السودان ومسرح العبث السياسي

 


 

 

 

في ثلاثينيات القرن الماضي؛ بدأ ظهور الكتابات العبثية من مجموعة من الجيل الجديد الذين تمردوا علي الواقع، عندما كثرت الحروب و النزاعات في أوروبا، و كانت نتائجها سلبية علي المجتمعات جميعها، أدت إلي فقدان الثقة في الدولة و أحزابها و كل مكونات المجتمع، بل حتى في الأفراد فيما بينهم. و في خمسينيات القرن الماضي بدا المسرح العبثي من خلال مسرحية " في انتظار غودو" للكاتب الفرنسي من أصل إيرلندي " صمويل بكيت" و هي مسرحية لا تحتوي علي فكرة واضحة، و لا عقدة، و لا تكتب في نهايتها حلا، و لا تحتوي على ممثلين يعدو علي اصابع اليد الواحدة ، و يجري فيها حوارا متواصلا غير مترابط، كل يتحدث علي هواه، و بين فترة و أخرى يتحدثون أنهم " في انتظار غودو" و هي شخصية مبهمة لم يعرفها الكاتب، و قال عنها أنه لا يعرف " غودو" لكن ربما يظهر تعريفه من خلال حوار الممثلين، و الممثلون أنفسهم يتسألون عن عودة غودو الذي لا يعرفون من هو و متى سيحضر. حالة من العبث، توضح أن المجتمع في حالة من الإرباك و فقدان الثقة. كل يفقد الثقة في الأخر، و كل يشك في الأخر، و لا أحد يقدم شيئا موضوعيا يمكن الاستفادة منه. و مسرح العبث بدأ ينتشر بقوة في كل دول أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أن الحرب كان لها الأثر العميق في فقدان الثقة بين الدول و بين الأفراد الذين انكسرت أمالهم.

