السينما المتجولة .. ليت ايامك تعود !
د. زهير السراج
27 June, 2024
27 June, 2024
مناظير الخميس 27 يونيو، 2024
زهير السراج
manazzeer@yahoo.com
* بعيدا عن الحرب القذرة والموت والتدمير الممنهج لبلادنا الحبيبة، أعود معكم اليوم الى الماضي الجميل متحدثا عن تلك الوسيلة الجميلة التي ظلت سنوات طويلة مصدر الوعى والتثقيف والترفيه لشعبنا الجميل، وهى السينما المتجولة التي ستكون موضوع كتاب للزميل الصحفي القدير (عباس موسى عباس)، سيصدر قريبا بالمملكة العربية السعودية إن شاء الله.
* كان والدي يعمل مهندسا بوزارة الاشغال بالخرطوم قبل منتصف الستينيات من القرن الماضي، ونقل الى مدينة حلفا الجديدة مع اخرين للقيام بتشييد المدينة الجديدة والقرى التي تحيط بها لاستقبال المواطنين المهجرين من منطقة وادي حلفا في اقصى شمال السودان مع الحدود المصرية التي ستغرقها مياه نهر النيل (او ما عرف ببحيرة النوبة) بسبب بناء السد العالي لاغراض تخزين المياه وتوليد الكهرباء لجمهورية مصر او ما كانت تعرف وقت ذاك بالجمهورية العربية المتحدة.
* جاء والدي بمفرده اولا الى حلفا الجديدة ولحقنا به بعد بضعة اشهر، وكنا نسكن في حى صغير خصص لموظفي الحكومة يدعى (مربع ستة) او حى الموظفين الذي كان يتوسط المدينة تقريبا، وهو من اول الاحياء التي تم تشييدها لاسكان موظفي الحكومة خاصة المهندسون والاطباء والقاضي الشرعي وضابط المجلس البلدي المنقولين من الخرطوم وبعض المدن الكبري مثل (ود مدني) لتسيير الحياة في المدينة الجديدة.
* كانت الوسيلة الوحيدة في ذلك الوقت لسماع الاخبار والترفيه هى الراديو، بالاضافة الى مكتبة تبيع الصحف والمجلات التي ترد من الخرطوم وخارج السودان مثل (العربي الكويتية) و(ميكي وسمير والصبيان)، بالاضافة الى الصحف اليومية التي كانت تصل الى منزلنا ومنازل المشتركين الاخرين بواسطة شاب يقود دراجة ويقوم برمى الصحف والمجلات من فوق حائط المنزل، وكانت متعة لا تضاهيها متعة انتظار هذا الرسول الرائع. كنت اول من يقرا الصحف لاستيقاظي مبكرا قبل الاخرين، وكنت في ذلك الوقت في الصف الثاني من المرحلة الابتدائية التي كان يطلق عليها وقتذاك اسم المرحلة الاولية. اما الراديو فكان حكرا تقريبا على الوالد في الصباح الباكر وعند عودته قبل غروب الشمس بقليل وأحيانا في المساء عندما يكون العمل في القرى خارج المدينة.
* فوجئنا ذات يوم ونحن نتناول طعام الغداء بصوت ياتي عبر ميكرفون من خارج المنزل يعلن عن قدوم عربة السينما المتجولة في يوم الخميس لعرض بعض المواد الثقافية والاغاني وغيرها، وسالت والدي ما هى السينما المتجولة، وكنا في الخرطوم ونحن اطفال صغار في سن الثالثة والرابعة نذهب برفقة والدي او عمي الاصغر عبد المجيد السرَّاج (لهما الرحمة والمغفرة) لدور السينما في ام درمان لحضور بعض الافلام، فشرح لنا انها شاشة تحملها عربة لعرض بعض المواد المصورة وكانت المرة الاولى التي نسمع فيها بوجود مثل هذه الالة العجيبة، وظللنا ننتظر وصول يوم الخميس بشوق وترقب كبيرين وفي الاثناء يسرح كل منا بخياله في الالة العجيبة وماذا ستحمل لنا.
* أخيرا جاء يوم الخميس بعد خمسة ايام ولكنها مرت وكانها خمس سنوات كاملة، فلقد ظلنا نحسبها بالدقيقة والثانية واللحظة بل واقل من ذلك بكثير. تركنا كل شئ وتفرغنا للحساب في انتظار عربة السينما، وخرجنا في ذلك اليوم مبكرا من المدرسة بقرار من الناظر ليستعد التلاميذ خير استعداد لاستقبال الحدث السعيد وكانه العيد، وكان عيداً بالفعل بل اسعد كثيرا من العيد.
