السودان ومصر .. كلٌ يبحثُ عن أمانٍ في غير مكانه. … بقلم: مؤيد شريف

 


 

مؤيد شريف
27 June, 2009

 

sharifmuayad@gmail.com

 

 

     تصيبني مصر المجتمع بكثير حيرة ودهشة في أحيان كثيرة . فمصر المجتمع تبدو غاية في الحيوية والتفاعلية الواعية بقضاياها ، الكلية منها والتفصيلية . وكل يوم هي في وقفة إحتجاجية ، وإضراب عن العمل ، ومقيمة لـ"مساطب" وسلالم لنفث السخط والتعبير عن الرأي والمواجهة – حد الإصطدام – بمصر الرسمية . ما تقدم من توصيف لمصر المجتمع لم يأت نتاجاً للأزمة المالية المائلة أثارها ، أو الإنسداد السياسي المستمرة والمتسعة إحتقاناته ، بل هو حالة وُسمت بها وعُرفت عبر تاريخها القديم والحديث . ومبعث ُ الحيرة في أن حيوية واعية علي هذا القدر الذي تعين كان منتظراً منها أن تُحصل مُخرجاً مقبولا ، مستقراً غير مأزوم في النظام السياسي والتموضع الإقليمي والدور الدولي لمصر القُطر المعلومة مّيزاته التفضيلية في الجيوسياسة ، وإرث التاريخ ، وقبل كل ذلك ، المجتمع العضوي والحيوي.

 

     تبدو مصر ، المنظومة الشاملة ، مأزومة اليوم في عُمق العظم بأكثر من أي وقت مضى . ففضلا عن أنها تنفجر سكانياً في مساحة لا تتعدى 6% من مساحتها الكلية ، تستورد مصر ما يفوق نصف إستهلاكها من طعام الاستهلاك اليومي . وتعودنا ، نحن في السودان ، من مصر – الرسمية منها علي أقل تقدير – أن تجيء إلتفاتتها تجاه السودان بالمقدار الذي يعكسُ درجة التأزم الداخلي فيها ، أو ما قد تجره أوضاع السودان ، والتي ليست بأفضل حال ، عليها من تأزمٍ جديد . ولازالت مصرُ تفتقد لرسم خطوط واضحة لعلاقة ستراتيجية ثابتة تجاه أوضاع متقلبة في السودان ومصالحهما المشتركة . وتكتفي مصر ، في الاثناء ، بالإكثار من إستخدام أفعال الشعور : إذ هي (تحذر) من إنفجار أوضاع السودان ، (وتخشى) من تدفق جديد لسيول اللاجئين وزيادة عبء الثلاثة ملايين لاجئ هناك ، (وتخاف) قيام دولة جديدة في جنوب السودان ، (وترتعب) مما قد يصيبها حال تناقص مناسيب المياه بدخول عضو جديد وحصة جديدة ، (وتتحسب) من أن تصبح حدودها والسودان مستباحة لجماعات شتى ؛ تختلف في العناوين والأهداف والصفات ، غير أنها تلتقي في إيذاء مصر والإضرار بأمنها واستقرارها ، ومصرُ (تشجع) الجنوب علي أن يظل جزء من السودان ولا يذهب الي حال سبيله .

 

ليس من المصادفة في شيء أن تبدأ مصاعب مصر مع بلدان حوض النيل في أثيوبيا ثم دول البحيرات في جنوب الحوض حول موضوعات إعادة النظر في إتفاقية تقسيم حصص المياه ، أو ما هي مزمعة من مشروعات سدود علي المجرى الاثيوبي ، في أوقات تأزم الخرطوم وتراجع ثقلها في الأوساط الافريقية علي نحو مريع وغير مسبوق . فالتجربة برهنت علي أن أي ضعف يعتور النظام في الخرطوم وأدواره  فيه ضعفٌ لمصر وخياراتها المتاحة في مواجهة دول الحوض الأخرى .

 

إذن ، بالامكان القطع أن وجود نظام سوداني مستقر وصاحب وزن وثقل وتأثير في محيطه الإقليمي هو مصلحة مصرية مباشرة وأساسية من واقع ما تحتاجه مصر من معاونة سودانية لمواجهة المد المطلبي المتصاعد لدول الحوض الجنوبي والشرقي . وقد يكون مشروع ربط الشبكة القومية للكهرباء في السودان بنظيرتها الاثيوبية واحدة من هذه الأدوار التي تأملها مصر من السودان . والتسريبات في هذا الشأن ، علي قلتها ، تنم عن محاصصة غير معلنة يكون هدفها النهائي التقليل من مشروعات اثيوبيا علي المجرى ، وهو الأمر الذي ستترتب عليه ، في حال حدوثه ، تراجعات مقلقة لمصر في مناسيب المياه .

