الشيخ الصعيدي وقضية الحرية

 


 

 

نحن هنا بإزاء العديد من الأفكار الجريئة التي طرحها الشيخ الأزهري المجدد المستنير، عبد المتعال الصعيدي، في القضايا الفقهية المتعلقة بموضوع الحرية، وهي أفكار تهدف لتحقيق كرامة الإنسان والتخلص من قيود الجمود الفكري التي رانت على العقل المسلم منذ عدة قرون.
الشيخ الصعيدي، الذي لم يجد حظه المقدر والمستحق من الشهرة والإنتشار، يعتبر أحد التلاميذ النجباء في مدرسة الإمام محمد عبده، وقد انصب نهجه الإصلاحي في تجديد الخطاب الديني حيث قدّم العديد من الأطروحات النقدية التي خالفت الشائع والثابت في حقل الفكر الإسلامي.
تعتبر قضية الحرية في جميع نواحيها من أبرز القضايا التي عالجها الشيخ الصعيدي بجرأة شديدة غير آبه بالآراء السائدة في زمنه (1894-1966)، وهو الأمر الذي دفع بالأزهر لمصادرة كتابه “الحرية الدينية في الإسلام” قبل أن يعود مجمع البحوث ليجيزه للنشر في وقت لاحق.
نظر الشيخ الصعيدي للحرية بوصفها حقا مطلقا منحه الخالق للمخلوق، فلا يحق لأحد أن يصادر حريته في الفكر والتعبير، ولا أن يكرهه على اعتقاد أو رأي، ولا أن يصادر حقه في الاعتراض والنقد. وهي عنده تنقسم لثلاثة فروع: حرية دينية، وعلمية، وسياسية.
أما الحرية الدينية فهي في نظره عبارة عن (حق الإنسان في اختيار عقيدته الدينية، فلا سلطان لأحد من الناس عليه فيما يعتقده. فهو حر في أن يعتقد ما يشاء أو لا يعتقد في شيء أصلا، كما أن له الحرية إذا اعتقد في شيء أن يرجع عن اعتقاده، وله أن يدعو من يشاء إلى اعتقاد ما يعتقده في حدود ما تبيحه حرية الاعتقاد من الدعوة إلى ما يعتقد بالتي هي أحسن).
موقف الشيخ الصعيدي من الحرية الدينية بوصفها حقا عاما في الاسلام لجميع الناس على اختلاف مللهم ونحلهم، من أهل كتاب، وممن لهم شبهة كتاب، ومن مشركين، ومن ملحدين، وممن يتفرع من هذه الأصناف بالغا ما بلغ أمرهم، جعله يطرح اجتهادا متقدما في عصره حول قضية “الردة”، حيث أتى برأي مخالف لرأي الجمهور الذي طالب بمعاقبة (قتل) المرتد أو استتابته أبدا.
في هذا الإطار يقول الشيخ الصعيدي (ولا شك أن القول بأن المرتد يستتاب أبداً ولا يقتل أنسب من غيره بما جاء به الإسلام من الحرية الدينية، وأنسب منه ما ذهبنا إليه من أن المرتد لا يكره على الإسلام بقتل ولا بسجن ولا بنحوهما من وسائل الإكراه، وإنما يُدعى إلى العودة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، كما يدعى غيره ممن لم يسبق له إسلام بهذه الوسيلة أيضاً، فإن أجاب فبها، وإلا لم يكن جزاؤه إلا العقاب على ردته في الآخرة).
ويؤكد أن (القرآن قد نفى الإكراه على الدين نفيا عاما وصريحا في قوله تعالى “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”، وقوله عز وجل: “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، فهذا نفي مطلق للإكراه في الدين، فيجب أن يدخل فيه من أسلم ثم ارتد، كما يدخل فيه من لم يسلم أصلا).
أما الحرية العلمية فيعرفها الشيخ الصعيدي بأنها (إطلاق سلطان العلم فوق كل سلطان، لأنه يعتمد في سلطته على العقل، وقد خلق الله العقل ليميّزنا به على جميع مخلوقاته، فإذا أهملنا الاعتماد عليه، لم يكن هناك معنى لخلقه فينا. وفعل الله سبحانه يتنزه عن العبث، فكل ما خلقه له حكمته التي لا بد من استعماله فيها، تحقيقا لمعنى هذه الحكمة، وتنزيها لفعله تعالى عن العبث).
نكاد نلمح في كلمات الشيخ الصعيدي أعلاه أثر المدرسة الإسلامية الأكثر إعلاءً لشأن العقل ــ المعتزلة، إذ أنَّ أهل العدل والتوحيد كانوا أول من اعترض على النقل الأعمى للنصوص وعدم إعمال العقل في قراءة القرآن والسنة والتفكر في العقيدة الإسلامية. وقالوا إنَّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال عن الحرام بشكل تلقائي.