* جاءت العربة الكبيرة تتهادى بعد غروب الشمس مباشرة وصوت موسيقى عالية واناشيد ينبعث منها ويعطيها نوعا من السحر الغريب. كان يجرى خلفها مئات الناس، اطفال وكبار ونساء ورجال وشباب وشيوخ، يسقط منهم على الارض من يسقط ثم ينهض ليستكمل المسيرة وراء العربة الضخمة الى ان توقفت اخيرا في الميدان الذي تفتح عليه منازل مربع (٦) او حى الموظفين الذي شهد منذ منتصف نهار ذلك اليوم احضار مئات الكراسي والمقاعد التي جلس عليها كبار الضيوف والموظفون وكبار السن، بينما توسد النساء والشباب والاطفال الارض في حلقة دائرية كبيرة في مواجهة العربة التي كانت تذيع الموسيقى والاناشيد الوطنية واغاني كبار المطربين وقتذاك واذكر منهم وردي وسيد خليفة واحمد المصطفي. وفجأة صمت كل شئ وانبعث صوت من داخل العربة يعلن عن بداية العرض السينمائي، متزامناً مع انبعاث ضوء من شاشة بيضاء كبيرة ملصقة على جانب العربة ثم ظهرت صورة الرئيس اسماعيل الازهري وبجانبه رئيس الوزراء محمد احمد المحجوب وهما يرفعان علم السودان (في يناير من عام 1956 )، ايذانا ببدء احتفال السودان باستقلاله من الحكم الثنائي الانجليزي المصري وفي الخلفية نشيد وردي المعروف "اليوم نرفع راية استقلالنا ويسطر التاريخ مولد شعبنا .. يا اخوتي غنوا لنا" .
* كان الجميع في حالة صمت وذهول غريب ولكن ما ان اكتمل ارتفاع العلم السوداني واُنزل العلمان الانجليزي والمصري من ساريتيهما حتى ساد المكان تصفيق شديد وهتافات وزغاريد تعبر عن سعادة المشاهدين بالحدث.
* ثم توالت المشاهد للقطات ومناظر من مختلف انحاء السودان كانت بالنسبة لنا حدثا فريدا في نوعه، فلاول مرة نرى مشاهد حية من غرب وشرق وجنوب السودان وشعوب تلك المناطق وهم يمارسون حياتهم ومناشطهم المتنوعة.
* لكن الحدث الاول الذي خلب انظار الجميع كان الفيلم الذي يحكي عن مشروع الجزيرة وقصة بدايته والقطار الذي يتهادي بين الحقول، ومنظر المزارعين والنساء والتلاميذ وهم يجمعون القطن ويضعونه في اكوام كبيرة ثم يُوضع في اجولة من الخيش لتحمله جرارات الى المحالج. وكان كل ذلك مصحوبا بتعليق صوتي باللغة العربية الفصحى التي تشرح كل لقطة في الفيلم وكل خطوة من خطوات المشروع الزراعي الكبير الذي تحتضنه منطقة الجزيرة المروية.
* اخيرا اُختتم العرض بلقطات من مباريات لفريقي الهلال والمريخ مع بعض الفرق الاوربية ثم بعض الاغاني، وكانت تتخلل المشاهد استراحة تعرض فيها بعض الاعلانات، وما زلت اذكر حتى اليوم اعلان (حبوب كافينول) لعلاج الصداع و(اندروس الفوار) لعلاج حموضة المعدة.
* انتهى العرض عند العاشرة مساء وكان الكل يصفق معجبا وفرحا بما شاهد وبهذه الالة العجيبة التي ارته ما لم يره من قبل، وانارت عقله وقلبه بما يحدث حوله داخل وخارج السودان.
* كانت ليلة عجيبة اذهلت الكل، واستمرت بعدها الليالى المثيرة مع السينما المتجولة التي ظلت تاتي لمربع (٦) بحلفا الجديدة كل شهر مرة، وتطوف الكثير من المناطق والقرى تُسعد المواطنين وترفع درجة الوعى وتربط الناس بوطنهم واهلهم والعالم الخارجي، فما احلاها من ليالى وما اجملها من وسيلة تثقيفية تعليمية ترويحية، وما اعظم الدور الذي قامت به في توعية وتسلية الناس.
* اختم حديثي عن السينما المتجولة التي كانت تتبع لوزارة الاعلام بالقول .. ان انس لن انسى تلك الايام الجميلة وساظل اذكر ما حييت السينما المتجولة التي اعطتنا الكثير، وساظل اشكر في سري وجهري الذين كانوا يقفون وراء ذلك المشروع ويفكرون في توعية وتسلية المواطن في ذلك الزمن الجميل.