 

مؤشرات شتى تعزز الظن في أن مصر الرسمية تعكف الساعة علي مراجعة مواقفها من الأزمة السودانية الشاملة . وبداية ، اُستشف هذا "التململ" المصري في أوقات مبكرة عندما صرح السفير علاء الحديدي الناطق باسم الخارجية المصرية قائلا : " تعمل مصر علي عكس المخاوف السودانية الي الغرب . كما ونتحدث الي الخرطوم بأن ليس في إمكانهم رفض جميع المطالبات التي تطرح في مواجهتهم .." ويبدو أن مصر سئمت لعب دور "ساعي البريد" والذي تحاول الخرطوم حملها عليه . وكثيرة هي المرات التي سعت فيها مصر ، وبدفع وإيعاز من الخرطوم ، للتوسط لدى الرئيس الفرنسي المنصرف جاك شيراك ملتمسة منه التوسط وإستخدام مكانة فرنسا لدى الرئيس التشادي ديبي إتنو في محاولة لاقناعه رفع يده عن حركات ثوار دارفور وقطع خطوط إمدادها الخلفية ، وما لم تنجح فيه مصر مع جاك شيراك ، قطعاً ، لن تحقق فيه تقدما مع نيكولا ساركوزي . وبالوصول الي ذروة عَرض الأزمة السودانية الشاملة ، ولا أقول جوهرها ، بصدور مذكرة توقيف رأس النظام في الخرطوم والصادرة من الغرفة التمهيدية بالمحكمة الجنائية الدولية ، وجدت مصر نفسها أمام واقع جديد لابد من التعامل معه علي نحو مختلف . فلم يعد مجدٍ ، بالنظر للمصالح المصرية المباشرة ، الإكتفاء بإطلاق المجاملات الإعلامية وإظهار الدعم المطلق للنظام في الخرطوم ، في ذات الوقت الذي تتدحرج فيه  الأمور بإتجاه الهاوية لتتحول من ثم المصالح المصرية الكبرى في السودان ، بل والإقليم ، لمجرد تساؤل حائر مبهم ..!!

 

وخلاصة ما يمكن أن يُقال : أن كل طرف في السودان ومصر يبحثُ عن أمانٍ في غير مكانه . أمان عزّ عند الطرف الآخر . فمصرُ لن تنفعها أراضٍ يحترب أهلها عليها وتسيلُ دمائهم غزيرة إختلافاً عليها . ومصرُ ليس يكفيها أن تكون الأولى من بين البلدان المنشأة لقنصلية في جنوب السودان ، أو أن تُقيم محطات لتوليد الكهرباء ، أو مشفاً مركزيا ، أو معهدين للتعليم الفني أو أن تتعهد توفير التدريب والتأهيل للكوادر الطبية والادارية في الجنوب . وكذا السودان ، إذ لم ولن تُنجده تدخلات وتوسطات مصر لدى المجتمع الدولي لأجل فك الخناق عن النظام المنحشر في الخرطوم ، فمصرُ اليوم يتآكل دورها ولا يكفيها ما تجده من وقت وجهد لمجاراة ومسايرة أزماتها الداخلية المتفجرة . ما ينفعهما ، اليوم وغدا وبعد غد : أن يعملا ، علي عجلٍ ، علي إعادة الإعتبار للإنسانين السوداني والمصري وإعادة بث الثقة فيهما من خلال فتح أشرعة الحريات حتى يدخل الهواء النقي ، "وتسليك" قنوات المشاركة الحقيقية ومسارات العدالة الاجتماعية والاقتصادية والإنصاف بسيادة القانون ولجم سياسة المال الفاسد ومال السياسة المفسد . وإن لم نفعل فأذنوا بتيارات الوعي القادم . وهو – الوعي القادم – أعتى من أن تسده الأيدي المرتعشة ، وإن قبضت علي الزِند وبه تسلحت ...

 

مجلة الملتقى الصادرة في مصر

 17/5/2009    

 

آراء