خوفي منك، خوفي تنساني وتنساها الليالي ..
يا حبيبي، أنا خايف ياما بعدك أنسى حالي ..
أبقى تايه، والغرام يصبح حكاية..
والأماني الحلوة دي الكانت بداية ..
تبقى أشواك في طريقي في النهاية ..
*
إسماعيل حسن
(1)
ليس نهر الوجد وحده بضفاف لا أحد يعرف سواحلها، ولا الشوق الذي يعبر الطرقات المُشتجرة عند ملتقى الجسور وأشباه المدائن المغسولة بالغبار، يمكنه أن يتحدث في التفاصيل التي ائتلفت، وأمسكت بجزع الشجرة الذهنية. هذا هو اليوم الأول لتدريب الفرس الصغير على العدو فوق بيئة دغل متشابك.
وصف لها البيت على طرف الحيّ، ووصف لها سيدته. و أوصاها أن تقول لها " أنا في انتظار أحدهم ". وذهبتْ. لحق بها بعد نصف الساعة. ألقى التحية على سيدة الدار، فقالت له:
- هي تنتظرك في الغرفة .
دخل غرفة النوم، التي تغوص في الدعة والرخاوة. وجد " صبيحة" التي تبادله الهوى جالسة على طرف السرير، مُطرقة على استحياء تنتظر. مترددة ومأخوذة بتجربة جديدة عليها. أول ما سألته حين قدم كان عن سيدة الدار: من هي، وكيف تعرّف عليها؟. لأنه عند قدومها تفحصتها بعين رقيب أخافتها. قال لها إنه عرف سيدة الدار عبر وسيط. ليست صاحبة أمكنة مفتوحة، ولكنها تجارة من يحتاج، ولا يريد أن يكون داره بضاعة عامة، بل للخاصة الذين يتّبعون الحيطة والحذر، خلوّة للهوى وسكراته. ذكر لها أنه عندما جاء أول مرة. تفحصته سيدة الدار بنظرٍ ثاقب، نفذ من خلال الملابس إلى الجسد والروح. أطرق هو ثم أبدى بُرهة للبراءة أن تفوح من ملامحه كي يطمئنها، لأن الروح القاهرة لا تنفع في الأماكن السريّة .
سألته سيدة الدار أول مرة رأته :
- أين تسكُن؟
قال لها سيرة مختصرة. وأفصحت سيدة الدار عن الخصوصية وموجباتها، وأن للبيوت أسرارٌ لا يحق أن يعرفها إلا المؤتمنون. أمّن هو على ذلك ووعد بإتباع النُظم، والاحتفاظ بالأسرار.
(2)
تحركت أرنبة أنفه. تسللت إليها الرائحة المخضبة في مصنع الروائح الشعبية .جلس قرب " صبيحة ". ارتبكت كثيراً كأنها تراه أول مرة. قالت إنها لم تتعوّد مثل هذه المواقف . وإنها تودعه قلبها و أسرارها، كما تودعه مفاتنها وشوقها الذي طفح، ثم أدمعت عيناها، فأطرق ساهماً ،ومسح الأدمع قبل أن تنزلق عن الخدّين.
أمسك يديها، ليتبين الأصابع، وتقاسيمها، ولدانتها. قرأ السيرة المختبئة في تلال يدها اليمنى حين بسطت يدها. تل المُشتري، وخطوط الرزق، والعمر والمحبة. وجد خطاً مُنقطعاً، فقلق على مُستقبلها، ولكنه صمت. أخفى ما رأى.
قبّلها على الخد ، فأصيبت برجفة و نزع الثوب عنها ببطء، وهي تكاد تقبض عليه، فما تعودت على هذا الخروج عن المألوف. عاتبته بنظراتها. فقد أرادتها فسحة للخلوة، ليقولا ما يريدا ، وتفسح هي لخواطرها أن تتجسد، وأن تحسّ من جديد ألق أنوثتها ،تُعطره الذكورة من جديد. لم تكن تريد نهاية الفعل، بل مقدمات تفتقدها في الحياة، فقد كادت العادة الآسنة أن تأتي على العواطف الخضراء. استلقيا بملابسهما الداخلية، على السرير الفسيح. تنفسا بعمق، وانكفأ يقبل الجسد من أعلاه إلى أدناه. وانفتح طائرٌ مغردٌ في الساعة المعلقة على الحائط، معلناً الوقت الذي يزمع أن ينقضي.
