السُّودان ودبلوماسِّية (ضبة) ولي الذراع !!

 


 

 

مقالٌ طويلٌ ومُطولٌ خطه أحد سفراء زماننا هذا المسكون بالمحن وهو من عناصر الثقة لعهد النظام البائد. وعندما نذكره، نذكر سفراء الكوتة والتمكين الذين زجت بهم الإنقاذ زجاً في وزارة الخارجية في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي. فقد كان نظام الإنقاذ منذ أيامه الأولى يهدف إلى إحلال وإبدال كاملين، خاصة في وزارة الخارجية لأنها في حسابات الحركة الإسلامية كانت تُعدُ من أخطر الوزرات. فهي في نظر السلطة وزارة يُسيطر عليها الدبلوماسيون مما يستوجب انتقاء الكوادر بعناية لتذهب الترشيحات مباشرة من "مكتب الفئات"، التابع للحركة الإسلامية، إلى مكتب الوزير ليتم تعيينهم بدون الخضوع لامتحانات أو معاينات. تسببت هذه الخطة في تشويه تغيير نمط وطابع وزارة الخارجية وإرثها العتيق، فحصدوا للسودان وعبر دبلوماسية لي الذراع المزيد من التهم والبلايا. ولعل من بين ماحصدوا هما كارلوس وبن لادن، والوصم بالارهاب، وتهم تفجير المدمرة الأمريكية كول والسفارة الأمريكية بدارالسلام، وغيرها من المحن والإحن والكوارث. ولنعلن أنَّ الضرر الذي لامس جميع مناحي الحياة لم يترك مكاناً إلا ولامسه، فصعب علي الكل الرقع والسد بعد ذهاب النظام .

انضمَّ السفير خالد موسي دفع الله إلى خدمة السلك الدبلوماسي في درجة السكرتير الثالث في عام 1995، ضمن دفعات التمكين المتوالي حينذاك حتى ترقى إلى درجة السفير في العام 2015. ومن سيرته الأولى، فقد تمَّ نقله للعمل في سفارة السودان بالولايات المتحدة الأمريكية في واشنطون في الفترة من 2001 إلى 2009، كأطولِ إقامةٍ لدبلومسي بغرض تعلم اللغة الإنجليزية. ومن سيرة سنوات الخدمة الأخيرة، رشحته الوزارة سفيراً لدى ألمانيا وسافر إلى برلين بأوراق موقعة من رئيس نظام الإنقاذ المخلوع بعد 11 أبريل 2019، ولكن تم إرجاعه فوراً بعد الثورة، ومن ثمَّ فُصِل من الخدمة، ضمن 130 سفير ودبلوماسي وإداري، بواسطة لجنة إزالة التمكين.

 

ما كنت لأسهب في سيرة وخلفية خالد موسى دفع الله، لولا أنَّ السفير المُزال أراد أن يُشفي غليله بمحاولة بائسة وتطاول يائس عبر نافذة الرفيق الملهم والمفكر المتمكن د. الواثق كمير، فكتب مقالاً طويلاً تحت عنوان (الواثق كمير ومحاكمة العقل الشمالي في الحركة الشعبية) وكأنه يسير علي خطي الفيلسوف (كانط) . وبذات النهج شرع في الفلسفة وجدلية محاكمة العقل (الفعل) أو نقد (العقل ) وحشو من هذا القبيل، وهو بذلك يريد أن يتهجم علي المحاكم الفكرية أيضا وبالعافية ليصدر ما يشبه أحكام محاكم التفتيش والكونقر! كما أن السفير خالد ظنَّ أنَّ شماليي الحركة يغطون في نوم عميق، لكن كلا وحاشا، بل هم في قفوة وسنة يرصدون من خلالها أفعال وأقوال سفراء الغفلة في زمن الضياع .

ونحن نطالع في غفوتنا تلك أبياتاً من الشعر...

وإنّ عَناءً أنْ تُفهِّمَ جاهلاً فيحسَبُ جهلاً أنّهُ منكَ أفهَمُ...

فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً...حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ...

قرأت بدقة تعقيب د. الواثق على مقال خالد موسى بعنوان (غيبوبة العقل السياسي...)، والذي وصف فيه د. الواثق، ضمن كتاب آخرين، بأنه يعاني من "غيبوبية" سياسية بسبب موقفه من استقالة رئيس الوزراء، د. عبد الله حمدوك (سادن الليبرالية الجديدة). خلص د. الواثق إلى أن غيبوبة العقل السياسي هي المعادل لتبني منهج الليبرالية السياسية، وأن السفير خالد يحتكم إلى "المشروع الحضاري"، لنظام الإنقاذ، كمرجعية ومعيار لقياس مدى ودرجة وعي العقل السياسي. وهذا ما قصده د. الواثق بأن السفير خالد كان يكتب مقاله وكأنما قناة طيبة الفضائية تشد بصره، وهي عبارة أقلقت مضاجعه. بنفس القدر أيضاً، اطلعت على الرد الطويل للسفير خالد على تعقيب د. الواثق فلم أجد فيه أي تناول جاد لأطروحته وسؤاله عن مرجعية الحكم على الآخرين بغيبوبة الوعي السياسي. لو فعل ذلك لكان اختط طريقاً للحوار المجدي، ولكنه بدلاً عن ذلك التمس سفير التمكين في مقاله الطويل والغير (شهي) طرقاً قدداً وشائكةً لمفكرين وعلماء وشعراء متوهما أنه وريث عبقرية شكسبير وخليفة فرس المتنبي وصهيله ولكنه، لم يُسمعنا سوى (عواء) كلبه العقور.
ليس ذلك فحسب، بل انتقل سفير التمكين في الجزء الثاني من مقاله وخرج من النص تماماً ليقحم الحركة الشعبية لتحرير السودان ودور د. الواثق كمير ومواقفه. فحاول أن يرسل في بداية مقاله الكذوب أنه يعرف مقامات الرجال والعلماء والفهماء وكاد أن يعلن إيمانه بالواثق كمفكر لاغبار عليه ليوهم المتلقي أنه حقاني ولكنه سرعان ما سلك كل سبل التشويش والضلال (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ) فلم نجد له عزماً ولم نجد عنده ما ادعاه علي المتنبي من فرس، بل أتى إلينا يمتطي (أتان) وهي أنثي الحمار، وأتى إلينا ببضاعة كاسدة إن لم نقل فاسدة!! إنه يريد أن يحاكم العقل الشمالي في الحركة الشعبية، وعلي طريقة قيادته للمواتر التي كان يجيد قيادتها ويتخطي بها السيارة تلو الأخرى لإيصال المعلومات، ولا ندري لعله كان حينها مخبراً جيداً!! وما علِم أنه يريد أن يصارع الكبار، بيد أننا سننصحه ونقول له (صراع الما قدرك بفك صدرك)، فاختار وهو بلا حيلة أن ينازل الكبارة بمثل قامة د.الواثق كمير بكل القه وانتاجه الفكري ومكابدته للشدائد. وهذا التخطي للكبار علي طريقة (الموترجية) قد تؤدي إلى الارتطام بالاجسام الصلبة الأمر الذي يفقده السيطرة علي (المقود) ويعقب ذلك عبارة (وحدس ما حدس) قبل بلوغ المرام. فأعلم ياسعادة سفير التمكين أن د.الواثق قادر تمامً للتعليق علي مكتوبك إن وجد فيه مايستحق!! ولكنني أعلم أنه لم ولن يفعل ذلك، لذلك سنتناولك وبمقدار تناولك السطحي للقيادات الشمالية بالحركة الشعبية وعقولها الواعية وفكرها الثاقب، والذي أبسطه المثابرة على الحفاظ علي وحدة الوطن قبل انقسامه نتيجة تمسككم بدولة الشريعة حتي إذا ما جاء أحدهم لم يجد شيئا!! فأصبحنا بما أصبحنا عليه لا وحدة ولاهوس ديني!!

