السودان: نظرة في تعثر بناء الدولة (6)

 


 

د. النور حمد
8 September, 2017

 

 

العمل المنظم لإضعاف الحراك المطلبي:

يمكن أن نستنتج مما تقدم، أن وقوع العمل المطلبي السوداني وسط دائرة الأدوات التكتيكية التي يستخدمها الحزب الشيوعي السوداني لمصلحته الحزبية، قد جعله هدفًا للتصفية التدريجية. فالسودان بلدٌ يغلب على شعبه التدين، وتغلب عليه عمومًا المحافظة، بل يمكن القول إن بالإمكان سوق جماهير البسطاء في الريف وفي المدن بالخطاب الديني، إلى الحد الذي يقفون فيه ضد مصالحهم. ويصح القول أيضًا، إن من قاموا بالانقلابات العسكرية، ومن حكموا تحت ظل الديمقراطية في فتراتها الثلاث، قد ظلوا، رغم عدائهم لبعضهم، يجتمعون في الريبة تجاه العمل المطلبي، إذ يشتمون فيه رائحة تكتيكات الشيوعيين، المهددة لوجودهم على المدى الطويل. ولذلك، ما أن اختلف نميري مع الشيوعيين في عام 1971، وقد كانوا الداعمين الرئيسيين لنظام حكمه في عاميه الأولين، ولهم أربعة أو ستة وزراء في وزارته، اتجه أول ما اتجه، عقب أقصائهم، إلى حل اتحادات وتنظيمات النساء والطلاب والشباب التابعة لهم 51. وبناء على كل ما تقدم، يمكن القول إن مراحل الحراك السياسي الذي انتظم حقبة ما بعد الاستقلال، كانت تشهد تآكلا مزدوجًا على الجانبين؛ فقد تآكلت مصداقية الحكومات المختلفة، وفي نفس الوقت تآكل العمل المطلبي. فلكلما اشتد الضغط المطلبي على الحكومات، وازداد كشفها وتعريتها أمام الرأي العام، كلما نشطت الحكومات، من جانبها، في أساليب تكسير العمل المطلبي واضعافه. وفي العموم، كانت المحصلة النهائية تراجعًا مضطردًا في قوة العمل النقابي وفي استقلاليته، وفعاليته، وفي عدم استقرار الحكومات، أيضًا.
بلغ العمل النقابي المطلبي والعمل الطوعي الشعبي، وسائر صور الحراك الأهلي لمنظمات المجتمع المدني، أدنى مستويات الاستقلالية والفاعلية في فترة حكم الإسلاميين الراهنة. فقد استفاد الإسلاميون من دروس الماضي المضطرب وأعدوا قبل وصولهم إلى السلطة خطةً محكمة للقضاء على العناصر المناوئة لهم وسط الاتحادات المهنية والنقابات. استهدف الاسلاميون تلك العناصر بالفصل من الخدمة أول ما وصلوا إلى السلطة، وبالاعتقال من غير تهمة، وبالإخفاء القسري، وبالتعذيب، وبالمتابعات الأمنية. وفي المقابل عملوا على تقوية العناصر الموالية لهم داخل الاتحادات المهنية والنقابات، وجعلوهم امتدادا للسلطة الحاكمة. وعمومًا، ظلت الأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان تتعلم من تجارب بعضها في اضعاف الحراك النقابي المطلبي. كما ظلت تتعلم من التجارب العالمية، خاصة التجربة الأمريكية، ذات الخبرة العريضة في أساليب اضعاف العمل النقابي المطلبي وتبديد قوته وفاعليته 52. ولذلك تنوعت الأساليب وأصبحت أكثر فاعلية.
