الصحة شأنٌ سياسي (١)

 


 

 

 

المتطلبات الأساسية لصحة الإنسان

كتبت هذا المقال أثناء اعتصام شباب ثورة ديسمبر المجيدة أمام القيادة العامة للجيش السوداني وكان جزءاً من محاضرة ألقيتها في الميدان، وهو واحد من أربعة مقالات كتبتها فيما بعد وكلها حملت عنوان "الصحة شأنٌ سياسي.

صحة الانسان في السودان وفي أي مكان في العالم قضية سياسية اجتماعية تحتاج لحلول سياسية اجتماعية وليس فقط قضية خدمات صحية أو وقاية وعلاج. فالصحة ليست مستشفيات وتقنيات علاجية فالمستشفيات هي بيوت أو قصور المرض. ويظن كثير من الناس خطأً أن الصحة مرتبطةٌ بوجود المستشفيات المعقدة باهظة التكاليف. والحق أن ما يصرف على هذه المستشفيات لو صرف منه جزء ولو يسير على الوقاية وتعزيز الصحة لقلت الحاجة لهذه المستشفيات. ولا نقول بعدم الحاجة إلى المستشفيات حسنة التجهيز فالطب العلاجي مهم لأن الحاجة إليه ملحة بينما الحاجة للوقاية حقيقة وليست دائماً ملحة. إننا نحتاج لوصفة "العافية" قبل الحاجة لوصفة المرض. وصفة العافية متطلباتها اجتماعية سياسية.

إليك الدليل أن الصحة قضية سياسية اجتماعية: اتفق العلماء الذين كتبوا ميثاق أتوا لتعزيز الصحة أن متطلبات الصحة (Pre-requisites of health)ثمانية وهي: المأوى (المسكن)، الطعام (الغذاء)، الأمن والسلام، التعليم، الدخل الشهري، النظام البيئي المستقر، الموارد المستدامة والعدل الاجتماعي.لا يمكن أن يتمتع بصحة من لا مأوى أو مسكن صحي له. ولا صحة لمن يأكل وجبة واحدة في اليوم أو لا يأكل الطعام الملائم، ولا صحة لمن لا يعيش في مجتمع آمن وبسلام ونحن نسمع ونرى في نشرات الأخبار والتلفزة حال النازحين واللاجئين وأطفالهم الذين أخرجتهم الحروب الجائرة من ديارهم. ولا صحة لمن حرم التعليم لأن التعليم هو الذي يرفع وعي الناس لصحتهم وكيف يحسنونها. ولا صحة لمن لا دخل ثابت له فارتباط المرض والموت بالفقر موثق في كثير من الدراسات العلمية الرصينة. لا يرتبط الفقر بالعدم والعوز ولكن أيضاً بالبطالة والشعور النفسي المرتبط بها من عدم القدرة على العطاء والاسهام في بناء المجتمع.

لا صحة لمجتمع يعيش في نظام بيئي غير مستقر لأن البيئة من أهم مقومات المعيشة الصحية. فلا صحة لمجتمع يعيش وسط النفايات المسببة للأمراض ويدخل في البيئة الصحية كل ظروف وأمكنة العمل. وأخيراً لا صحة لأفراد ومجتمعات ينعدم فيها العدل والمساواة إذ تذهب الموارد لمحتكري السلطة والمتمكنين.
كل هذه المتطلبات تكاد تكون منعدمة في بلادنا بسبب سوء الحكم وكلها تحتاج لنظام سياسي مدني عادل يستشعر مسؤوليته تجاه مواطنيه. الوفاء بهذه المتطلبات يحتاج لقرارات سياسية صارمة وصادقة لتوفير السكن الصحي والغذاء والأمن والسلام والتعليم للجميع والدخل الشهري المستدام والنظام البيئي المستقر وأخيراً العدل بين المواطنين. هذه القرارات يجب أن تنفذها الجهات المعنية ولا تخضع لأي مناقشات أو مراجعات من أي جهة كانت إلا من المهنيين المختصين. ويمكن بذلك تحقيق شعار منظمة الصحة العالمية "الصحة للجميع" والتغطية الشاملة بالخدمات. وهنا تظهر عبقرية هتافات وشعارات ثورة الشباب: حرية سلام وعدالة. ولو أن العلماء الذين كتبوا ميثاق أتوا لتعزيز الصحة لم يذكروا مفردة "الحرية" كمتطلب للصحة فعبقرية ثورة ديسمبر السودانية تجعل مفردة الحرية إضافة حقيقية لمتطلبات الصحة فالمقموعون والمقهورون والذين يقبلون الاستعباد ويستسلمون له لا يمكن أن يتمتعوا بالصحة بأبعادها المختلفة؛ خصوصاً الصحة النفسية.

لماذا دعونا لحكومة مدنية كاملة الصلاحيات فوراً، تستطيع إنفاذ متطلبات الصحة؟ لأن كل يوم تأخير في تسليم السلطة الكاملة لحكومة مدنية تزداد فيه الفتن التي تحاك تحت الطاولة داخلياً وخارجياً فتنصرف الحكومة لمواجهة مثل هذه الفتن. وما أكثر دعاة الفتنة الذين لا يهمهم أن تغرق بلادنا في الاستقطاب والصراعات الداخلية القذرة الكدرة والصراعات الخارجية القذرة الكدرة، بل تهمهم نرجسياتهم وأجندتهم الخاصة في السلطة والثروة. ولا تهمهم تضحيات شبابنا وشاباتنا ومرابطتهم في ميادين الاعتصام التي كانوا يتعرضون فيها لضربات الشمس القاتلة منذ ٦ أبريل وحتى ٣ يونيو.
الرحمة والخلود لشهداء ثورة ديسمبر المعلمة والتحية والتجلة للثوار العظماء الذين رابطوا في ميادين الاعتصام في كل أنحاء السودان والذين لابد وأن يكملوا مشوار الثورة بحماية ثورتهم وتحقيق أهدافها كاملة غير منقوصة على يد حكومة مدنية راشدة ومتوافق عليها. وللحديث بقية!!

• بروفيسور حسن بلّه، مستشار مجلس التخصصات الطبية، الأستاذ بجامعة جونز هوبكنز سابقاً والجامعات السعودية ورئيس الاتحاد العالمي للمحررين الطبيين سابقاً



hassanbella@yahoo.com

 

آراء