الشيخ: محمد الإدريسي ، طيب الله ثراه

 


 

 

abdallashiglini@hotmail.com

قبس من نعيم الراحل :

الشيخ: محمد الإدريسي ، طيب الله ثراه .

 

لن تهرب من وهج لقائه .

يقولون : {من استأذن على الله أُذن له ، ومن قرع باب الله دخل . }

ويقولون : { معرفة الله روضة من رياض العقل . }

ويقولون : { أيها البائح والسامع النائح ، كيف أنفك عن وجدي بمن أوجدني بوجدي ؟ } .

ـ هذا ابني عبد الله .

   هكذا قدمني والدي يعرفني به .

    مددتُ يدي ، وأمسكت يده وتطلعت إلى الوجه . كوكب دري يتوهج طمأنينة وسكينة ، رضى وسلام . الجلباب ينضح شمساً مشرقة ، وبياضاً خفاقاً . فوق الأنف المعقوف تطلعت عيناي .وصعدت إلى أعلى ، العمامة كست قمة رأسه . وتحتها الجبين يضيء ،وتحت الجبين العينان بحيرتا ماءٍ يتلألأن . نظرة أبٍ حانٍ ، يلُفك لطافة . تقول لنفسك المضطربة هنا مسكنكِ الدافئ . تعالي أيتها النفيسة وأحتمي صدري من العواصف الكالحة . ترمي أنت أحمالك من خلف ظهرك ، فقد فتنك الحضور الوهاج .

ـ أهلاً بُنيَ .

   صفاء أخاذ ، يأسرك رغماً عنك . حاولت جاهداً ، وأفقت على صوت يناديني، ثم استأذنت انصرفت بين المقاعد تحت السرادق  ، ولم يزل القلب معلّقاً . كان حضوره اليوم لعقد قران شقيقتي الكُبرى ، فالعام سبعاً وسبعين وتسعمائة وألف من الميلاد .

    مرة طلبني والدي :

ـ أتوصلني مسجد السيد الإدريسي بالموردة .

ـ نعم ، أي وقت تحب ؟

ـ بعد صلاة المغرب . أفضِل أن أصلي العشاء هناك .

     عند البوابة توقفنا .

ـ أتذهب معي ؟ . تلقى الشيخ محمد الإدريسي ، ومتى رغبت تستأذن . تلك دار من ديار العِلم ، لن تندم .

     بعد إصراره ، سرت معه وأنا أسقط من حساباتي المواعيد المسبقة واحداً ، واحداً . استقبلنا الشيخ / محمد الإدريسي عند مقدمنا بالترحاب  كمن يترقب حضورنا . أخذ والدي في حضنه ، وأجلسنا بجواره . تجولت بناظريَّ : تلك حلقتي تفسير ، وثالثة تجويد . خاطبني الشيخ قائلاً :

ـ سعدنا اليوم بمقدمك ألينا . يحدثني والدك عنك كثيراً ، فمحبة الوالد نعمة من نعم الله . مرحباً بك كل يوم وكل وقت .

    أين المهرب ، جلست . صديقي( عمر ) سوف ينتظر ، و(قاسم ) بجاذبيته يتخطف قلوب الصغار ، ولن يتذكر موعدي معه . انقضى المساء  وأنا بين الضيافة هانئاً إلى أن تحينت الوقت المناسب . استأذنا وعدنا أدراجنا من أمسية يلفها الوقار وأبخرة الأدعية تعطر المكان من حولنا  تسترجي أن نبقى أكثر.

     ذات مرة سألني والدي :

ـ أتزور مجلس السادة الأدارسة بالموردة ، وقد سكنت جوارهم ؟

ـ بما تيسر ، ولكن لِمَ السؤال ؟

ـ سألت الشيخ محمد مرة عنك ، فقال لي أنه شاهدك مرة واحدة قبل أشهر . وكنت أنت ضمن جماعة حضرت المسجد برفقة جثمان ، وصليتم الجنازة ومنذ التاريخ لم يشهدك .

    قلت متعجباً :

 ـ كيف تذكرني إذ أنني حضرت ضمن جموع من البشر !.