بالإضافة إلى أسلوب القمع بصوره المختلفة التي سبق ذكرها، اتجهت السلطات إلى تغيير قوانين العمل النقابي، وخلق قضاءٍ منحاز للسلطة. كما مارست أيضًا أسلوب تدجين واستتباع قيادات العمل المطلبي ودمجها في منظومة مصالح الطبقة الحاكمة، ليتحولوا من معارضين ومنافحين عن حقوق العاملين إلى نطاق ملطِّف buffer zone يقوم بين العاملين وبين السلطات. بل وحتى إلى مجهضين للعمل النقابي المطلبي، من داخل بنيات العمل النقابي المطلبي نفسها. ومن نماذج انمحاء الخطوط الفاصلة بين العمل التنفيذي والعمل النقابي المطلبي نموذج البروفيسور إبراهيم غندور العضو القيادي في حزب الاسلاميين الحاكم في السودان "المؤتمر الوطني". فقد تولى الرجل منصب المدير لجامعة الخرطوم، وظل في نفس الوقت، رئيسًا لاتحاد عمال السودان 53! ومؤخرًا تم في ديسمبر 2013 تعيين البروفيسور غندور في رئاسة الجمهورية، مساعدًا للرئيس عمر البشير. كما تم تعيينه أيضًا، مساعدًا له للشؤون الحزبية، في حزب المؤتمر الوطني الحاكم! وهكذا، بلغت أساليب محو الفواصل بين العمل المطلبي واضعافه وافراغه من محتواه، أن أصبح المسؤول النقابي مسؤولا حكوميًا، بل ومسؤولاً على مستوى رئاسة الجمهورية. فالمتعارف عليه، أن التطور الوظيفي في العمل النقابي والتطور الوظيفي في العمل الحكومي يسيران في خطين متوازيين ينبغي ألا يلتقيا اطلاقا، وإلا حدث ما يسمى بتضارب المصالح conflict of interest. فمنذ أن بدأ الحراك المطلبي في التاريخ، كان العمل النقابي عمل معارض يستخدم الحوار كما يستخدم الضغط لانتزاع حقوق العاملين من المخدمين. ولا يمكن للنقابي أن يكون نقابيًا ومخدِّمًا في نفس الوقت. كما لا يمكن أن يتم تصعيد النقابي من عمله في مجال العمل النقابي ليصبح مسؤولا حكوميًا، بل وفي قمة الجهاز الحكومي. فتعيين من كان نقابيًا في أجهزة الدولة يتضمن شبهة أنه كوفئ على خدمة سبق أن قدمها للحكومة عندما كان ناشطًا في العمل النقابي.
من الضروري أن نشير، من الناحية الأخرى، إلى أن العمل النقابي لم يكن على الدوام محايدًا أو منزهًا من الغرض السياسي الحزبي، أو حتى معقولاً في تحركاته، ومطالباته وإضراباته. فقد برهنت تحركاته في بعض المنعطفات في تاريخ حقبة ما بعد الاستقلال في السودان، أنه أصبح أداةً سياسية، بمعنى تحوله إلى أداة حزبية لإضعاف رصيد نظام الحكم القائم، أيًا كان ذلك النظام. فلقد جرى استخدام العمل النقابي كأداةٍ سياسية لإضعاف الحكومات الديمقراطية، وغير الديمقراطية، سواءً بسواء. فبعض التحركات النقابية هدفت إلى شل الحكومات وارباكها، وإضعاف أدائها، وعرقلة مشاريعها، حتى تلك التي يكون واضحًا جدًا أن مردودها يعود لمصلحة المواطن، كما جرى في المعارضة الشديدة التي تمت للمعونة الأمريكية للسودان عام 1958. فقد حرك الشيوعيون العمل النقابي، خاصة نقابة المحامين لتقف ضدها لأسباب أيديولوجية. يقول محمد سعيد القدال أن اتحاد نقابات العمال أضحى قوة مؤثرة في السياسة السودانية منذ ذلك الحين، وأصبح يدافع عن استقلال السودان ضد مؤامرات الاستعمار 54. لقد وقع الحراك المطلبي وسائر أنشطة المجتمع المدني في السودان، في منزلق الاستخدام السياسي الآني لإرباك الأنظمة واضعافها، من أجل إفشالها واسقاطها، لا بهدف مساعدتها ودفعها إلى الإصلاح. وكما يقول عزمي بشارة، فإن أهمية المجتمع المدني تنبع من كونه حراكًا يهدف إلى الدمقرطة، وليس مجرد أداةٍ قصاراها اسقاط النظام القائم 55.
