الصورة النمطية للسود في السينما المصرية (3)

 


 

 

د. أحمد جمعة صديق
• مقدمة
بدأ اهتمامي بالدراما المصرية وتنميط الانسان الاسود في هذه القوالب والافيشات السالبة منذ ان اوكلت بتدريس مقرر الدراما في قسم اللغة الانجليزية بكلية التربية بجامعة الخرطوم في العام 2022. وقد وقع اختيارنا علي مسرحية (Look Back in Anger ) لجون ازبورن - من المسرحيات التي درسناها وقمنا بعمل تحليل لها مع طلابي. ولما كان المقرر يتحدث عن أهمية الدراما في حياة الانسان فقد قررت أن اربط النظريات الدرامية بالواقع العملي, فطلبت من طلابي كتابة بحث ومقالات قصيرة عن دور الدراما ثقافياً واجتماعياً وسياسياً في المجتمعات الانسانية الحديثة. ثم طلبت منهم العمل في مجموعات لتحليل بعض الاعمال السينمائية والمسرحية المصرية، من خلال رؤية هذه الافلام والمسرحيات للانسان الاسود، مع التركيز على الشخصية السودانية، في هذه الافلام والمسرحيات. وقد تبين للجميع ان معظم اعمال الدراما المصرية لجأت لتنميط الانسان الاسود بصورة سلبية بغرض الفكاهة واستعطاف مشاعر المشاهد في التفاعل مع هذه الاعمال بالضحك، ولو كان ذلك على حساب ومشاعر الانسان الاسود المغلوب على أمره في الدراما المصرية والسينما على وجه التحديد. كما زاد اهتماميأ ايضاً بهذا الموضوع فاقترحت على أحد طالبات الدكتوراه أن تكتب في الدراما وتبحث في موضوع الانسان الاسود في الدراما المصرية وقد كان عنوان البحث المقترح هو (The Stereotype Image of the Black Person in the Egyptian Drama, with Special Reference to The Sudanese Character) وطلبت من أحد البروفيسرات المختصين في الدراما بالاشراف على البحث ولكنه اعتذر عن ذلك، وما زال الموضوع معلق يحتاج الى المعالجة الاكاديمية الرصينة لانصاف هذا الاسود والخروج به من النمطية المذلة الى رحاب اكثر انسانية.
• أهمية الدراما:
و الدراما، سواء على المسرح أو الشاشة السينمائية، تلعب دوراً هاماً في المجتمع من الناحية الثقافة والسياسة والاجتماععية. ويمكن ان نطل بسرعة على بعض الادوار التاريخية المؤثرة في المجتمعات الاننسانية المعاصرة ولنأخذ بعض الامثلة من السينما الامريكية وتاثيرها على مجتمع كان آحادي النظرة، تحول الى مجتمع متسامح اذ تمكنت السينما من اختراقه ليتوّج (أوباما) من النسل الاسود المحتقر، ليصل الى سدة الرئاسة لاكبر ديموقرطية فاعلة في التاريخ الحديث.
فمن ناحية اجتماعية تعمل الدراما، بما في ذلك السينما، كمرآة للمجتمع، تعكس قيمه ومعاييره وقضاياه، اذ تسلط الضوء على الظلم الاجتماعي وعدم المساواة و التغلب على التحديات، مما يعزز الوعي والتعاطف. فمثال لذلك فيلم Twelve Years Slave (2013) من إخراج ستيف مكوين ويصور واقع العبودية الوحشي في أمريكا، مسلطاً الضوء على الظلم الاجتماعي التاريخي الذي واجهه الأمريكيون الأفارقة. كما توفر السينما منصة لسماع الأصوات المهمشة، مما يمنح الشرائح المتنوعة من المجتمع رؤية واضجة ففي فيلم "Moonlight" (2016) من إخراج باري جينكينز يتناول حالة شاب أسود يتصارع مع هويته وجنسيته في حي يقطنه السود بميامي.