إن أكبر مشكلات الفكر الإسلامي التي أدت لخلق ومفاقمة حالة الجمود الحضاري تتمثل في وضع العقل في تضاد مع النقل، حيث دخلت الحضارة الإسلامية طور الغيبوبة منذ أن تم احراق نتاج بن رشد الفلسفي، ابن رشد الذي شرح أسس منهج “الملاحظة والاستقراء” الذي بُنيت عليه العلوم الحديثة تم تجاهله والتشهير به. الفلسفة نفسها تم احتقارها وتحريم الاشتغال بها، ووضعت كتبها في مرتبة واحدة مع كتب التنجيم والشعوذة.
أما الحرية السياسية فإن الشيخ الصعيدي يعرفها بأنها (احترام رأي الفرد في التعبير عن ذاته، بحيث لا تضيع شخصيته في شخصية الحاكم، بل يكون لرأيه سلطان، فيما يراه ولو تعلق بشخص الحاكم نفسه، فيكون له الحق في معارضة اختياره ابتداء في إسناد الحكم إليه، وفي نقده بالوسائل النزيهة في النقد. ويجب أن يبرز سلطان الدين أيضا، فيقف بجانب الفرد في هذا الحق، حتى لا يكون للحاكم عنده سلطان فوق كل سلطان، بل يكون شأنه في ذلك شأن كل فرد، حتى لا يستبد وحده بالسلطان، وحتى لا يسير في الحكم بالظلم والطغيان).
انحياز الشيخ الصعيدي الواضح للفرد في مواجهة السلطان ومنحه الحق الأصيل في اختيار الحاكم ونقد ممارسته للحكم من شأنه أن يكسر حلقة الاستبداد الجهنمية التي ظلت تعاني منها المجتمعات الإسلامية لقرون متطاولة من الزمان، وهي الحلقة التي رسختها مفاهيم السمع والطاعة التي أنتجتها مؤسسة الفقه المنحازة للسلطان.
إن الرضوح المطلق للحاكم هو في حقيقته تصور عقلي أنتجته عقيدة “الجبر والإرجاء” في الفكر الإسلامي، وهي العقيدة التي وضع عمادها الأول مؤسس دولة بني أمية معاوية بن أبي سفيان عبر ترسيخ مفهوم “القضاء والقدر”، وثبَّت ركنها الثاني الخليفة مروان بن الحكم عبر إرساء مفهوم “الطاعة”.
تذهب عقيدة الجبر إلى أن جميع ما يقع من أفعال إنما هو بقَدَرِ الله تعالى، وأن الإنسان كالريشة في مهب الريح، لا فعل له على الحقيقة إلا الاستسلام لذلك القدر، وأن الملوك الظلمة هم عقابٌ من الله وإنما ظلمهم وبطشهم ما هو إلا شيء خارج عن إرادتهم.
ويرتبطُ الإرجاء ارتباطا وثيقا بالجبر، فهو يُفيد بأن الخلفاء والأمراء مهما استحلوا من المحرمات وفعلوا من الموبقات وارتكبوا من الانحرافات فإنهم لا يخرجون من دائرة الإسلام ما داموا يُقرُّون بالشهادتين، وأن حسابهم والحكم عليهم يجب أن يُرجأ إلى يوم القيامة.
رسخت هذه العقائد في عقول الناس، وشكلت قيمهم الأخلاقية طوال 88 عاماً هي عمر الدولة الأموية، ومن ثم التقطها خلفاء بني العباس، وأضافوا إليها بعداً أعمق من القداسة الدينية. فما أن اعتلى “أبو جعفر المنصور” كرسي السُّلطة حتى خاطب الناس بالقول: (إنما أنا سُلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على مالٍ أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطي بإذنه، وجعلني قِفلاً إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسمة أرزاقكم وإن شاء أن يقفلني أقفلني).
أحدث إقحام الشأن المُقدَّس في أمور الدنيا للدرجة التي أضحى فيها الخليفة يمثل سلطان الله في الأرض، بجانب شيوع الجبر والإرجاء، تحولات عميقة في بنية الأخلاق بحيث استقرت “الطاعة” كقيمة حاسمة و مُحددِّة لعلاقة الحاكم بالمحكوم، كما أضحت محاسبة الخلفاء أمراً متروكاً ليوم القيامة واكتفى رجال الدين من الفقهاء بالمناصحة كسقف أعلى في مُجابهة انحرافات السلاطين والأمراء والخلفاء.
لا شك أن آراء الشيخ الصعيدي، ومن بينها نظرته لقضية الحرية، تمثل اجتهادا متقدما يركز على الإنسان بوصفه مناط الدين، وهي آراء لم تجد حظها اللائق من الذيوع بسبب الجمود الذي أصاب المجتمعات العربية والإسلامية ومؤسسات التعليم الديني ومن بينها الأزهر الشريف الذي ضاق بأفكاره الجريئة وشكل له لجنة للتحقيق طالب أحد أعضائها بتكفيره واستتابته كما يُستتاب المرتد.
نقلاً عن الحرة

 

آراء