مارس اليساريون والإسلاميون في السودان، سواء بسواء، في فترات الحكم العسكري، وفي فترات الحكم الديمقراطي استخدام العمل النقابي كوسيلةٍ للوصول إلى السلطة. وقد شمل هذا النوع من الاستخدام المسيس للعمل المطلبي، الحركة الطلابية أيضًا. وبتأمل تجربة الحكم في السودان لمرحلة ما بعد الاستقلال، يتضح أن الأنظمة العسكرية والمدنية على السواء، استهدفت العمل النقابي المطلبي، واستخدمت مختلف الأساليب للقضاء عليه. غير أن حظ الأنظمة العسكرية في هذا الاستهداف، أكبر بكثير من حظ الحكومات المدنية.
بدأ العمل النقابي المطلبي في السودان في تلقي الضربات القاصمة في فترة حكم جعفر نميري. فلقد ورث جعفر نميري المفاهيم الشيوعية للعمل النقابي. أنشأ جعفر نميري استنادًا على رؤية الشيوعيين ما سُمي وقتها بـ "تحالف قوى الشعب العاملة". محا هذا المصطلح المسافة الفاصلة بين السلطة الحاكمة وبين العمل النقابي. فالادعاء الذي انطوى عليه هذا المصطلح تأسس على أن السلطة القائمة إنما هي سلطة تحالف بين العاملين جميعًا، من عمال ومزارعين، ومثقفين وطنيين وقوات نظامية؛ أي أن هذه القوى هي التي تحكم حقيقةً. ولكن بعد أن اختلف نميري مع الشيوعيين طارد نقابييهم الشيوعيين واعتقل قادتهم وأضعف تأثيرهم على العمل النقابي. ومع ذلك، ظل شعار "تحالف قوى الشعب العاملة" قائمًا كما هو، بل تحول إلى حزب حاكم أسماه نميري اقتداءً بالتجربة الناصرية في مصر، "الاتحاد الاشتراكي السوداني". وأصبحت لا تكاد تُرى أي مسافةٍ فاصلةٍ بين ذلك الحزب الأوحد وبين العمل النقابي. ومع ذلك، ظلت هناك جيوب مؤثرة في العمل النقابي، غير خاضعة لسلطة الدولة، واستمرت الاضرابات تتوالى هنا وهناك ضد نظام نميري. بل كان للنقابات والاتحادات المهنية التي عجز النظام عن احتوائها وتدجينها بالكامل، الدور الأكبر في نجاح انتفاضة أبريل 1985 التي أسقطت نظام جعفر نميري.
أما الانقلاب الذي قام به الإسلاميون بقيادة الفريق عمر البشير، فقد وجه للعمل النقابي الضربة القاصمة الأخيرة. وقد تمت هذه الضربة نتيجةً لرؤية مبكرة كانت الإنقاذ قد بلورتها قبل مجيئها إلى السلطة، مستفيدة من كل التجارب السابقة. وقد صيغت تلك الرؤية في استراتيجية واضحة معادية للنظام الحزبي وللعمل النقابي المطلبي في عبارات شديدة الوضح. ففي عام 1991، خاطب، عبد الوهاب الأفندي، الملحق الإعلامي لسفارة السودان في لندن، الحضور في منتدى أوبسالا في السويد، قائلا:
إن النقابات وزعماء الطوائف وكبار التجار وزعماء العشائر صاروا أقوياء لدرجة كبيرة، في غياب وجود دولة فعالة. إن المنتصر في الصراع الطويل من أجل السيطرة (على الدولة) يجب أن يعرِّف هدفه بوضوح، وأن يسعى إليه في صرامةٍ وقسوة، وليس بأي وسيلة أخرى .... إن العائق الأساسي أمام إقامة دولة فعلية في السودان هو رفض الجنوب التعاون .... لقد أضعفت مقاومة الجنوبيين الدولة وحرمتها من شرعيتها 56.
واضح من هذا النص أن نظام الإنقاذ جاء بخطة ذات شقين؛ يتمثل الشق الأول في تحطيم العمل النقابي وضرب زعماء الطوائف ورجال العشائر وكبار التجار. أما الشق الثاني فهو القضاء بالقوة على مقاومة الجنوبيين. ولقد طبقت الانقاذ خريطة الطريق هذه بصورة حرفية، محاولةً تحقيق كل هذه الأهداف التي تم ذكرها. وبالفعل، تم افقار التجار، الذين كانوا سندًا للحزبين الطائفيين التقليديين، وتم استبدالهم بتجار جدد صنعهم نظام الإسلاميين وبنوكه الإسلامية التي سيطرت على مفاصل