الآن السودان يعيش ذات المرحلة العبثية، و بكل صورها و أشكالها، لكنها تفتقد للكتابات المسرحية العبثية، لآن الكل فقد القدرة علي التفكير المنهجي، و الكل فقد الثقة في الأخر. ثورة ديسمبر المجيدة التي تمر ذكراها الثانية هذه الأيام، قد أحدثت خضة كبيرة وسط القوى السياسية، و إرتجاج في العقول السياسية السودانية المتحجرة، الأمر الذي فقدهم القدرة علي التمييز و مواكبة العصر، و فشل في صياغة مشروع سياسي اقتصادي يخرج البلاد من أزماتها. أن الحالة التي يعيشها السودان يجب أن تكون مرحلة انتقالية بين فترتين، فترة تحكم فيها الفشل بسبب جمود و أخفاق الأيديولوجية و يجب أن تكون هذه الفترة التي استمرت منذ الاستقلال حتى ثورة ديسمبر انتهت بالثورة، و تخلقت فترة جديدة تحتاج إلي أجيال جديدة تفكر بطريقة جديدة، تتمرد علي كل التراث السياسي السابق المعطوب و الذي تتحكمت فيه ثقافة نخبة الفشل.
أن حالة العبث التي يعيشها السودان حاليا، ليست حالة عابرة، بل هي نتاج لتراكمات كثيرة، أثرت فيها عوامل داخلية و خارجية. و قد ضربت كل التيارات السياسية المختلفة. الحركة الإسلامية السياسية التي حكمت السودان ثلاثين عاما عجاف من القهر و الظلم و انتهاكات حقوق الإنسان، و انعدام الحرية و الممارسة الديمقراطية، و هي الآن تواجه حرب شرسة في المنطقة تهدف إلي إقصائها من الحياة السياسة تماما، و بالتالي هي أمام تحدي حقيقي لوجودها، كما أن فشلها و ممارساتها تطاردها لذلك لابد من إحداث تغييرا جوهريا في بنائها الفكري. والأحزاب التقليدية فقد قدرتها علي العطاء بسبب انتشار رقعة التعليم و انتشار وسائل الاتصال التي حفزت الشباب علي التمرد من كل القيود التاريخية، و نادت بالتفريق بين الثقافة السياسية و ثقافة المشيخة الدينية لكي يكون لها فسحة كبيرة من الحرية لكي تستطيع إدارة شؤوها دون وصاية تتحكم في طريقة تفكيرها، و هي أحزاب لعبت دورا سياسيا تاريخيا في البلاد، و لكنها أيضا كانت سببا في عملية الفشل لأنها لم تجري الإصلاحات المطلوبة التي تجعل من الحزب مؤسسة ديمقراطية كاملة الدسم، و الظرف الآن يتطلب أن يغادر الجميع تجربة كارزمة التي أضعفت البناء المؤسسي للأحزاب التقليدية. أما الحزب الشيوعي أثرت عليه العديد من الضربات التي تلاقها من قبل النظم الشمولية، رغم أنه واحد من صناع هذه النظم انقلاب 1969م، ثم جاء سقوط حائط برلين و الاتحاد السوفيتي لكي يجعله الحزب عاري في الساحة دون تعاطف خارجي. حيث كان الاتحاد السوفيتي و كل منظومة الدول الشيوعية السابقة تمثل له ترياقا حيا من خلال تقديم ألاف المنح الدراسية في المعاهد و الجامعات، و هي كانت أداة قوية للإستقطاب وسط الشباب، كما فقد الدعم الخارجي . الأمر الذي أثر سلبا في دور الحزب، كما أن الحزب فشل في أداء النشاط في مجالات أخرى غير الآدوات السياسية التي كانت أيضا قبلة للشباب، و ذلك يعود للشللية و العقلية الاستالينية التي فقدت القدرة علي الإبداع و الإنتاج المعرفي، لذلك تجد الزميل تاج السر عثمان في كتاباته الراتبة كواحد من المساهمين المفكرين لم يقف عن الاستشهاد بكتب الماركسية الصفراء التي كتبت في القرن التاسع عشر، رغم هناك كتابات جديدة للماركسية و في نقد الماركسية من خلال ذات الفلسفة. الأمر الذي أدي إلي الإرباك في مواقف الحزب، هو لا يريد المشارك في هياكل السلطة ثم يعدل عن ذلك، هو يقف مع الحكومة و الحاضنة ضد العسكر، ثم يعدل عن ذلك و يتهم بعض مكونات الحاضنة بالتأمر مع لعسكر، هو يريد إسقاط سلطة الفترة الانتقالية بهدف الرجوع لأهداف الثورة. ثم يتهم الحكومة بالفشل و لكنه لا يريد اسقاطها، أليس هو مسرح العبث بعينه. ماذا تريد القيادة الاستالينية، الكل يريد ثورة ديمقراطية داخل هذا الحزب لكي يستطيع أن يلعب دوره في عملية التحول الديمقراطي بجدارة، هناك زملاء لهم من الخيال ما يجعلهم أكثر قدرة علي الإبداع و الإنتاج المعرفي من قيادات تاريخية نضب خيالها و لم يبقى لها سوى أن تجتر إرث الماضى و تكتيكاته الفاشلة، فالثورة داخل هذا الحزب سوف تعجل بعملية التغيير لأن الجيل الجديد قادر أن يفارق عملية الحنين للماضي، دون تغيير في القيادة لن يستطيع الشيوعيون أن يلعبوا في ادورا إيجابيا في عملية التحول الديمقراطي، فالديمقراطية يصنعها الديمقراطيون، و لا تصنع بأدوات الشمولية و الفكر الشمولي، سيظل الزملاء يصرخون دون هدى حتى تتم عملية التغيير الداخلي في الحزب و يصعد جيل جديد يجرى إصلاحات جوهرية أولها إلغاء سلطة الديمقراطية المركزية، و يصبح القرار بالتصويت الحر المباشر داخل كل مؤسسات الحزب.