وأسر لها بينبوع بركته الصافية، بحديث يكاد لا يعي منه شيء. قال لها أنه حين رآها أول مرة متكملة الأنوثة، كان في مساء تجمع عرس في باحة منزل قريبه منذ سنوات، كأنها طعام شهي لجائع. صوّب نظرته إليها، وطال السكون، وتقاطعت نظراتهما. ارتبكت وشاحت بوجهها، واسترجعت ونظرت ، وهالها ما رأت. ها هو سيد الأحلام قد نهض من سباته، وهو جار ليس ببعيد، لم تكن تعلم أن الطفل الذي كانت تراه دائماً، قد أضحى الآن رجلاً، يتدفق فحولة.
سرد القصة عليها كأنها تعرفها أول مرة. وهو يمرر يده على جسدها برفق، من يخاف عليه أن يُخدش. ويقترب من موضع أنفاسها، ويلثم الريق المكثف في الحيرة والنشوة والعذاب معاً.
(3)
صورتها لا تشيء أنها من بيتٍ أقل من الحال المتوسط ، وأن الراحل والدها كانت له غرفة منعزلة عن مكان الأسرّة لمجموعة معارفه الخاصين الذين يلعبون الورق، طول النهار وإلى الغروب . قِمار يتستر بتجمع ست إلى تسعة أشخاص، و لأن والدها صاحب المكان ، ويوفر الماء المثلّج للاعبين فله من المكسب ( نصف الستّة )، وهي من مصطلحات القِمار . وتلك من زلّات الحاجة ، والبقاء بلا عمل.
أول كافيه انتقلا إليه بعد تعارفهما، كان في مكان منزوٍ. وكانت " صبيحة " ترغب أن تكون بعيدة عن العيون. جلسا في زاوية خفيّة في المكان. انعكس ضوء على عينيها العسليتين ، فأضاءتا. يتحدثان، كأنهما يقاطعان حديثهما، ووجد نفسه مُتأملاً، كأن في صمتهما الكلام المعسول .
قال لها أول مرة رآها، إنها قطعة أثرية من امرأة جميلة التكوين، خلاسية، بُهارها حادق، وصورتها نقية، وتقاسيم الجسد، أنغام هادئة، وصورة وجهها وتقاطيع الأنف ارستقراطية الجمال.
حكت له ضمن مجموعة أقاصيص أول اللقاء ،سيرة ابنها الأكبر، وهو قمحي فاقع اللون ،وأنها عندما ذهبت تزوره في المدرسة الابتدائية في موطن والده، وقابلت المدرِّسة المُشرفة ، وقالت عندما رأتها ، أنه لا يشبه أبيه، فهو قطعة من أمه مسورٌ بالذكورة الناشئة. سردت له تفاصيل الحياة في موطنها الجديد. حي ريفي، أشجار النخيل داخل البيوت، والطرقات معشوشبة، أشجار البلوط تلق بظلالها على الطرقات أمناً وسلامة.
حكت له" صبيحة "عن رحلتها الأولى للشمالية أول مرة في حياتها تُغادر العاصمة إلى موطن زوجها، فهو مدرِّس في المدرسة الثانوية في منطقتهم. فهو كما وصفت: رجل عادي، طيب، ومحدود الدخل، مثل كل الذين استقطبت مؤسسات التعليم الحكومية، في بلدٍ انقلبت فيه كل الموازين .
تذكر أنه تعرّف على زوجها " محمود " في ليلة أنس مع مجموعة أصدقاء، فهو كما وصفته "صبيحة": ودود ، وعلى درجة مقبولة من الحصيلة الثقافية بحُكم المهنة، ولكن أحسّ بطعم الحزن الدفين، وحديثه عن أن المهنة التعليمية صارت تتسول من يتعطف عليها .