   فقال :

ـ ألم تسمع بالقول الكريم :

( أحذروا فراسة المؤمن ، إنه يرى بنور الله ) ؟

 فأجبت مسترسلاً :

ـ نعم سمعت . أنا أحضر  ( الحولّية ) وأعياد المولد النبوي مع الطفلتين . أشتري لهما الحلوى من الباعة على أطراف الباحة أمام المسجد . حولنا الأذكار من كل طيف فرقة . تشير الطفلة الكبرى على الأجساد تتمايل على إيقاع الأذكار متعجبة . الطبول تدوي ، وتموه كلمات الإنشاد فلا تكاد تتبين ملامحها . لكل طائفة إيقاع ونغم إنشادي متفرد . يبدأ الإيقاع بطيئاً : ( الشَتَّّم ) يسأل ، والدفوف ثم الطبول تجيب . الأصابع ترسم الحلي في الصولفيج الإيقاعي الفخم . هكذا تسربلت الأطياف تنهل من بركة الذكر المحمدي ، وتضفي عليه من حلاوة الموروث الأفريقي ، الموغل في القدم .

   حدثت نفسي :

    { كيف يا تُرى اختلط أدب الشعب وفنه بأهازيج الأذكار ، وما تلبسه من وحي العقيدة ، وأجسادها اللطيفة تتغمص الغاطسين في بحور الذكر ؟. المسابح تطوق الرقاب ، والجلابيب تتموج من تحتها الأجساد . يقولون إن تمارين الأجساد ، وإجهادها يفُك أسر النفس ويحررها من قلقها. يتلاشى الوعي خطوة ، خطوة ، حتى تدخل  إيحاء ( الجذب ) . الروح تذكر ، وتسكر من طرب الإنشاد . تصعد الخيالات تطلب المحبة والعشق المحمدي . الإيحاء يتكثف ، فتتسامى روحك إلى عوالم تنسيك أين أنت ومن تكون.}

    أين يا ترى شيخنا ؟

     إنه عند كل لمحة ونفسٍ ، أنت تبصره بين الجموع . لا تُخطئه أنت ، ولا يخطئك نظره . يلقاك بالترحاب ، يلفك وهجه . أنت ومن معك اليوم ضيوف لديه ، ونعم هو المُضيف . من يجلس بقربه يستأنس . تقف أنت في وسط البحر ، ترى المراكب تغرق . فظاهر البحر ضوء لا يُبلَغ ، وقعره ظلمة تستوجب صبراً قبل أن تلتمس ناراً فتجلي كنوزه ، حتى يدفعك الموج إلى ساحل آمن وأنت لا تدري ، فتبدأ الذاكرة في وهج حضوره تتفجر . لا يحضرنك حينها في مجلسه  إلا لطائف من تراث الماضي ، وتذكر أنت قول ( ذو النون المصري ) في الحب الإلهي :

أموت وما ماتت إليك صبابتي

ولا قضيت من صدق حبك أوتاري

مناي ، المُنى كل المنى أنت لي منى

وأنت الغنى كل الغنى عند اقتداري

فنلني بعفوك منك أحيا بقربه

أغثني بيسرٍ منك يطرد إعساري

 وتذكر أنتَ ( القشيري ) إذ يروي عن (أبي حمزة الخراساني ) في الحب الإلهي    فيقول :

أهابك أن أبدي إليك الذي أخفي

وسرَىَ يبدي ما يقول له طرفي

نهاني حيائي أن أكتم الهوى

وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف

تلطفت في أمري فأبديت شاهدي

إلى غائبي واللطف يدرك باللطف

أراك وبي هيبة لك وحشة

فتؤنسني باللطف منك وبالعطف

   

   فلتهنأ روح شيخنا في عوالمها البهية بإذنه تعالى . نور على نور من فوق صفحة الجنان الباسقة ، تروي ظمأها من الوعد المُتْرَف . فلم نزل نحن في دنيانا نشتَّم من نعيم رياحينه العطرة ، تلثم الأرجاء  التي كان يطوف . تسكرنا من أريجها الفواح .

      رحمه الله رحمة واسعة ، وأفسح له من جنانه الوارفات ، نفحة سرمدية  تزهر قبره .

 

                                           عبد الله الشقليني

                                           27/07/2004

 

آراء