وبعد هذا كله يريد سفير التمكين أن يُقيم فعلاً العقل الشمالي في الحركة الشعبية من أمثال د. منصور خالد ود. محمد يوسف ود. الواثق كمير وغيرهم، ومواقفهم الداعمة لاقامة سودان العدالة، ويستخدم في ذلك قلماً متواضعاً وفكرً بوار! فقد بهت هؤلاء القامات وتطاول عليهم بقوله "غيبوبة العقل السياسي الفعلية أن ينظر المثقفون الشماليون في الحركة لكل هذه الاخفاقات و رأوا بأم اعينهم أن المباديء التي انضموا من أجلها للحركة و علي رأسها الوحدة تتم خيانتها جهاراً نهاراً دون أن يمتلك أحدهم شجاعة الموقف ويقظة الضمير للإحتجاج أو النقد أو حتي الاستبراء لمباديء الموقف السياسي". هذا قول مردود عليه وينضح بهتاناً وينطق زوراً. فدكتور الواثق كانت مواقفه شجاعة وجريئة حول قضية الوحدة الجاذبة وغموض موقف الحركة من الاستفتاء على حق تقرر المصير، ونشهد له بمقالاته المنشورة ورسائله القوية إلى رئيس الحركة ومكتبها السياسي وأمينها العام في كل القضايا السياسية والتنظيمية، إن جمعها في وثيقة واحدة أم لم يجمعها، تظل هذه خياراته لا يفرضها عليه سفراء التمكين. فماذا كان سفير التمكين يريد د. الواثق أن يفعل؟ فهل يريده أن يتمرد ويرفع السلاح في وجه قيادات الحركة، أو أن يُفرض موقفه الداعم للوحدة ضد إرادة الغالبية العظمى من الجنوبيين؟ ولو على سبيل أقل الإيمان، هل كتب ونشر السفير خالد أي نقدٍ أو آراء، دعك عن وثيقة "جامعة مانعة" كما طالب بها د. الواثق، مخالفة لتعليمات قياداته في الحزب الحاكم، أم أن المؤتمر الوطني كالصحن الصيني لا يقبل شقاً ولا طقاً؟ وكيف نفهم أن سفير التمكين هو صاحب العقل السياسي الواعي، بينما يكون د. الواثق صاحب الآراء الثاقبة، والأستاذ المحبوب عبد السلام صاحب المقدمات والمراجعات، هما من يغيب عقلهما السياسي؟

والغريب في أمر السفير خالد أنه يقدح في الطبيعة العسكرية للحركة الشعبية وكأنه لا يدري أنها حركة سياسية وطنية تحريرية لجأت لاستخدام السلاح في ظل ظروف موضوعية مقيدة، ولم تشذ عن نمط حركات التحرر الأفريقية. وكنا كشماليين ندرك هذه الطبيعة، ولم نكن بمخدوعين كما وصفنا سفير التمكين، ولكن ما دفعنا للالتحاق بالحركة هو الإيمان برؤية ومشروع السودان الجديد. هذه قناعة ما زالت راسخة في عقولنا في الشمال والجنوب، حتى بعد الانفصال، إن وسعَّ السفير مواعين عقله السياسي الضيقة واستدرك العلاقة والفرق بين التنظيم والرؤية. واستشهد هنا بما أشار إليه د. الواثق في أكثر من مقال "أن ما صاحب رؤية السودان الجديد من سؤ فهم و ما اكتنفها من غموض ولبس عند البعض يعود بقدر كبير إلى الخلط بين السودان الجديد كإطار مفهومي والحركة الشعبية كمروج للمشروع وكتنظيم سياسي بادر في لحظة تاريخية معينة، لتحويل الرؤية إلى واقع ملموس. فعدم الانتماء إلى الحركة الشعبية، بالمعنى التنظيمي، لا يتناقض بأي حال من الأحوال مع اعتناق الرؤية أو الاعتقاد فيها". ومن ناحية أخرى، كان الزعيم الراحل جون قرنق دوماً يقول "الحركة الشعبية لتحرير السودان هي التي تقدمت برؤية السودان الجديد. ولكن، مثلما أن السودان القديم يتعرض لتغيّرات جذرية في مسيرة انتقاله نحو السودان الجديد فإن الحركة الشعبية لتحرير السودان نفسها لابد أن ينالها التطوير وتخضع بذلك لتحولات أساسية. ورغم أن الحركة ظلت تحتفظ بمضمونها الرئيسي، إلا أنها شهدت تحولات عبر السنين، وفي غضون تلك التحولات بدت الحركة مختلفة في المراحل المختلفة للكثير من الناس وجماعات المهتمين مما يفسر اللبس- القائم عند البعض- حول طبيعة ومضمون الحركة الشعبية".