اقتصاد الدولة، منذ شراكة الإسلاميين الحكم مع جعفر نميري. كما تم إفقار زعماء الطوائف أنفسهم، وزعماء العشائر. وقد أضعف ذلك الإفقار تأثيرهم على أتباعهم، ما جعلهم بحاجة للجوء للنظام القائم، لإسنادهم ماليًا، نظير تقديم الولاء له. كما استهدفت السلطة العمل النقابي بطريقة شرسة، اشتملت على فصل قياديه من الخدمة، واعتقالهم دون توجيه تهم بعينها، وتعذيبهم، وملاحقتهم أمنيًا ما اضطر بعضهم مغادر البلاد، كما سلفت الإشارة. أما ما جرى انتهاجه بالنسبة للجنوب، فهو تحويل الحرب من نزاع عسكري ذي صبغةٍ مطلبيةٍ جهوية، لمواطنين يرون أن لهم خصوصيات ثقافية ينبغي مراعاتها، ليصبح حربًا جهادية دينية، أدت في النهاية إلى فقدان الجنوب إلى الأبد.
حين قامت ثورة أكتوبر 1964، كان أعضاء جبهة الهيئات، وهي جبهة تشكلت أيام الثورة من اتحادات المهنيين والعمال، يظنون أن الثورة لن تعود بالبلاد الى النظام الديمقراطي في صورته التي سبقت الانقلاب العسكري الذي نجحت الثورة في انهائه. كانت الشعارات المرفوعة أيام الثورة من شاكلة، "لا زعامة للقدامى"، و"لا حزبية بعد اليوم". وبما أنه لم تكن هناك آلية عملية لتحقيق تلك الشعارات المتجاهلة للمكونات التاريخية للواقع السوداني، ولمنطق العمل الديمقراطي وآلياته، فقد تم اجهاض ثورة أكتوبر واسقاط حكومتها الانتقالية بعد أربعة أشهر فقط. وعندما جرت الانتخابات في عام 1965، اكتسحتها الأحزاب التقليدية اكتساحًا حاسمًا. ولكن، نتيجةً لدور الشيوعيين البارز في ثورة أكتوبر، وارتفاع أسهمهم وسط القطاعات المستنيرة، فقد حصل الشيوعيون على 11 مقعدًا في تلك الانتخابات. وقد مثلت تلك النتيجة قفزةً كبيرةً مقارنة بما حصلوا عليه في انتخابات الديمقراطية الأولى (1956 -1958)، التي سبقت النظام العسكري الذي أزاحته ثورة أكتوبر، إذ لم يتجاوز عدد المقاعد التي حصلوا عليها آنذاك الثلاثة. أما جبهة الميثاق الإسلامي فقد حصلت في الانتخابات التي جرت في الديمقراطية الثانية (1965 -1969) على 5 مقاعد فقط. وكانت أقل بخمس مقاعد مما حصل عليه الشيوعيون. كان مجموع مقاعد البرلمان في انتخابات الديمقراطية الثانية، 173 مقعدًا، سيطر عليها الحزبان التقليديان "الأمة" و"الاتحادي"، إذ حصلا مجتمعين على ما مجموعه 130 مقعدًا 57. ولابد من التذكير هنا أن مقاعد الشيوعيين جاءت كلها من الدوائر المخصصة للخريجين، إذ لم يحصلوا على أي مقعد في الدوائر الانتخابية الجغرافية. ويدل هذا دلالةً واضحةً أن الأحزاب الطائفية هي التي بقيت تسيطر، بصورةٍ حاسمة، على الجمهور العريض في الريف والمدن. هذا الوضع تغير بصورة دراماتيكية في انتخابات الديمقراطية الثالثة (1986-1989)، فقد حصل فيها الاسلاميون على 51 مقعدًا. وقد اقتربوا بذلك مما حصل عليه الحزب الاتحادي الديمقراطي في تلك الانتخابات، الحزب الثاني من حيث القاعدة الشعبية في البلاد، بعد حزب الأمة. هذا في حين تراجع حظ الشيوعيين تراجعًا ملحوظً، فحصلوا على ثلاثة مقاعد فقط؛ مقعدين من دائرتين جغرافيتين في العاصمة الخرطوم، ومقعد آخر من دوائر الخريجين في إقليم بحر الغزال بجنوب السودان 58. ويبدو أن اشتراك الشيوعيين في نظام نميري والضربة القاصمة التي وجهها لهم نميري، أقعدتهم وأضعفت