إذا انتقلنا إلي البعثيين، تجدهم يرفعون شعارات الحرية و الديمقراطية، رغم أن تجربتهم السياسية في كل من العراق و سوريا أثبتت أنهم لا يمتلكون فكر الديمقراطية و لا ثقافتها، و هؤلاء نهلوا من هذه الثقافة الديكتاتورية و تربوا عليها، و يعشقونها حد الثمالة. و دلالة على أفتقادهم للثقافة الديمقراطية، أصبحوا عدة أحزاب بعثية و كل مجموعة تختلف مع القيادة لانعدام المواعين الديمقراطية تكون حزب بعثي جديد، هؤلاء فقدوا الدعم الخارجي المعنوي و المادي، و حتى فكرهم أصبح خارج دائرة التاريخ الإنساني، لذلك لم يبقى لهم سوى ما جاءت به ثورة ديسمبر من أمال للمحاصصة و توزيع للغنائم، هؤلاء لا يستطيعون إجراء أي مراجعات فكرية تجعلهم مفيدين للنظام الديمقراطي. و في جانب أخر إذا نظرنا إلي أتفاق جوبا؛ نجده جاء بقيادات كانت لحركات مسلحة، و هؤلاء قد فقدوا المجموعات المسلحة التي كانت تدين لهم بالولاء، و هي منذ فترة تأسيسها حتى مفاوضات جوبا لم تمارس الديمقراطية داخل مكوناتها، و دلالة علي ذلك الإنقسام الذي حدث في جوبا حيث أصبحت جبهتان ثوريتان، مما يؤكد أن الثقافة الديمقراطية معدومة تماما، و لا تجد احترام لها و هذه ليس أول مرة، المرة الأولي عندما رفض مالك عقار التنازل عن الرئاسة.
تتحكم في البلاد ألان المجموعة العسكرية، و يرجع ذلك ليس لأنهم يمتلكون القدرة علي الحركة و المناورة، لكن بسبب ضعف المكون المدني الذي يشهد حالة من الخلاف داخل مؤسسته التحالفية، و منظمات المجتمع المدني، و غياب الرؤية، و حكومة ضعيفة ليس لها رؤية لكيفية خروج البلاد من أزماتها الاقتصادية، و فشلت في دعم مؤسسات الانتاج و تقديم مشاريع زراعية و صناعات تحويلية تخفف عبء المعيشة علي المواطنيين. أن العسكر قد فشلوا في إدارة البلاد ثلاث مرات " عبود – نميري – البشير" و هي فترة استمرات أكثر من نصف قرن، و يحاولون الآن البقاء في السلطة من خلال رؤية و رغبة خارجية لا تريد للسودان أن يصبح دولة ديمقراطية. لذلك تجد العسكر يحاولون توسيع دائرة تحالفهم الهادف إلي بقائهم في السلطة و هو هدف مرفوض تماما من قبل الشارع.
و لم يتبقى غير لجان المقاومة؛ هناك شباب يمثلون الأغلبية و هم غير منتمين، و يريدون التغيير، و هناك أيضا بينهم المنتمين الذين يرددون شعارات قوى سياسية، لكن مهما كانت قدرت هؤلاء الشباب في تعبئة الشارع و حشد الملايين، لا يستطيعون أن يحدثوا تغييرا إلا إذا كانوا منظمين، و أهدافهم محددة و واضحة، بعيدا عن الميول الحزبية حيث بعض الأحزاب تحاول أختراقهم و تدس شعاراتها بينهم. مثالا لذلك: إذا كانوا يسعون للتغيير أمامهم فرصة المجلس التشريعي، أن يكون هدفهم أن تكون أغلبية مقاعد المجلس التشريعي للأجيال الجديدة التي صنعت الثورة، و توزع علي كل أقاليم السودان، و تكون لجان المقاومة مسؤولة عنها، و تقدم عناصر للمجلس التشريعي غير منتمية سياسيا، ثم بقية المقاعد تقسم علي ثلاثة 50 لقحت و 50 للجبهة الثورية و 50 للقوى التي شاركت في الثورة و لكنها لم توقع علي إعلان الحرية و التغيير. حتى يكون المجلس التشريعي ساحة للعمل السياسي المفيد، و معمل حقيقي لإنتاج الثقافة الديمقراطية، و يحمل رؤى جديدة بعيدا عن الإرث الثقافي السياسي الذي تحكمت فيه عوامل الفشل، و أيضا يتجاوز المجلس التشريعي إرث السياسة السابق الذي يفارق الحكمة، و التي كانت تتحكم فيه الخلافات الأيديولوجية السابقة.
أن العبثية الآن تتحكم في مفاصل السياسة في السودان، و سيظل الصراع دائر بين الكل، و عدم الثقة تطال الجميع، حتى إذا كونوا مجلسا استشاريا بينهم، لآن؛ المدنيون لا يرغبون في العسكر و لا يريدون أن ينسبوا لهم أي نجاح، و العسكر لديهم اعتقاد نابع من ثقافتهم العسكرية أن المدنيين لن يستطيعوا أن يديروا الدولة بدونهم، و خلافات القوى السياسية فيما بينها دون أن تكون هناك رؤى واضحة. لذلك ستظل الفترة الانتقالية تذهب عرجاء دون أن تحقق شيئا يستفيد منه المواطن، و ستظل الأزمات تتوالد نتيجة للمماحكات، و إذا خرج الملايين سوف تبين قوة الشارع لكنها قوة غير مستقلة استقلالا مفيدا يغير الواقع و يغير كل الاعبين فيه. نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء