كلُ فوانيس الله مبللةٌ
ونُجومُكَ تلثغُ بالنوم
على أبواب الأبدية،
وأنا أرقبك أن تأتي
في غسق جنّ من الفيروز
مظفر النواب
(1)
أول ما سمعت عنه، كان كثير السفر، داخلياً، إلى غرب السودان أو خارجياً إلى جدة في المملكة السعودية. لا أحد يعرف بواطنه، كومة أسرار غامضة تلفه. يقولون إنه فقيه ومختص في العلاج بالأعشاب، ولكن لا أحد يعرف مع منْ يستخدم تلك الأعشاب. عرفنا أن جده لوالده هو الفقيه الشيخ" الصامت بالله" الأصل، الذي سُمي على اسمه، فذاك شيخ عُرف بتدريس القرآن في خلوته لتدريس الأطفال. مما عرفته كان يكبر والدي، وربما هو من مواليد أول القرن العشرين. درس القرآن في خلوة جده الفقيه "الصامت بالله "، الذي قدم من جزيرة "مقرات" قرب "أبو حمد" في الشمالية. لا أحد يعرف هل أكمل المدرسة الابتدائية، أم قرأ سنتين في المرحلة المتوسطة؟، ولكنه يقرأ الصحف اليومية بطلاقة، ويحفظ سوراً من القرآن الكريم، ويقرأها.
لا أحد من الأعمام قد بلغ سنه. تجول في غرب السودان ما شاء له الترحال. يقولون كان طبيباً شعبياً، أو شامانياً. يحمل معه حقيبة السفر وأخرى سوداء ضخمة، فيها علب تحتوي بعض الأعشاب، التي اشتراها من متجر العطارين في سوق " التيمان" بأم درمان. يسافر إلى قرى وأشباه المدائن في كردفان ودارفور. يعالج المرضى، ويأتي ببعض أعشاب التداوي من هناك، وطرائق خلطها وطرق تقديمها، والأمراض التي تُعالِج. مرة صنَّع صابون غسيل بني اللون بني غامق في البيت! ، اشترته بعض النسوة لغسيل الصحون القديمة.
(2)
مرة استدعاني أحد الأعمام في سبعينات القرن العشرين، لحضور جلسة تحضير الأرواح بمنزل "الشيخ الصامت بالله" خلال أحد المساءات. حضرت وكان له في بيته غرفة تفتح على الزقاق. حضرتُ مع الأعمام: "قاسم مضوي" و"محمد خير الحسن" و"عثمان الحاج" و"عبد القادر الطريفي". وجدنا صندوق يشبه كرتون حفظ صابون الغسيل 40 سم طولx 30 سم عرض x 30 سم ارتفاع . وهو بكل أجزائه ولكنه مفرغ من جانبه السفلي، ومنكفئ على الجزء المفرغ. وقد ثبت "الشيخ الصامت بالله" على أحد أطرافه مكان الفتحة قلم رصاص. وطلب "الشيخ الصامت بالله" أن يمسك أربعة من الحضور بأطراف الصندوق، كل واحد من طرف، ويرتفع قليلاً عن المنضدة، ووضع ورقة بيضاء فوق المنضدة، بحيث يرتفع الصندوق المقلوب عليها والقلم موجه إلى الورقة.
طلب الشيخ "الصامت بالله" ألا يخاف الرجال الممسكون بالصندوق. وأحضر الشيخ مبخراً ووضع فيه لبان ذكر وجمرتان. وبدأ يقرأ الفاتحة وسورة الناس والفلق. و أظلم الغرفة، وأحضر نوراً من بطارية موجهة إلى الورقة. وقال الشيخ بأننا سوف نستحضر روح أحد الموتى، وكان أن اختار صديقاً قد رحل يعرفه الجميع.
وبدأ الشيخ يسرد تعاويذه غير المفهومة، مدة من الزمن، وطلب من الروح الحضور. وقال إن حضور الروح سوف يثقل على حملة الصندوق. ثم سأل الروح عن اسمها: روح الراحل ( حسن التوم). وبدأ الصندوق يتحرك، وصار القلم يلتصق بالورقة على المنضدة، وبدت أشكال غير محددة في الورقة، فظهرت كتابة مبهمة وأحرف مموهة. وكان المناخ جذاباً، وغامضاً و موحياً، وقرأ الشيخ من الورقة معلومات عن الراحل، ودُهش الحضور!.
(3)
انتقل الشيخ "الصامت بالله" إلى الحارة العاشرة من مدينة الثورة بأم درمان، عند أول سبعينات القرن العشرين، بعد أن بنى بيته. ونشأت بينه وبين "مصطفى طه" قريبه، علاقة متينة، فمصطفى يسكن الحارة الرابعة. بنى الشيخ "الصامت بالله" غرفة في طرف البيت، تفتح على الشارع. مبنية من الطوب الأحمر ومطلية بالرمل مخلوطاً بالإسمنت، وتلك تسمى "قشرة" يتم تنفيذها بقطع من جوال الخيش يمرر على الخليط ثم الحائط الخارجي. والغرفة مسقوفة بالزنك، مع سقف معلق من الماسونيات. علّق الشيخ جلد فهد ورأسه في كامل التحنيط بسلك على ارتفاع تشاهده فوقك حين تنظر، وفرش بساطاً سميكاً من السجاد وعليه مساند متفرقة. وجمعت الغرفة كل الغرائب التي جمعها من سفره من دارفور وكردفان. له كتب صفراء غريبة عن تحضير الجن المسلمين، والدرر اللمّاعة في تحضير الجان في الوقت والساعة، وكتب صفراء أخرى. ولدى "الشيخ الصامت بالله" كتب في علم النفس كتبها نخبة من الأقدمين، تساعده في توصيل الإيحاءات.
ولديه قنينات زجاجية تحوي: لحاء شجر الصفصاف و الكركدى، الحرجل، والمحريب، السمسم، الدُخن، والشاي الأخضر، والعرديب، ثمر الدوم ، وغيرهم مما لا يعرفه الناس. تأتيه الزبونات نهاراً للعلاج كل يوم. يستعمل الأعشاب الطبية كالثّوم والبصل والخزامى والزّعتر، والنعناع والأزير والحبق والمردقوش و الزعرور والبابنوج والزّيزفون و القرّاص, والشّيبة والرّمّان, والسّفرجل، و أهداب الذّرة والعطرسة، والورد الوردي والصّبّار والشّعير والعسل، ولبان ذكر وغيرهم كثير.
(4)
نشأت علاقة غريبة بين الشيخ "الصامت بالله" وقريبه "مصطفى طه"، لقد كان " مصطفى" يأتي ليلاً كل يوم اثنين وخميس بدراجة، وميقات حضوره بعد صلاة العشاء، ويطرق باب الغرفة الخارجي، ويدخل ويجلس مع الشيخ" الصامت بالله". "مصطفى" يجلب معه كيساً بلاستيكياً سميكاً به قنب هندي، ويستخدم ورق "البرنسيس" مع خلطة من تبغ سجائر البرنجي، ويدخّن في غرفة الشيخ "الصامت بالله "، ويستأنسان . لقد أفتى له الشيخ " الصامت" بشراب القنب الهندي، وأخبره أن قليله يقوى الباه، ويجلي الفكر، وكثير كل شيء يفسده.
بعد أن يقضيا بعض الوقت، يسمع الشيخ طرقات يعرفها من باب الغرفة الداخلي، وتدخل الحافظة بالشاي الحليب " المقنّن" ومعه الكبايات الزجاجية الملونة، وصحائف اللقيمات المغمسة في العسل اليماني. يشربان ويأكلان أثناء سرد الحكايات.
يحكي الشيخ" الصامت بالله" عن سفرته الأخيرة للمملكة، وكيف تعرف على مواطن اسمه "زعيتر المحمودي"، وكيف أصبح الشيخ "الصامت بالله" و"زعيتر" شريكان في سلعة الزبائن السريّة من الخواص، حين تستدرجهم الغرائب التي يحبونها و تستوي الرغبات عند نار الطلب، وكانا يصطادان الأسر التي ترغب في زيادة المواليد الذكور، أو الأعشاب التي تمنح متعاطيها قدرة جنسية إضافية. وهكذا يتم الصيد ويخرج الشيخ "الصامت بالله" بمال كثير من تلك التجارة الممنوعة، يتسوق ثم ويرجع إلى وطنه.
أما حكايات "مصطفى" فكانت عن محل نجارته بالحارة الرابعة في مدينة الثورة، وكيف كان يشتري الأخشاب من زرائب بمنطقة العرضة بأم درمان، المطلة على "خور أبو عنجة"، و يسرد كيف أغرته تلك الزيارات بشراء كميات من أعواد الطلح والشاف، الذي تشتريه النسوة لعمل جلسات الدخان ( الساونا الشعبية )، وصارت له سوق رابحة. و يسرد كيف تقود تجارة الأخشاب إلى سماع القصص وأسرار الحواري والأحياء: زواج "نفيسة" من الصايغ "حسن مرقوط"، كزوجة ثانية، وكيف أنها تغش الصائغ نهاراً. أو حكاية "فاطمة بت النهرين"، وكيف زوجت ابنتها "محاسن" لرجل مغترب في الإمارات، و سافر بعد الزواج وانقطع خبره. وكيف كان "مصطفى" يستفيد من تلك القصص في تحقيق رغباته الخاصة. ويحكي للشيخ "الصامت بالله" أنه أصبح دونجوان عصره. وكيف صار يتكسب من تجارته تلك، ومن محل النجارة في إصلاح خزانات الخشب الكبيرة التقليدية، وإصلاح خزانات أدوات المطبخ الخشبية، وإصلاح كراسي الجلوس الخشبية الفخمة أو أسرّة النوم.
(5)
في كل مساء يقضي "مصطفى" ساعتين إلى ثلاث ساعات مع الشيخ "الصامت بالله"، يستأنس ويدخن سيجارتين من حشيش القنب. وخلال استئناسهما يتبادلان أخبار الحي القديم في " العباسية "، أخبار الموتى والمآتم وأخبار المرضى، أما أخبار الزيجات وحفلات الختان، فلا يحفلان بهما، لأن زمانهما وعمرهما قد تجاوز كل ذلك، فالشيخ "الصامت بالله" قد بلغ الخامسة والسبعين من العمر، وبلغ "مصطفى" السبعين. أبناء الشيخ "الصامت بالله" الذكور في أمريكا، وله ابنة واحدة تزوجت وسكنت مع زوجها في جزيرة توتي، أما "مصطفى" فهو متزوج و لكنه عاقر، وامرأته تحبه ولن تستطيع فراقه، لأنه كما يصف نفسه، صاحب جولة وصولة كل يوم قبل النوم.
حضرت لزيارة طبيعية لأسرة" الشيخ الصامت" ذات يوم، وبعد قضاء وقتي سألت عن " الشيخ الصامت" وعرفت بوجوده في الغرفة الخارجية. وصادف زيارتي وجود " مصطفى طه". دخلت عليهما، أحسست بأنهما لا يرغبان أن تطول زيارتي. وقد أحسا مسبقاً بأنني لا أتقبل الأمور على عواهنها، وأن أي معلومة يتعين أن تدخل عقلي أولاً، وتنتظر في الصف إلى أن يحين هضمها، وهذا لا يرضي الشيخ أو رفيقه. شربت شاي الضيافة وغادرت، قبل أن يبدأ مصطفى طقوس إعداد سجارته ( الخضراء).
عبدالله الشقليني
8 أغسطس 2019
alshiglini@gmail.com