وتسهم الدراما ثقافياً ، سواء على المسرح أو الشاشة، في تحديد الهوية الثقافية من خلال الحفاظ على التقاليد والأساطير والسرد التاريخي، اذ انها تعكس القيم الثقافية والطقوس والممارسات، مما يشكل وعياً جماعياً، كما في فيلم "Rashomon" (1950) لأكيرا كوروساوا اذ يستكشف تعقيدات الحقيقة والمنظور من خلال سرد في إطار اليابان القديم، معبراً عن المواقف الثقافية تجاه العدالة والشرف. كما تعمل السينما كوسيلة للتبادل الثقافي، مما يسمح للجمهور بتجربة وتقدير منظورات ثقافية متنوعة ومثال له فيلم "Crouching Tiger, Hidden Dragon" (2000) من إخراج أنج لي يمزج بين عناصر فنون الدفاع عن النفس الصينية مع قصة عالمية عن الحب والشرف، مما يجذب الجماهير في جميع أنحاء العالم.
اما الدور السياسي فتمتلك الدراما، وبخاصة السينما، القدرة على تشكيل الحوار السياسي، وتحدي السلطة، والدعوة إلى التغيير الاجتماعي. يمكنها انتقاد سياسات الحكومة، وتسليط الضوء على الفساد، وتحفيز النشاط السياسي. ومثال فيلم "The Battle of Algiers" (1966) من إخراج جيلو بونتيكورفو ويصور صراع الجزائريين من أجل الاستقلال عن الحكم الاستعماري الفرنسي، مقدماً نظرة على ديناميكيات الاستعمار والمقاومة. (انترنت AI)
وباختصار يمكن للسينما أن تكون أداة للدعاية أو الاعتراض، اعتماداً على نية صانع الفيلم والسياق الاجتماعي والسياسي. ولا تقتصر الدراما، بما في ذلك السينما، على الترفيه فحسب، بل هي وسيلة قوية تشكل الإدراك، وتثير الفكر، وتؤثر في الديناميكيات الاجتماعية والثقافية والسياسية. من خلال السرد، وتعزز الفهم والتعاطف والمشاركة النقدية مع العالم من حولنا.
• السينما المصرية والعنصرية ضد البشرة السمراء
في هذا الجزء من المقال سنستعرض بعض المجهودات التوثيقية القيمة التي قاممت بها بعض الجهات احساساً بمسئوليىة الاعلام في أهمية الكلمة المكتوبة أو الصورة أو الصوت. ومع أهمية الموضوع فاننا لم نجد له تغطية جادة من قبل الاعلاميين او الاكاديمين السودانيين تتناول هذه الظاهرة، التي أدت الى ترسيخ الصورة النمطية للانسان الاسود في اذهان قطاع كبير من البسطاء، وربما بعض المثقفين المصريين. ومع ان الحضارة المصرية نفسها ربما تكون ناتج للانسان الاسود نفسه او هي تلاقح في حدها الادني بين الاجناس التي سكنت وادي النيل منذ قرون عديدة، وتبادلت المنافع والمشاعر فيما بيتها، كما تحاول النظريات الحديثة اثبات هذه الفرضية. كما لا نستطيع أن نجزم بخلو الدم المصري من بعض الجينات السوداء بحكم الواقع التاريخي والجغرافي لشعوب وادي النيل. وهذا ربما يحتاح لمبحث لحاله.
• هكذا رسخت السينما المصرية العنصرية ضد البشرة السمراء - الجزيرة نت (aljazeera.net)
هذا الجزء من المقال يعتمد بصورة أساسية في مراجعة تقرير للأستاذ عبد الرحمن أحمد- مراسل قناة الجزيرة القطرية بالقاهرة. وقد كان تاريخ هذا التقرير في 5/12/2019. ويبدأ التقرير باقرار بعض الحقائق وردت في تقارير حقوقية تتحدث عن أرقام صادمة حول العنصرية ضد أصحاب البشرة السمراء في الأعمال الدرامية وخاصة السينما. وقد جدثت ضجة كبيرة واستياء واسع في وسائل التواصل عن حادثة تنمر تعرض لها طالب سوداني في العاصمة المصرية القاهرة، لتتطور القضية بالقبض على الجناة ثم التصالح والإفراج عنهم. وكما بدأت القضية سريعاً انتهت سريعاً، دون عقاب أو بحث وراء أسباب الواقعة التي تتكرر كثيرا لكن دون أضواء غالبا).
يقول عبد الرحمن (ان الواقعة بدأت بمقطع مصور نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر فيه شابان مصريان يعتديان على طالب سوداني ويسخران منه ويريدان نزع حقيبته عنوة، فيما يغرق ثالثهما في الضحك أثناء تصوير الاعتداء، ليثير المقطع عاصفة من الغضب وسط مطالبات واسعة بمعاقبة هؤلاء الشباب.(