جماهيريتهم 59. في المقابل، مكنت مشاركة الترابي لنميري في الحكم، من انشاء قاعدة اقتصادية كبيرة لجماعته، وجعلت له قدراتٍ مالية وتنظيمية كبيرة، في حين أضعفت حقبة نميري (16 سنة) الحزبين الكبيرين اقتصادياً، وأبعدت القيادات عن جمهورها، ما أضعف التنظيم في الحزبين الكبيرين اللذين فشلا، عبر تاريخهما، في إقامة تنظيمات حزبية حديثة، بسبب اعتمادهما على البنية التاريخية للولاء الطائفي. تمدد الإسلاميون ونافسوا الحزبين الكبيرين التقليديين في قاعدتهما الجماهيرية. وقد مكنتهم الآلة الإعلامية الضخمة التي امتلكوها، بسبب تعاونهم مع نظام جعفر نميري، في وصولهم إلى الجمهور وفي اضعاف الحزبين الكبيرين، وهلهلة مصداقيتهما أمام الجماهير. وقد اتضح ذلك في القفزة الكبيرة التي حققها الإسلاميون في انتخابات الديمقراطية الثالثة، التي جرت في عام 1986، عقب سقوط نظام جعفر نميري. وهي ذات الديمقراطية التي قوضوها بعد ثلاث سنوات فقط، بانقلابهم العسكري في عام 1989. فلو صبر الاسلاميون على الديمقراطية الثالثة، خاصة أنهم حققوا فيها تقدما كبيرًا جدًا، وواصلوا عملهم الجماهيري، لربما كانوا قد وصلوا إلى السلطة عن طريق الديمقراطية، بعد دورة انتخابية واحدة، أو دورتين على الأكثر. لكنهم تعجلوا مختارين المغامرة والطريق الأقرب للإمساك بمقاليد الحكم، فخسروا تاريخهم، وخسروا أميز مكاسبهم، وتفتت جسد تنظيمهم. كتب خالد التجاني النور، من مثقفي الإسلاميين الناقدين لتجربة الانقلاب ما نصه:
تلك الفعلة، فضلاً عن أنها قطعت الطريق أمام فرص تطوير واستدامة نظام ديمقراطي وحكم راشد للسودان، بعد سنوات تيه الحكم العسكري في فترتي عبود ونميري، كما أنها وضعت البلاد في طريق مجهول، فقد كانت تلك هي الضربة القاضية لـ "الحركة الإسلامية" التي ارتضت بوعي، أو بغير ذلك، "عسكرة" مشروعها الفكري والسياسي، حين تورطت في استخدام القوة للوثوب إلى السلطة بليل. لقد كانت تلك لحظة فارقة أحدثت تحولاً استراتيجيًا في مسار الحركة ومستقبلها. لقد تغيرت قواعد اللعبة كليًا، لم يعد الثابت هو الفكرة أو المشروع الإسلامي، بل أصبح المنتوج الجديد "لعبة السلطة" هو الثابت الوحيد 60.
ولأن المشروع تحول إلى "لعبة سلطة"، كما اشار التجاني، فقد تم في عام 1999 إقصاء الترابي، الزعيم التاريخي للتنظيم، ومعه مجموعته التي اختارت البقاء إلى جانبه. وفي نهايات عام 2013، تم فصل غازي صلاح الدين، من حزب المؤتمر الوطني الحاكم، بعد أن شكل تيارًا تضامنت فيه معه مجموعة أسمت نفسها بـ "الإصلاحيين، بدأت تنتقد الحزب الحاكم وسياساته وتقدم تصورًا مختلفًا. وفي بدايات عام 2014 تم ابعاد علي عثمان محمد طه، النائب الأول للرئيس البشير، ونافع علي نافع، وعوض أحمد الجاز. ولقد كان ثلاثتهم من أقوى القياديين الإسلاميين في النظام. وبذلك، تكون "الحركة الإسلامية" قد غادرت، من الناحية العملية، نظام الإنقاذ، أو كادت، إذ أصبح وجودها فيه شكليٍا للغاية، وتبخرت شعاراتها. وأصبح النظام، إلى حد كبير جدًا، نظامًا يمسك بمفاصله الفريق عمر البشير ومعه حفنة من العسكريين، تساعدهم الأجهزة الأمنية. وهكذا يعيد الإسلاميون مع انقلاب عمر البشير تجربة الشيوعيين مع انقلاب جعفر نميري، مع فوارق ليست جوهرية.

