الصحافة وحكايات العنف ضد النساء

 


 

رباح الصادق
6 December, 2009

 

بسم الله الرحيم الرحيم

Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]

العنف ضد المرأة في السودان دخل مرحلة حرجة من مراحل تاريخه الذي أزعم أنه أقل من دول كثيرة شقيقة، ولكن يبدو أنه وبأيدي وأقلام كثيرة سيصير العنف المادي والمعنوي للنساء هو الدارج، على عكس ماض قريب كان أخو الأخوات، ويسمعن، وما إليه من معان تجعل النساء في مكان مرعي ولو بتمييز ضدهن كان هو السائد.. الآن نحن ندخل عصرا جديدا.. وعار علينا الصمت على ذلك التردي بدون أن ندق كل الأجراس، ونرفض.

كل يوم وقائمتنا تطول، قائمة العنف المادي شملت مرام وإنعام وسناء وعايدة وإشراقة و و، من الختان حتى الموت، لماء النار للتشويه، بل القتل ذاته للتي ترفض الزواج منك. قائمة العنف المعنوي تصدرتها لبنى ثم رشا وأخيرا ناهد.. ونود أن نتبادل حول حادث ناهد هذا الأخير ونلج عبرها لقضايا وأفكار تهم النساء والجسد والعنف ضد المرأة ودور الصحافة فيها.

وأصل الحكاية أن الدكتورة ناهد محمد الحسن عقبت على عمود للكاتب الصحفي التليد والقاص الأستاذ هاشم كرار والمقال كان بعنوان: وراك يا بت لوبيز بتاريخ 11/11 الماضي. وقد نشر إلى جوار مقالة كتبتها الأستاذة رشا عوض ذلك اليوم تعقيبا على مقالة هجومية منحدرة المنطق واللغة بلغت الأقاصي في العنف ضد النساء وضدها، ولذلك برأيي مثلت مقالة الأستاذ هاشم يومها شكلا من التضاد مع المقالة المجاورة ومذكرة بما أقض مضجع الكاتبة. صحيح أن الأستاذ هاشم لم يرم امرأة معينة بسوء، ولا ناقش قضية فكرية خاصة بحقوق النساء مفندا أو مؤيدا، لكن مقالته كانت حول جسد النساء وتغير الأمزجة عبر الثقافات والعصور، ولم ينس الكاتب أن يذكر ذوقه الشخصي في المسألة ويعبر عن إعجابه بمواصفات معينة في أجساد النساء. وهذا الخطاب دارج لدرجة كبيرة في الفن والأدب حيث يستحضر الشاعر والفنان الأذواق والأمزجة ويستنطق الثقافة التي تضع لكل شيء مقياسه، وصحيح أن هذا المقياس لا يقتصر على النساء فالثقافات التي تغنت بملمس جسد النساء وتوزيعه تحدثت عن الملمس والقامة الرجولية وإن كان بشكل أقل تركيزا، وذلك تأكيدا من معظم الثقافات على فكرة أن الرجل جسد وعقل وروح، وأن المراة هي جسد وحسب وكانت هناك ثقافات واضحة في هذا التمييز:المرة ماعون في السودان، وتمثال أفروديت الجميلة برأس في حجم حبة الزيتون في اليونان!

قلنا إن هذا الخطاب الذي يمجد الجسد النسوي أو الرجولي موجود في الفن كما استشهد به الكاتب ولكن الجديد كان أن ينسحب لعالم المقال الصحفي، بإضافة تفضيلات الكاتب في مسائل الجسد النسائي واحتفائه بتقليعة معينة تنحو باتجاه يعدّل ما رآه من ذوق بدا منحرفا باتجاه النساء.

حينما كتبت الدكتورة ناهد تعقيبا على المقال بعنوان (متى يودع الرجل الشرقي هريرة) انتقدت فكرة الاهتمام بالمراة كجسد كما ظهر في المقال، قالت ناهد: "إننا سبق وودعنا الأميرة الكسولة والنائمة وفاطمة السمحة وغيرهن في هذا العمود و رغما عن هاشم كرار فإننا نودع اليوم هريرة لا كما ودّعها صنّاجة العرب المعروف بالأعشى في ذلك الزمان ولكنّه وداع من نوع جديد عثرت فيه المرأة على أناها ووجدت الكثير لتفعله بعيدا عن البلاط البطرياركي ولهاشم كرار أقول كما نفت المرنيسي(شهرزاد ليست سودانية)".

