السياسة بين التجريد والتجسيد
تقتضي حالة الفشل المزمنة، التي لازمت حقبة ما بعد الاستقلال، في البلاد، نظرًا فاحصًا، لمواضع العلل المركزية، التي وقفت وراء هذه الحالة من ضمور الفعل في الواقع. من هذه العلل، فيما أرى، الانغماس في الخطاب السياسي التجريدي، والانصراف عن الفعل، الذي يجسد التغيير على أرض الواقع. لقد كانت السياسة في السودان، منذ الاستقلال، وإلى اليوم، مجرد حربٍ كلاميةٍ مستعرةٍ، بين أطرافٍ هدفها الرئيس، مجرد الوصول إلى السلطة. ولو بحث المرء في بنيات القوى السياسية المتصارعة، فإنه لا يجد، لمختلف أحزابنا السياسية، رؤىً واضحة المعالم، ولا بنيات قاعدية، مهيكلة، منخرطةً في برامجٍ وخططٍ مدروسةٍ للتغيير، ولا كوادر سياسية وإدارية مدربة، لها قدرةٌ عمليةٌ، على الفعل في الواقع القاعدي.
سيطر على الفعل السياسي، في السودان، عقب الاستقلال، الحزبان الطائفيان الكبيران. وقد اعتمد هذان الحزبان على الولاء الجماهيري الأعمى، لزعماء الطوائف، الذي، عن طريقه، يصل نواب هذين الحزبين، إلى البرلمان. غاب عن هذا الوضع، المعطوب، بنيويًّا، البرنامج الانتخابي، الذي يخدم حاجة الناخب الريفي، للتغيير، والتنمية. بهذا، انحصر الفعل السياسي في خدمة البيوتات التجارية، الداعمة للحزبين، وخدمة مجمل أصحاب المصالح. ولقد حال هذا الوضع، دون قيام تشبيكٍ هيكليٍّ، سياسيٍّ، منتجٍ، بين القواعد الشعبية، وبين القيادات السياسية.
أما الأحزاب الأيديولوجية؛ خاصة، الشيوعيين والإسلاميين، فقد انشغلوا بالحرب على بعضهما، أكثر مما انشغلوا بالحرب على الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، المتردي، المخيِّم على سائر أرجاء القطر. بهذا، انحصر الفعل السياسي في تدبيج خطاب شيطنة الخصم، من أجل كسب معارك آنيةٍ، محدودةٍ، هدفها السيطرة، في لحظةٍ بعينها، على الرأي العام. في ظل هذه المنافسة الشرسة، قامت الانقلابات العسكرية، ومُورس الكيد المتبادل، في أعنف صوره. تؤكد هذه الحالة المزمنة، من النزوع إلى الاستقطاب الخطابي، الحاد، أن النخب المؤدلجة، لا تختلف في نزوعها نحو الوصاية، على الشعب، عن القوى الطائفية. فهي تريد أن تقوم بالفعل السياسي، نيابةً عن الشعب. ولا ترى مصلحةً لها، في أن يكون الشعب، هو الفاعل، أصالةً عن نفسه. بل، هي لا تبالي بتضليل الشعب، وجره نحو بؤر الاستقطاب الحادة، ما دام هناك كسبٌ آني.
رغم أن الشعب، قد قدم للقادة السياسيين، عبر ثورة ديسمبر العظيمة، التي اتسمت بوحدةٍ شعبيةٍ صلبة، وبسلمية صارمة، درسًا عظيمًا، إلا أن القوى السياسية، من مدنيين، ومن عسكريين، ومن حركات مسلحة، لا تزال أسيرة لحالة المتاجرة بالخطاب التجريدي، الاستقطابي، القديم. لكن، ليعلم كل هؤلاء، أن الانجاز على أرض الواقع، وخاصة الانجاز الاقتصادي، هو ما يحفظ الأنظمة من الزوال. وعليهم جميعًا، مدنيين وعسكريين، أن يتدبروا وقوف الشعب التركي مع حكومة أردوغان، ضد الانقلاب العسكري. وأن يعوا، أن أي نظامٍ لا ينجز على أرض الواقع، مصيره السقوط، مهما فعل، ودونكم تجربة الانقاذ.