..يتواصل..
.....................................................
51 عبد الله علي إبراهيم، مصدر سابق، ص43.
52 كتب ويد ستون، في موقع Global Research تحت عنوان: "تراجع الاتحادات المهنية في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا" ما نصه: "في كل من كندا والولايات المتحدة انخفضت عضوية الأفراد في الاتحادات المهنية للقطاع الخاص انخفاضا دراماتيكيا. تقول الاحصاءات إن عضوية الاتحادات المهنية في القطاع الخاص الكندي بلغت ذروتها في بداية الثمانينات من القرن الماضي فوصلت 33.4% من مجمل القوة العاملة. وتراجعت في عام 2009 إلى أقل من النصف، إذ أصبحت النسبة 16%. أما في الولايات المتحدة فقد كانت التراجع أسوأ، إذ وصل إلى 7% مقارنا بما كان عليه الحال في منتصف سبعينات القرن الماضي، حيث بلغ حينذاك 29% من مجمل القوة العاملة. ويقول ستون أن هناك أسباب متعددة لتراجع معدلات الانضمام للاتحادات المهنية في القطاع الخاص، منها؛ فقدان الوظائف الصناعية بسبب نقل الأعمال إلى الخارج في ما يسمى "off shoring"، والمنافسة العالمية، وخفض العمالة، وإحلال التكنولوجيا محل العمال، وتصدير العمل إلى الخارج "outsourcing". ويضيف ريد قائلا "إن السبب الرئيس في هذا التراجع يعود إلى بدايات السبعينات من القرن الماضي عندما بدأت المؤسسات هجوما واسعا منسقا ضد الاتحادات المهنية باستمالة المسؤولين الحكوميين من أجل إحداث تغييرات في قوانين العمل تيسر للشركات ليس أن تستخدم الاتحادات المهنية وحسب، وإنما تمنع العمال من التجمع في المقام الأول". راجع:
Wade Stone, The Decline of Trade-Unions in the US and Canada: Dispelling the Myths of the Anti-unionists, Global Research. (retrieved 27/1/2013).
http://www.globalresearch.ca/the-decline-of-trade-uni…/25161
53 أنظر السيرة الذاتية للبروفيسور غندور على الرابط: http://www.swtuf.org/global.php?linkid=47 إذ منها يتضح أنه شغل المنصبين في آن معا. (استرجاع في 1 مارس 2014).
54 في عام 1958 كان هناك عرض بمعونة أمريكية للسودان وقد أثارت مناقشة قبولها أو رفضها جدلا شديدًا. عارضها الحزب الوطني الاتحادي لأنه كان في المعارضة وليس في السلطة. كما لعب الحزب الشيوعي، بحكم موقفه الإيديولوجي، دورًا كبيرا في التعبئة ضدها. راجع:
محمد سعيد القدال، مصدر سابق، ص 96.
55 عزمي بشارة، المجتمع المدني ]الطبعة السادسة[، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، قطر، 2012، ص 12
56 محمد سليمان محمد، مصدر سابق، ص 119.
57 عطا البطحاني، مصدر سابق، ص 196.
58 أحمد إبراهيم أبو شوك والفاتح عبد الله عبد السلام، مصدر سابق، ص 232.
59 المصدر السابق، نفسه.
60 خالد التجاني النور، نصيبي من النصيحة، شركة هوادي المحدودة، الخرطوم، السودان، 2013، ص 223 - 224


نقلا عن صفحة د. النور حمد على الفيس بوك

 

elnourh@gmail.com

 

آراء