زهير السراج
manazzeer@yahoo.com
* بعيدا عن الحرب القذرة والموت والتدمير الممنهج لبلادنا الحبيبة، أعود معكم اليوم الى الماضي الجميل متحدثا عن تلك الوسيلة الجميلة التي ظلت سنوات طويلة مصدر الوعى والتثقيف والترفيه لشعبنا الجميل، وهى السينما المتجولة التي ستكون موضوع كتاب للزميل الصحفي القدير (عباس موسى عباس)، سيصدر قريبا بالمملكة العربية السعودية إن شاء الله.
* كان والدي يعمل مهندسا بوزارة الاشغال بالخرطوم قبل منتصف الستينيات من القرن الماضي، ونقل الى مدينة حلفا الجديدة مع اخرين للقيام بتشييد المدينة الجديدة والقرى التي تحيط بها لاستقبال المواطنين المهجرين من منطقة وادي حلفا في اقصى شمال السودان مع الحدود المصرية التي ستغرقها مياه نهر النيل (او ما عرف ببحيرة النوبة) بسبب بناء السد العالي لاغراض تخزين المياه وتوليد الكهرباء لجمهورية مصر او ما كانت تعرف وقت ذاك بالجمهورية العربية المتحدة.
* جاء والدي بمفرده اولا الى حلفا الجديدة ولحقنا به بعد بضعة اشهر، وكنا نسكن في حى صغير خصص لموظفي الحكومة يدعى (مربع ستة) او حى الموظفين الذي كان يتوسط المدينة تقريبا، وهو من اول الاحياء التي تم تشييدها لاسكان موظفي الحكومة خاصة المهندسون والاطباء والقاضي الشرعي وضابط المجلس البلدي المنقولين من الخرطوم وبعض المدن الكبري مثل (ود مدني) لتسيير الحياة في المدينة الجديدة.
* كانت الوسيلة الوحيدة في ذلك الوقت لسماع الاخبار والترفيه هى الراديو، بالاضافة الى مكتبة تبيع الصحف والمجلات التي ترد من الخرطوم وخارج السودان مثل (العربي الكويتية) و(ميكي وسمير والصبيان)، بالاضافة الى الصحف اليومية التي كانت تصل الى منزلنا ومنازل المشتركين الاخرين بواسطة شاب يقود دراجة ويقوم برمى الصحف والمجلات من فوق حائط المنزل، وكانت متعة لا تضاهيها متعة انتظار هذا الرسول الرائع. كنت اول من يقرا الصحف لاستيقاظي مبكرا قبل الاخرين، وكنت في ذلك الوقت في الصف الثاني من المرحلة الابتدائية التي كان يطلق عليها وقتذاك اسم المرحلة الاولية. اما الراديو فكان حكرا تقريبا على الوالد في الصباح الباكر وعند عودته قبل غروب الشمس بقليل وأحيانا في المساء عندما يكون العمل في القرى خارج المدينة.
* فوجئنا ذات يوم ونحن نتناول طعام الغداء بصوت ياتي عبر ميكرفون من خارج المنزل يعلن عن قدوم عربة السينما المتجولة في يوم الخميس لعرض بعض المواد الثقافية والاغاني وغيرها، وسالت والدي ما هى السينما المتجولة، وكنا في الخرطوم ونحن اطفال صغار في سن الثالثة والرابعة نذهب برفقة والدي او عمي الاصغر عبد المجيد السرَّاج (لهما الرحمة والمغفرة) لدور السينما في ام درمان لحضور بعض الافلام، فشرح لنا انها شاشة تحملها عربة لعرض بعض المواد المصورة وكانت المرة الاولى التي نسمع فيها بوجود مثل هذه الالة العجيبة، وظللنا ننتظر وصول يوم الخميس بشوق وترقب كبيرين وفي الاثناء يسرح كل منا بخياله في الالة العجيبة وماذا ستحمل لنا.
* أخيرا جاء يوم الخميس بعد خمسة ايام ولكنها مرت وكانها خمس سنوات كاملة، فلقد ظلنا نحسبها بالدقيقة والثانية واللحظة بل واقل من ذلك بكثير. تركنا كل شئ وتفرغنا للحساب في انتظار عربة السينما، وخرجنا في ذلك اليوم مبكرا من المدرسة بقرار من الناظر ليستعد التلاميذ خير استعداد لاستقبال الحدث السعيد وكانه العيد، وكان عيداً بالفعل بل اسعد كثيرا من العيد.
