الشاعر الدبلوماسي المُكتمل بدراً ” سيد أحمد الحردلو”

 


 

 



abdallashiglini@hotmail.com
(1)
" رحيل شقَّ ثمرة الحُزن و جلس "
تذوقنا من تلك الثمرة ، عسيرة المنال بأشواكها في الماضي ، وصارت الآن مبذولة لكل أبناء وبنات حواء السودانية ،حين احتجبت جنان الأرض التي يصنعها البشر .  رحلت قامةٌ شاعرةٌ مُبدعةٌ  أخرى .وهبت الوطن ما يستحق إلى آخر نبضٍ رسم نغمه القلب قبل أن يصمُت . تلاحقت جموع المبدعين تطلب الخلاص . خرجت كلها تبتغي الرحيل من بؤس الحياة وانكشاف المصائر. إن تلك الرسائل الغامضة التي بثها رحيل زرافات المبدعين لفي حاجة إلى التفكيك وإعادة النظر والعبرة. لقد نضّر الشاعر الدبلوماسي الراحل أيام السودان بأكثر من رسالة وحمل على كتفيه ألف قضية . وأنار وجه الوطن في أماكن يضيء فيها المبدعون وجه وطنهم مشرقاً في كل سانحة في الزمان والمكان . بصمت حملوا المشاعِل وسقوها زيتاً من خمر دمائهم السلسبيل.
(2)
فقدنا الشاعر والدبلوماسي" سيد أحمد الحردلو " وهو ينتظم في رتل الشعراء والمبدعين وقد ذهبوا جميعاً إلى الغيبة الكُبرى . يسابقون الزمان على عجل  .فمنذ أواخر العام الماضي و مُقتبل العام الحالي تضجُ نفوسنا بالأسئلة :
-     لماذا هذا الرحيل الجماعي ؟
-     أهو الرحيل من مزرعة الحزن من بعد انشطار الوطن ،ومحاولته دون كلل القفز إلى المجهول ؟ .
(3)
ليس السؤال من عدم الرضا والقَبُول بمشيئة صاحب المُلك وسيد الأقدار والقابض الباسط الرحيم ذو الجلال والإكرام ، فله ننساق وفي رحابه نتمنى أن نكون ، فإليه يكدحُ الكادحون. إن الرحيل الجماعي قد ترك الغِربان  تعشش وتستريح و تنعق في بيوت الوطن وأطرافه في الأرياف وفي أشباه المدائن . غابت الأيادي الطيبة و غاب خُلُق التَسامُح والفأل.كأن الضروع قد جفّ عنها الحليب . والعافية قد رحلت تبحث عن أجسادٍ أُخر. لقد سكنت الأنفس الراضية وتوطدت عزائمها على حقيقة أن الموت أخف وطأةً من غيره .وأن لقاء المولى أحب وأبقى . وأن الوديعة تجول في دنيانا ولن تصل إلا إلى ما يريد واهب العزة و مالك الأرواح و مُسيِّر الأكوان جلّت قدرته. صارت النفوس إلى رحمته تشرئب راغبةً عن الدنيا، تلوذ  إليه في زمان ضاقت الأرض برحابتها و أحنت السماء قطوفها الدانية . والأجساد تُمهد للقائه كل سبيل. فالحياة صارت عسيرةً إن لم نقل مستحيلة . عبثَ الذين يحبون الحروب ويقتاتون من شرَّها ، حين تلاعبوا بمصائر البلاد وشعوبها واستلذوا بعذابات أهلها.كسروا منابت الأرزاق واستباحوا الخطوط الحُمر.إن هنالك أكثر من رسالة غامضة تقول إن الوطن يمُر بمحنة أكبر من السكوت عليها .
ليس الموت عُقاباً يحُط على رأس من تختاره المنيَّة  فيرحل . هنالك  أيدٍ خفيةٌ ظاهرةٌ  ، تأتزر بإزار الرحمة.. بلا رحمة !. سارت حثيثة الخُطى تتبعُ المشيئة سبباً ليكن الموت حقاً آخر المطاف .
أ هنالك من مهرب؟.
(4)
نعجبُ حين يتغير الجميع عندنا . لا يهزُّ مشاعرهم  نغم الوطنية  أو حسها الكثيف!. كأنها خارج دائرة الهموم ، فالجميع صار شغلهم الشاغل أنفسهم . كأن من أشعروا و تغنوا بالوطن والوطنية خارجون على الناموس.والحياة  في حبِ الوطن كأنها وهج زائف بَليَتْ نصاعته وفقد الضياء .وأصبحنا كأننا نُسوِّقُ بِضاعةً خاسرة  .
(5)
وحدهم الشعراء يستمسكون  بما ينبغي أن نكون عليه . ويحلمون بأن الوطن إلى شموخ آخر المطاف وأن الأمل قريبٌ ، ثماره تنضج ولو بعد حين . تمددت الوطنية في شرايين دمهم .يمشون حاسري الرأس عند كل بارقة تتوهج منذ صباح الوطن فيضيئون وجهه النضير بإكسير الفأل ويجعلون لحياتنا معنى. شاعرنا الراحل وأندادُه صاروا كالغرباء . وفي الأثر النبوي الكريم " طوبى للغرباء ...". وَهَجَهم وإن طال المسير إلى غايةٍ راشدة ، وإلى هدفٍ نبيل يسيرون  إليه لا يلوون على شيء  .
هنالك أسئلة من الصعب الحديث عنها  ونحن نقف عند جلال الفقد وطعم الرحيل ومُر حنظل الفراق ، لراحلٍ اجتمعت عنده رقة الشعر ولطافة المُعاشرة وخبرة العمل الدبلوماسي العام وتجويده وتفانيه عندما كان في موضع التمثيل الحق لصوت وطنه ومصلحة مواطنيه . تقديره  ومحبته لوطنٍ كان يحلم أن يراه زاهياً كما اشتهى. ودولة تأمَّلها تَسعى لتُصالِح أعراقَها وثقافاتَها ،لا أن تفرِق بينهم بخصومةٍ حارقةٍ كاويةٍ،تضرب المجتمع في أكثر المواضع رخاوة ، تُشتت شمله وتُجفف منابعه النديَّة.
(6)
ألف سلام عليك سيدي حين وُلدت وحين رحلت ، وحين تدخل بإذن مولاك سرادقات النعيم وترى بإذن مولاك ما لا عينٌ رأت ، وتسمعُ ما لا أذنٌ سمِعت ولا خطر على قلوبنا جميعاً.
عبد الله الشقليني
9 /6 / 2012

 

آراء