هذا الوداع فهم منه الأستاذ هاشم أنه وداع من الاحتفاء بالجسد بالأصل، واستنكر ذلك ثم طفق في نوع من العنف جديد يذكر الدكتورة ناهد كيف أن أسرتها تحتفي بالجسد وأنها شخصيا تفعل ذلك، بشكل حسي مباشر وبإحالات لمعاني اسمها ولخضابها واعتنائها بالمظهر، ثم في صفعة قوية لكامل الشريحة النسوية التي تعتز بالدكتورة ناهد وبعمقها وبدأبها وبمثابرتها الأسطورية واطلاعها العريض قام بالاستخفاف بفهمها واصفا لها بأنها قليلة الكسب في فهم ما تقرأ، وبالإساءة لكتابتها ناعتا إياها بالركاكة. هذا العنف الجديد القديم الذي يجعل أية امراة في مقام العجز عن البيان والضعف في الأفهام ثم في تذكيرها بانوثتها وبمعالمها بهذه الطريقة التي تجعل جسدها لا عقلها هو الحاضر ذكرنا للتشابه الكبير للعنف الذي مارسته الثقافة العربية في تجليات مختلفة على نساء أمثال ليلى الأخيلية.. تذكرت محاورها (نابغة الجعدي) الذي هجاها فعيرها بدورها الأنثوي في التزاوج فقالت له: تعيرني داء بأمك مثله! وقالت ناهد لكرار مشيرة لتعييرها بالاحتفاء بالجسد:  "ولأنّني أحترم مطلق إمرأة بما فيهم زوجة هذا الفرّار وابنتيه فإنّني لن أطالبه بمقال شبيه بإحتفائه بجسد لوبيز ..يحتفي فيه بأجساد بناته وزوجته وحنّتهم وشعرهم".

نعم لقد ردت ناهد بفصاحة ليلى وأبانت، ولكن المسألة برأينا تحتاج للنقاش ليس من باب التهاجي بل من باب الإيضاح، فقد قرأنا للأستاذ هاشم كرار في مواقع مختلفة فهو قلم مرموق وقاص اشتهرت مجموعته القصصية "حكايات بطعم أبرهيد"  وتبودلت في صحف ومواقع عديدة، وأول ما بدا لنا أن مثل الأستاذ هاشم يعيش كما كتب بلسان زوجته (في مقاله: اتفقنا  ما علينا.. وما علينا) يعيش كما قالت في زمان ماض. زمان كان فيه الحضور الذكوري طاغيا، وكانت نظرة المجتمع الكتابي عوراء ينظر بعين واحدة ولكن المجتمع يحتاج أن يتسصحب النظرتين فكما قالت الكاتبة والأديبة المصرية مي زيادة: "إنما نحن من الذات الإنسانية الواحدة الجهة الماثلة إزاء جهة الرجل، فنختبر إذن بفطرتنا ما لا يستطيع الرجل أن يعرفه كما أن اختبارات حضرته تظل أبدا مغلقة علينا". هذه النظرة تتجلى في كتابته حول أن النساء بطيخة كما كان يقول جده وأبوه ثم هو شخصيا لن تعرف مدى مساختها وبياضها، أو حلاوتها وحَمَارها إلا بعد الزواج. الفكرة، فكرة البطيخة تنطبق على الاثنين المرأة والرجل ونساء كثر تزوجن رجالا لم تكن مساختهم وبياض داخلهم يبدو قبل الزواج حتى شقت البطيخة وعلمت.

يحتاج الأستاذ هاشم أن ينظر للكاتبات النسويات خارج فكرة المعري:

فحمل مغازل النسوان أولى        بهن من اليراع مقلمات!

يحتاج، مثلما فكّر مرتين في فلسفة ابنه في الزواج الذي أنكر أن يكون الزواج بطيخة بل يبنى على المعرفة والدراسة المتبادلة، فراجع نفسه من فكرة البطيخة كما ذكر، فليراجع نفسه من فكرة الاهتمام بالجسد النسائي بشكل يحشره في الدوائر العامة أي دوائر الكتابة الصحفية. وليراجع نفسه في الحديث حول أن النساء خاليات من العقل كما قال مبينا في مقاله بعنوان "المراة ومخلها حين يشتغل" وقوله: "مخ المرأة، هو نقطة ضعفها الوحيدة، أنظر، أنظر إلى أي امراة، في الدنيا ، متع عينيك، وسبح الخالق، ولكن تجنب، ما استطعت، لحظة  أن تفتح هذه المرأة، باب مخها".."صدقني، في تلك اللحظة المحبطه ، كنت لتتمنى لو كنت ضريرا ،  سترمش عيناك ، سريعا جدا، و قبل  أن ترمش مرة ثانيه ، ستجد نفسك (متلبا ("..

يحتاج الأستاذ هاشم أن يترك مسلماته الذكورية جانبا ويعلم أن الغباء والذكاء لا نوع لهما، ويوجدان في الإناث والذكور. إن الحديث عن المراة ككائن غريب خارجي قادم من القمر ربما لا يليق بهذا الزمان الذي لا أشك  أن الأستاذ هاشم قد لاقى فيه من بهره فكرها أو إجادة  عملها أو بلاغة قولها فليترك إرث الجدود الذي ورثه كما وصف نفسه وليفكر بما يعرف وما يرى لا بما قاله جده حول البطيخ!.