حين قابل بين معرفته لمحمود وبين وصف زوجته" صبيحة "، تأكد أنه هو. وقال لنفسه: كيف تتحرك النفوس، وكيف تتدفق العواطف، كالنُهير تنحدر إلى الوادي. فتأكد أن للمحبة سلطان حين يمسك بتلابيب فرائسه، أكبر من سلطة المال، وجبروت أضخم من القيود الاجتماعية. وللقلوب دروب تقف عندها وتتلصص، ثم تتكاسل وتنام في طريق الحياة الطويل. ثم تنتعش عندما تلمح النفوس المُتحابة وقد تآلفت من جديد ، وأحيت مزرعة العواطف ، من خارج صندوق العادات ونظم الحياة. ويأت الهوى من حيث لم يرِد الجميع. ينتقي من يشاء وهو لا يخضع للمصائر المعروفة. أحسّ بمكانته خائناً لأحد ممتهني التعليم وأصابه في أدفأ مكان الخصوصية. داس على ضميره وسكت عن وخز الإبر.
(4)
ليس للنهر من ضفة ثالثة أُخرى، إلا مع هذه العواطف التي تأتي متسللة كالعواصف بغتة، عبر مسيرٍ شاق. لن تُرضي أحد. تهب عليك ريح لولبية بئيسة، تُلاحقك أينما تذهب. هفوة واحدة وينكشف السِتر. أحسّ بقدرةٍ بهلوانية في العبث بالمُثل والقيم النبيلة .
حان موعد سفره المفاجئ، فالجميع يخرجون زرافات إلى خارج الوطن، فقد كان الوطن طارداً بالفعل ، رضيت الدولة بخروجهم أم لم ترض. لم يجد الوقت المناسب للتوديع. دخل بيت الأسرة الكبير. سأل عن والدتها، والتقاها، وسأل عن " صبيحة "، فقالوا له جاءت أمس من السفر. انتظر في غرفة الضيوف قليلاً، ثم حضرت، بشوقها الذي يألفّه، ولكنه الصمت عند الحواجب الاجتماعية. قال أنه سوف يسافر خارج الوطن للعمل فقد اكتملت الإجراءات. التمعت عيناها بالمفاجأة، كأن للدمع غشاوة ندية. أطرقت تنظر إلى الأرض، وسألت وألحّت السؤال عن التفاصيل، فعرفت أنه ليس بالأمر الطارئ، ربما لن تراه إلا بعد سنوات. سيركب سفينة لا يعرف لبحرها ساحل. سألها :
- ألا توجد لديك وصية ؟
انهمرت الدموع من عينيها وقالت :
- ربنا يكتب سلامتَكْ .
اعتصر فؤاده ألمٌ ممض، فتذكر نصاً يحكي عن الراوي أمام " حٌسنة بنت محمود " في رواية ( موسم الهجرة إلى الشمال ) :
{ حين سلّمت عليها أحسست بيدها ناعمة دافئة في يدي. امرأة نبيلة الوقفة، أجنبية الحُسن، أم أنني أتخيل شيئاً آخر ليس موجوداً حقيقة؟. قامة ممشوقة تقرب من الطول، ليست بدينة ولكنها ريانة ممتلئة كعود قصب السكر، شفتاها لعساوان طبيعة، وأسنانها قوية بيضاء منتظمة. وجهها وسيم، والعينان السوداوان الواسعتان. أنا مثل ... وملايين آخرين، لست معصوماً من جرثومة العدوى التي يتنـزى بها جسم الكون. امرأة أحس حين ألقاها بالحرج والخطر، فأهرب منها أسرع ما أستطيع . ... خفق قلبي بين جنبي خفقاناً كاد يفلت زمامه من يدي .}
كانت هي تشبه السيدة في الرواية، قمحية اللون ، ووزن متوسط لسيدة ليست بدينة ولكنها ريانة، لها طفلان، أحدهما في الثامنة من عمره. أمسك يديها المرتعشتين، وإلى شفتيه راح يقبلهما. لم تستطع أن تتحمل الموقف، فتنهدت، وطفرت الدموع من عينيها. وارتسمت صورة وجهها في مرآة ذاكرته، صورة لن تُنسى .وطفح الأسى وعمّ السكينة والهدوء.
عبد الله الشقليني
29 أكتوبر 2014
alshiglini@gmail.com
//////////////