اعتبر الانقلاب العسكري في يوم الأحد 17 نوفمبر 1958، بلا أدنى مواربة ان الفعل الحزبي السياسي، والاداء الصحافي، دافعه الأساسي لإيقاف احداث الفوضى العارمة في البلاد آنذاك، وأنهما السبب الرئيسي في تحريض الجيش لإحداث التغيير عبر الانقلاب العسكري على النظام الديمقراطي الوليد في السودان. فاليوم (الخميس) تمر علينا الذكرى الثامنة والخمسين من ذاكم الانقلاب العسكري الذي شكك بعض السياسيين السودانيين في حقيقة انه انقلاب عسكري، وأوردوا روايات تاريخية مختلفة في كيفية تسنمه السلطة في البلاد، بعد 34 شهرا وستة عشر يوما من الاستقلال في الاول من يناير 1956. فلذلك لم يتردد انقلاب الرئيس ابراهيم عبود بعد تعطيله للأحزاب السياسية، ان يضمن في الفقرة نفسها، قراره المتعلق بتعطيل الصحافة أيضا، في البيان الاول للانقلاب العسكري. والملحظ المهم، في البيان الاول للانقلاب العسكري النوفمبري، الذي أعلنه الرئيس ابراهيم عبود انه كان قصيرا، وخص الصحافة بعبارات قاسيات، ووجه لها كثير اتهامات. إذ اعتبرها أصل الفساد، وأس البلوى، معتبرا جرم الساسة لا يقل عن جرم الصحافة، في تبرير الانقلاب. وذهب ذاكم البيان الانقلابي الى ابعد من ذلك، في تجريم الصحافة وقتذاك. فقد أعلن البيان الانقلابي في حيثيات تبريره للاستيلاء على السلطة بالقوة عن طريق الجيش، أمرين، هما: الاول: استغلال الصحف. والثاني: الاتصال بالسفارات الأجنبية. وأوضح البيان للشعب ان الصحافة اس البلاء السياسي في البلاد، بحجية انها أفردت صفحاتها لفاحش القول السياسي من الحزبين المتصارعين، مشيرا الى انه قد تساوى في ذلك، الصحافة والصحافيون مع الساسة الحزبيين في إحداث الفوضى السياسية في البلاد. والملفت للانتباه، على الرغم من إظهار الانقلاب العسكري النوفمبري، العداء السافر للصحافة والصحافيين، الا انه لم يكن غائبا عن ذهن قيادات الانقلاب العسكري، أهمية الصحافة، ودورها الفاعل في تشكيل الرأي العام، وإسهامها الخطير في تشكيل تضاريس الخارطة السياسية السودانية آنذاك. فلا غرو ان سارع الانقلابيون الى تأكيد خطورة الصحافة في إحداث الفوضى في البلاد، فكان اول لقاء بين الفريق ابراهيم عبود رئيس المجلس العسكري الأعلى والنقابات المهنية، مع نقابة الصحافيين مساء يوم الأحد 17 نوفمبر 1958، أي في يوم الانقلاب نفسه، ليعلمهم بامر السماح للصحف غير الحزبية بالصدور، ولكن في ظل ممنوعات عدة، ومحاذير معينة منها، الا يكتبوا شيئا عن سياسة الحكومة، ولا يعلقوا على أعمالها وقرارتها. والا ينتقدوا أعمالها في الأمور الداخلية والخارجية. والا يكتبوا عن الأحزاب او الطوائف. والا يعلقوا او ينتقدوا سياسات الدول الاخرى. وقرأت تعليقا لطيفا في هذا الخصوص، للأخ الصديق الدكتور محمود قلندر – رد الله غربته - على هذه الفرامانات النوفمبرية، "كانت تلك اول الموانع الدراكونية التي رسم بها جنرالات نوفمبر خط علاقتهم بالصحافة. وصار ذلك المنع مثار سخرية الصحافيين لأنهم لم يعرفوا ماذا تبقى لهم ليتناولوه، خبرا او تحليلا، بعد ان حرمت عليهم افعال الحكومة". اخلص الى انه، على الرغم من القسوة