لقد جعل التقرير من هذه الحادثة العابرة مدخلاً جيداً للحديث عن هذه الظواهر قي السينما المصرية. ويعتقد الكاتب ان قضية التنمر هذه لم تاتي من فراغ وفي رأيه أن وراء ذلك مجموعة من العوامل، ربما كانت السينما المصرية أحد هذه العوامل.
ويتحدث التقرير عن سينما العنصرية في مصر فيقول (ضحكات الشاب كانت تشير إلى خلل واضح في تقدير فداحة ما يقومون به ضد الفتى الصغير، إلى جانب تبريرهم الأمر لاحقا بأنه "دعابة"، وهو ما اعتبره البعض تأثراً واضحاً بالأعمال السينمائية التي قدمت العنصرية ضد ذوي البشرة السوداء تحت ستار الكوميديا.)
ويشير الاستاذ عبد الرحمن الى تقرير آخر أصدره المرصد المصري لمناهضة التمييز العنصري في يناير/كانون الثاني 2018، بعنوان "مشروع تعزيز التعددية ونبذ التمييز العنصري بالإعلام المصري". وقد أورد التقرير أرقاماً صادمة عن تفشي العنصرية ضد أصحاب البشرة السمراء في الإعلام والأعمال الدرامية وخاصة السينما.
ويورد عبد الرحمن أحمد( انه تم في هذا التقرير تم رصد 60 فيلما من بين 120 أنتجت وعرضت في الفترة بين (2007-2017)، تسخر من ذوي البشرة السمراء سواء بسبب لونهم أو لهجتهم، أو تحصرهم في أدوار نمطية كدور الخادم أو البواب، وأغلبها تصنف أفلاما كوميدية. وأشار التقرير إلى احتواء 18 عملاً سينمائيا خلال هذه الفترة على "تمييز عنصري صريح"، بالسخرية من اللون أو العرق، بينما احتوت أعمال أخرى على الحض على التمييز أو الكراهية أو العنف.) وربما سنعرج على هذا التقرير بالتفصيل في مقال لاحق.)
ويستعرض تقرير عبد الرحمن أحمد تحت عنوان (تاريخ مشين) فيقول (منذ نشأتها، حفلت أفلام السينما المصرية بالعنصرية والسخرية من لون البشرة، وحصرت أصحاب البشرة السوداء غالباً في الوظائف المتدنية اجتماعيا مثل أدوار الخادم أو السائق أو البواب الذي يتكلم بلهجة مضحكة، على غرار شخصية "عثمان عبد الباسط" التي قدمها الممثل علي الكسار في معظم أعماله. وكان أشهر من أدى دور الخادم أو البواب في السينما المصرية قديما الفنان الكوميدي النوبي محمد كامل، الشهير بـ"عم كبريت"، حيث ظهر في عشرات الأعمال السينمائية وانحصرت أدواره في هذه المهن.) ثم يرجع التقرير ان الصورة النمطية لهذا التنوع من الاستعراض قد أصل لها ظهور بعض الممثلين السود منذ وقت بعيد، فيشير الى واحد من المشاهد الشهيرة التي تسخر من هؤلاء في الأفلام القديمة جاء في فيلم "الآنسة ماما" (1950) لصباح ومحمد فوزي، حيث يغازل ثلاثة من الخدم من أصحاب البشرة السوداء واللهجة المضحكة غير المفهومة بطلة العمل، ويغنون لها عبارات مثل: "أنا خدام تراب رجليكي". وعندما يدخل صاحب المنزل إلى المطبخ يختبئون أسفل المنضدة، فلما يراهم يقول متهكما "كده سيبتي الخضار لغاية ما اتحرق وبقى فحم"، فترد عليه "ده خضار؟ ده باذنجان أسود".
ولقد تعودنا على ان الانسان الاسود يلعب دور البواب وهو من الادوار الرئيسية في السينما المصرية. ويسند هذا الدور غالبا الى أحد الممثلين السود كما في شخصية البواب "البيه البواب" (1987)، والذي أُسندت بطولته إلى النجم الأسمر "أحمد زكي" وغالباً ما يكون اسم البواب (عثمان) ويحرف الى (اوسمان).

نواصل <<<

aahmedgumaa@yahoo.com

 

آراء