* جاءت العربة الكبيرة تتهادى بعد غروب الشمس مباشرة وصوت موسيقى عالية واناشيد ينبعث منها ويعطيها نوعا من السحر الغريب. كان يجرى خلفها مئات الناس، اطفال وكبار ونساء ورجال وشباب وشيوخ، يسقط منهم على الارض من يسقط ثم ينهض ليستكمل المسيرة وراء العربة الضخمة الى ان توقفت اخيرا في الميدان الذي تفتح عليه منازل مربع (٦) او حى الموظفين الذي شهد منذ منتصف نهار ذلك اليوم احضار مئات الكراسي والمقاعد التي جلس عليها كبار الضيوف والموظفون وكبار السن، بينما توسد النساء والشباب والاطفال الارض في حلقة دائرية كبيرة في مواجهة العربة التي كانت تذيع الموسيقى والاناشيد الوطنية واغاني كبار المطربين وقتذاك واذكر منهم وردي وسيد خليفة واحمد المصطفي. وفجأة صمت كل شئ وانبعث صوت من داخل العربة يعلن عن بداية العرض السينمائي، متزامناً مع انبعاث ضوء من شاشة بيضاء كبيرة ملصقة على جانب العربة ثم ظهرت صورة الرئيس اسماعيل الازهري وبجانبه رئيس الوزراء محمد احمد المحجوب وهما يرفعان علم السودان (في يناير من عام 1956 )، ايذانا ببدء احتفال السودان باستقلاله من الحكم الثنائي الانجليزي المصري وفي الخلفية نشيد وردي المعروف "اليوم نرفع راية استقلالنا ويسطر التاريخ مولد شعبنا .. يا اخوتي غنوا لنا" .
* كان الجميع في حالة صمت وذهول غريب ولكن ما ان اكتمل ارتفاع العلم السوداني واُنزل العلمان الانجليزي والمصري من ساريتيهما حتى ساد المكان تصفيق شديد وهتافات وزغاريد تعبر عن سعادة المشاهدين بالحدث.
* ثم توالت المشاهد للقطات ومناظر من مختلف انحاء السودان كانت بالنسبة لنا حدثا فريدا في نوعه، فلاول مرة نرى مشاهد حية من غرب وشرق وجنوب السودان وشعوب تلك المناطق وهم يمارسون حياتهم ومناشطهم المتنوعة.
* لكن الحدث الاول الذي خلب انظار الجميع كان الفيلم الذي يحكي عن مشروع الجزيرة وقصة بدايته والقطار الذي يتهادي بين الحقول، ومنظر المزارعين والنساء والتلاميذ وهم يجمعون القطن ويضعونه في اكوام كبيرة ثم يُوضع في اجولة من الخيش لتحمله جرارات الى المحالج. وكان كل ذلك مصحوبا بتعليق صوتي باللغة العربية الفصحى التي تشرح كل لقطة في الفيلم وكل خطوة من خطوات المشروع الزراعي الكبير الذي تحتضنه منطقة الجزيرة المروية.
* اخيرا اُختتم العرض بلقطات من مباريات لفريقي الهلال والمريخ مع بعض الفرق الاوربية ثم بعض الاغاني، وكانت تتخلل المشاهد استراحة تعرض فيها بعض الاعلانات، وما زلت اذكر حتى اليوم اعلان (حبوب كافينول) لعلاج الصداع و(اندروس الفوار) لعلاج حموضة المعدة.
* انتهى العرض عند العاشرة مساء وكان الكل يصفق معجبا وفرحا بما شاهد وبهذه الالة العجيبة التي ارته ما لم يره من قبل، وانارت عقله وقلبه بما يحدث حوله داخل وخارج السودان.
* كانت ليلة عجيبة اذهلت الكل، واستمرت بعدها الليالى المثيرة مع السينما المتجولة التي ظلت تاتي لمربع (٦) بحلفا الجديدة كل شهر مرة، وتطوف الكثير من المناطق والقرى تُسعد المواطنين وترفع درجة الوعى وتربط الناس بوطنهم واهلهم والعالم الخارجي، فما احلاها من ليالى وما اجملها من وسيلة تثقيفية تعليمية ترويحية، وما اعظم الدور الذي قامت به في توعية وتسلية الناس.
* اختم حديثي عن السينما المتجولة التي كانت تتبع لوزارة الاعلام بالقول .. ان انس لن انسى تلك الايام الجميلة وساظل اذكر ما حييت السينما المتجولة التي اعطتنا الكثير، وساظل اشكر في سري وجهري الذين كانوا يقفون وراء ذلك المشروع ويفكرون في توعية وتسلية المواطن في ذلك الزمن الجميل.