والصرامة التي واجه بها نظام الرئيس ابراهيم عبود، الصحافة والصحافيين، الا انه مارس معها في بعض الإحايين، قدرا من اللين والملاطفة، بانتهاج اُسلوب القوة الناعمة التي رسخ معالمها محمد عامر بشير فوراوي وكيل وزارة الإستعلامات في عهد عبود. ولما كان فوراوي من الصحافيين الرواد في صحيفة "استار" البريطانية، وتسنم وكالة وزارة الإستعلامات، في عهد الرئيس عبود، عالج قضايا الصحافة والإعلام، بصورة مختلفة، مما مكنه من تحقيق بعض الإنجازات المهمة في مجالات الصحافة والإعلام، منها استخدام القوة الناعمة في معالجة اشكاليات الصحافة وقضاياها. وشهد عهده في الوزارة تطوير البث الاذاعي، وادخال التلفزيون، وتطوير الاعمال السينمائية. وجعل فوراوي من علاقته مع الصحافيين، وزارة الإستعلامات هي جهة المنح، وليس المنع في تعاملها مع الصحافة. لكن القوة الغاشمة التي كانت تمثلها وزارة الداخلية، لم تألو جهدا في تعكير صفو هذه العلاقة بين نظام عبود والصحافة التي أرست صفوها القوة الناعمة، المتمثّلة في وزارة الاستعلامات. كانت وزارة الداخلية اكثر حذرا من الصحافة والصحافيين، عندما صارت لها اليد الطولي في التعامل مع الصحافة والصحافيين، فساعدها في ذلك، تعديل الدولة لقانون الصحافة لعام 1930، الذي كرس سلطات وصلاحيات التعامل مع الصحافة والصحافيين في وزارة الداخلية، ونزعتها من وزارة الإستعلامات. وتم تكوين لجنة الصحافة في وزارة الداخلية، وصار من سلطاتها وصلاحياتها التصديق او الرفض بشأن الصحف، وحق إيقاف او مصادرة الصحف، وفرض العقوبات عليها، وانزال العقاب على الصحافيين. احسب ان ذلك، ساهم في ان اوغرت هذه القوة الغاشمة صدر الصحافة والصحافيين على نظام عبود، فكانت في صدارة مشهد ثورة 21 أكتوبر 1964التي أطاحت بنظام الرئيس ابراهيم عبود. واظن – وليس كل الظن إثما – أنه من الضروري، أن نستغل مثل هذه المناسبات في تسليط الضوء على جوانب مهمة في تاريخ الصحافة السودانية، على الرغم من ان هنالك جهودا مقدرة بذلت في هذا السبيل، منها الكتب التي ألقت بعضا من الإضاءات النيرات في هذا الصدد، ومن أهمها، كتاب "الصحافة السودانية في نصف قرن" للاستاذ محجوب محمد صالح رئيس تحرير صحيفة الأيام. اذكر أني التقيته في لندن قبل بضع سنين، فسألته عن لماذا اكتفى بالجزء الاول من هذا الكتاب، ولم يواصل كتابة أجزاء أخرى منه، فتعلل ببعض شواغل الحياة ومشاغلها. ولكن ما زلت عند رايي أنه من الضروري ان يفك الأستاذ محجوب محمد صالح أسر الجزء الثاني في القريب المنظور. وإني1 اعلم ان في جعبته الكثير من الإضاءات عن تاريخ الصحافة السودانية، فهو قد بدأ ممارستها منذ عام 1949، حتى يوم الناس هذا. وكتاب "Press and Politics in Sudan" للدكتور محجوب مالك، وكتاب عن تاريخ الصحافة السودانية،عبارة عن رسالة دكتوراه للدكتور صلاح عبد اللطيف مدير وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية بالسودان في ثمانينات القرن الماضي،ورسالة دكتواره بعنوان "Mass Media and Development in Sudan" للدكتور بشير صالح، وهذه الكتب من المصادر المهمة في هذا الصدد.