وفي رأينا أن الجسد ذكوريا كان أو أنثويا له حضور لا يغالط في الخبرة الإنسانية حضور يسمو أو ينحط بحسب هذه الخبرة، فمن الناس من حظه من علاقات الجسد محض خبرة مادية كالتي تجري بين البهائم، ومن الناس من يجعله معبرا للالتقاء الروحي والغذاء العاطفي، ومهما كان هذا الحضور فإنه ليس مما يليق أن يساق الحديث عنه وعن الأذواق فيه وحوله على صفحات الصحف، ليس إنكارا لوجوده ولكن إنكارا لجعل الحديث عن المرأة هو حديث عن مقاسات الجسد! وقد كنت منذ فترة أفكر في فرض زي أكثر احتشام على النساء في الإسلام، وهو حقيقة، بخلاف ما قاله الشيخ حسن أبو سبيب في الندوة التي أقيمت بدار الحركة الشعبية مناصرة للأستاذة لبني، قال أبو سبيب إن الله لا ينظر لصوركم إنما ينظر لقلوبكم وبالتالي فلم يفرض زيا معينا. والحقيقة أن الله لا ينظر لصورنا، لكنه خلق الإنسان ويعلم أنه وخاصة الرجال ينظرون للأجساد وتقع لديهم موقعا أعظم من وقعها لدى النساء لذلك كانت عورة الرجال المفروض غطاؤها أقل منها لدى النساء. وتحدث المولى عن غض الأبصار وغض الأبصار هو وسيلة لإبعاد الجسد في العلائق بين الناس العاديين (ما عدا الأزواج)، وأعتقد لذلك أن فضيلة غض البصر هذه يجب أن تساق من منحاها الفردي للعام بحيث تغض الصحف بعدها الجسدي وتقف عن كونها مكانا لحشر الأجساد في ملفات عامة. فالمرأة لها هويات ثلاث: كأنثى لرجلها لا لكل الرجال، وكأم لأبنائها، وكمواطنة تشترك في مواطنيتها مع كل الرجال والنساء.. هذه الهوية الأخيرة هي الهوية التي توجد فيها النساء في الدوائر العامة.

وننتقل من حادثة العنف ضد ناهد لقصة ولاء.. فقد وقعت أثناء ترحالي الإسفيري على قصة مؤثرة للكاتب الشاب حمور زيادة بعنوان (ولاء لم تعد تضحك) قصة مكتوبة بلغة شاعرية بخلاف مثلا القصة الجارة لها في منتدى حمور (البلوق الخاص به): عندما هاجرت الداية. وكلاهما نصان نسويان بمعنى انحيازهما لقضايا النساء والقصة الأخيرة فيها كذلك نقد لقيم بائدة كالعنصرية، قصة ولاء حول اغتصاب طفلة قصة تستحضر كل ضحايا العنف في مجتمعنا، تقرأها والغصة والخوف والترقب للحظة الفاجعة يحيطونك.. فكرت في نشرها في "مجلة النساء" التي تصدرها جميعة بابكر بدري للدراسات النسوية والتي أحرر عددها المقبل، ولما كاتبت الأستاذ حمور طالبة الإذن كتب لي قائلا: شكرا لحسن ظنك. لكن هذه القصة تحديدا دار حولها لغط و جرّت مشاكل كثيرة لا أدري هل تعلمين  عنها شيئا أم لا، فبسبب نشرها في الملف الثقافي بصحيفة الأخبار اتهمني مجلس الصحافة و المطبوعات بإثارة الغرائز وخدش الحياء العام و تم إنذارالصحيفة وايقافي من الإشراف على الملف..

كانت قصة ولاء قد أوجعت روحي، وأقول كما قلت لحمور: قرأتها ولم أظن لحظة أنها تخدش سوى الروح المعذبة من قصص العنف ضد المرأة التي تمثلها قصة ولاء.. بل إن الذي تثار غرائزه من مثل قصة ولاء وحش بقرونه، يقرأ ولا بد بدون عقل أو حس أو روح!

إذن فمجلس الصحافة والمطبوعات لا يضيره لو قذفت النساء كلهن كما فعلت أقلام عديدة قبل مسيرة مناصرة الأستاذة لبنى وبعدها، ولا يضيره لو صار الحديث عن النساء كجسد للمتعة وحسب وبمواصفات معينة هي التي تثير الغرائز لأهل الغرائز الجاهزة للإثارة من الذكور! ولكن يضيره لو سن فنان قلمه ليصور بشاعة اغتصاب طفلة!

ولا حول ولا قوة إلا بالله!

وليبق ما بيننا.

 

آراء