وإن كانت الحركة الشعبية عسكرية الطابع، فماذا عن الحركة الإسلامية ومولودها المؤتمر الوطني؟ فهل أتت إلى السلطة عبر العمل الجماهيري الدؤوب، أم جاءت واحتكرت السلطة لثلاثين عاماً عجافاً عبر فوهة بندقية القوات المسلحة؟ ولئن تناول سفير التمكين مساهمات العقل الشمالي في الحركة الشعبية لعلِمَّ أنَّها أفضل من الحركة الإسلامية بفراسخ ضوئية. وكم كنا نطمع، طمعا ليس في مكانه، أن يتناولها من زاوية الوعي والمعرفة وليس من باب الحشو والتشويش. ولربما لايزال عقله محشواً بالجهاد والحور العين، وإن رغب في الحور العين، فلماذا لم يذهب هو مجاهداً للجنوب كإخوته؟ ولعل السفير لايزال يظن أن ينال من الحور العين بمقدار الهجوم ومحاكمة العقل الشمالي في الحركة الشعبية. فهل حاكم أيضا العقل الإجرامي والاستغلالي في الحركة الاسلامية وعقل (الفعل) المشين ووظيفة (مغتصب)، والتي لا يستطيع أن يعالجها أي فعلٍ أو لفظٍ دبلوماسي، فيا للفجيعة من عصركم يا دعاة الدبلوماسية!!

وكم كنا نظن، خطأ، أن التعيين الخاطئ لسفير التمكين قد يسهم في رفع الوعي باستيعابه وقدراته بالصورة التي تجعله يتفهم مبدأ شعار (احترام الآخر) والتأسيس السليم لدولة الحقوق والمواطنة، ثم يرتقي إلى سلم الاعترف بالتنوع التاريخي والتنوع المعاصر!! ولكن خاب فالنا والسفيل يهمُ بمحاكمة مشروعنا عبر شخوصه!! ولأنني أعرف جيداً سعة ورحابة صدر د. الواثق في التخلص الذكي والأدبي من الردود علي المقالات الغير مجدية، فثق، كما ذكرت لك سابقاً، بأنه لن يعلق عليك أبداً وأنت بهذا الجهد .وأختم، بأنني ما أن بحثت عن آراء أخري تحدثنا عن سفراء التمكين حتي وقفت علي مقال كامل الدسم للسفير جمال محمد إبراهيم، الناطق الرسمي بإسم وزارة الخارجية، وتاج حسنها في ذلك الوقت د. لام كول أجاوين، أطلق فيه لقب "ضبة ابن يزيد"، الذي عنونت به مقالي هذا. لقد أصاب السفير جمال وأفلح في مسماه، وأبسط ما وصف به سفير التمكين هو عدم (احترامه) لمن سبقوه في السلك الدبلوماسي، فهل يظن أننا ننتظر منه شيئا بخل به علي أساتذته؟ وقد قدم لنا السفير الخلوق والأديب جمال محمد ابراهيم أبعاد وزوايا (ضبة) بأسلوب أدبي رشيق ومتجرد فلم نجد لسفير التمكين حينها ابن موسى ( طولاً ولا عرضاً ولا ارتفاعاً)!

عمر الطيب أبوروف

17 يناير 2022
/////////////////////

 

آراء