرطوم آنذاك , البريطانى الجنسية . وتضيف الدراسة ان ابوجنزير لقب
باسم " خصيم المدير " بعد اول محاولة لنقل ضريحه  , وكان ذلك  فى مطلع الاربعينيات   , وقرر مدير المديرية  ترحيل المقبرة , واتصل بالسيد اسحق جد الشيخ ابراهيم عمر ويسكن فى الحوش الذى يحمل اسمه فى ابو روف . وابلغ الشيخ اسحق المدير  انه ليس وحده صاحب القرار فى هذا الشأن  ولابد من مشاورة مشائخ الطرق الصوفية  , فرفض المدير  واصر على نقل الضريح وبالفعل احضرت المعدات اللازمة لذلك , لكن المدير تلقى امرا من الحاكم العام بايقاف التنفيذ , احتراما  لمشاعر السودانيين , ومن ثم تم تجديد المقبرة  , واقيمت اعمدة  حولها مرتبطة بسياج من الجنازير .ويضيف الاستاذ بخيت محمد زكى , وهو من رجال التعليم وينتمى للطريقة البرهانية  و اشرف على تربية شقيقه الاصغر اللاعب الدولى  , كابتن السودان,  امين زكى,ان الشيخ امام "ابو جنزير" , مدفون فى مكان الخلوة التى كان يتعبد فيها  , وان مدرسة الخرطوم شرق "سابقا" والتى تقع شمال الميدان, كانت مكان بيته  , وقد ملكه حكام سنار اراضى شاسعة من ضمنها مكان حديقة الحيوان (ازيلت ايضا)  , لكن الشيخ ابو جنزير مزق سندات الملكية حتى لا تتسبب فى منازعات بين اولاده واحفاده !
ونواصل ... الرواية الثالثة ..
yahyaalawad@hotmail.com

 

آراء