العاهرة المروية السودانية تدخل قواميس بعض اللغات العالمية

 


 

 

 

(من كتابي: مملكة مروي سياحة تاريخية ولغوية بين حلقات الذكر والإنداية، الصادر عن دار المصورات للنشر)

أحد الفنانين وقد يكون من الذين عملوا في معبد المصورات الصفراء في منطقة البطانة والذي شيده الملك ارنخماني الممتدة فترة حكمه من العام 235 إلى 218 ق.م، قام برسم لوحة تبين كيفية قضائهم لأوقات الفراغ، ويبدو أن ذلك كان يحدث باللهو مع العاهرات، ومع بعد المنطقة عن العاصمة مروي وتوحشها في الصحراء؛ إلا انه يستشف من خلال (المخربشة) التي رسمها هذا الشخص اهتمام القائمون على امر المعبد بالترفيه عن العاملين فيه؛ وذلك بجلبهم لبنات الهوى لهذه المنطقة الصحراوية.
والمخربشة تصور رجل يتبادل القبلات مع امرأة وبها تفاصيل خادشة للحياء، وقام الفنان المروي بكتابة كلمة (شَرَموتا) أعلى اللوحة على اليمين، وأضاف قبلها رمز الفاصلة (:) وهي تعادل علامة (،) في اللغة العربية، إلا أن هذه الفاصلة المروية يمكن قراءتها أحيانا بمعنى (جيد). والرسام يعني انه تحصل على عاهرة جيدة.
تاريخ بناء معبد النقعة يعود إلى فترة حكم ارنخماني المذكورة، لكن لا يمكن الجزم بتاريخ هذه المخربشة على وجه الدقة، هل تم رسمها اثناء العمل في تشييد المعبد ام جاءت بعد ذلك، لأن المعبد حدثت به إضافات في عهود ملوك آخرين جاءوا بعد ارنخماني، فالحوش الكبير مثلاً (يتكون من عدد ضخم من المباني المسورة التي تضم المعابد، وهناك ممرات تربط هذه المعابد ومباني أخرى ذات مداخل صاعدة وممرات معلقة ودهاليز ترتفع إلى 3 أمتار. واستنادا على الأسلوب البنائي للموقع ربما يمكن تأريخه لفترة القرن الأول الميلادي أو أبكر قليلا، اقترح بعض العلماء أن المبنى ربما كان لتدريب الأفيال لوجود نقوش كثيرة للأفيال في الموقع، وقد قامت اورسولا هنتز بدراسة المخربشات الموجودة على جدران الحوش، والتي بلغت 700 تمكنت من دراسة 50 منها، وتوصلت لأن اغلب الرسومات تعود لعهد مروي وأغلبها يمثل مشاهد صيد بالإضافة لرسومات اسطورية ورسومات حيوانات مثل الأبقار، والأغنام، والكلاب) ( ).
وما يؤكد أنها كتبت بعد القرن الأول الميلادي هو استخدام حروف اللغة المروية المتأخرة لكتابة الكلمة المذكورة، وهي نفس الحروف التي كتب بها نقش كلابشة، لذا يمكن على وجه التقريب تحديد الفترة من القرن الأول الميلادي إلى القرن السادس الميلادي لتكون تاريخاً لرسم المخربشة، حيث أن نقش كلابشة كتب في العام 580 م، وفي كل الأحوال فان هناك قرابة الف وخمسمائة سنة تفصل بيننا وبين هذه المخربشة اعتمادا على تاريخ نقش كلابشة، مع الوضع في الاعتبار أن كلمة شرموتا ربما كانت مستخدمة لدى الشعب المروي لفترة غير معلومة من الزمن قبل تدوينها في هذه المخربشة.
وبالرغم من الانتشار الواسع لهذه الكلمة المروية في الأقطار العربية في وقتنا الحاضر؛ وبالمعنى المروي نفسه؛ والنطق نفسه، مع تحوير خفيف يتمثل في قلب التاء إلى طاء، إلا أنه وعند الرجوع لقواميس اللغة العربية لا نجد لها اثراً. إلا في واحد من مُحْدَثِ القواميس؛ حسب المعلومات المتوفرة؛ وهو محيط المحيط، حيث ورد اللفظ وشرحه كالآتي ( ):
شرمط الثوب: شقه ولعلها تصحيف شَرَّطه.
الشراميط من الثياب: البالية الممزقة.
الشرموطة: المرأة العاهرة وكل ذلك من كلام العامة.
وواضح من قول مؤلف القاموس (من كلام العامة) أنه لم يجد لها اصلاً عربياً.
وكلمة شرموطة مستخدمة في اللغة العبرية القديمة والحديثة ونطقها مماثل لما هو بالعربية ولها في العبرية عدة معانٍ، فهي العاهرة والماكرة وأنثى الكلب، وربما تأثرت العبرية بالإنجليزية في إعطاء الكلمة معنى انثى الكلب، حيث أن كلمة bitch في الإنجليزية تطلق على أنثى الكلب وعلى العاهرة ايضاً.
ويرى البعض أن أصل الكلمة مصري فرعوني من (خعر موت)، خعر بمعني (جلد) و(موت) بمعني (ميت) والمعنى الحرفي الجلد الميت، ثم أصبحت في القبطية (شارموت)، ويزعم من يتبنى هذا التفسير ان ممارسة العاهرة لمهنتها إنما تكون بجلد ميت بلا احاسيس.
الكلمة مروية، فبالإضافة لوجودها المؤكد في النقش المذكور، يمكن تفكيكها لإثبات أصلها المروي، وتفصيلها هو:
shi: يُرضي، يٌشبع رغبة satisfy:
r (o): يفتح، يجعله مشاعا unlock: ،
mo: يكون to be:
t (a): هي she:
ويكون مجمل المعنى: (هي التي تكون مشاعة لإشباع الرغبات)
وفي الإنجليزية فإن كلمة (charm) تحمل معاني قد تكون ذات صلة بهذه الكلمة وتثير شكوكا قوية في ان الكلمة الإنجليزية ربما خرجت بصورة أو أخرى من عباءة الكلمة المروية. فمعناها هو: مبهج أو باعث على السرور بدرجة كبيرة جدا extremely pleasing or delightful
ومن مترادفات كلمة ((charm:
يغوي، أو يغري ((lure.
ما يجذب أو يغري، something that attracts or tempts
يغري بتقديم متعة او منفعة to tempt by offering pleasure or gain
وأخيراً: مصدر غواية، لديه نزاعة للغواية، لديه مقومات الغواية والإغراء
Tending to seduce: having alluring or tempting qualities: Seductive
أما الفرنسية فنجد فيها كلمة، (charmante) وتنطق (شارمونت) وهي تشير لنفس معاني كلمة الإنجليزية (charm)، والنون في الكلمة الفرنسية تبدو وكأنها مدمجة مع التاء بحيث تُسمع (شارموت)، وفي البرتغالية نجد (شرموزو) وفي البرتغالية البرازيلية (شارموزو) بنفس المعاني.
حُظيت الكلمة بانتشار واسع في العاميات العربيات، وفي بعضها لا تقتصر على الأنثى وحسب بل تشمل الذكر ايضاً؛ كما في العامية المصرية والفلسطينية وغيرهما، فيقال رجل شرموط أي داعر. وفي دول الخليج واليمن توجد كلمة مرادفة لها هي (قحبة) وتستخدم الكلمتان جنباً إلى جنب.
لا علاقة لكلمة شرموط ومعناها اللحم المجفف (القديد) بالكلمة المروية، بل نُحتت في اللغة العربية من مادتي (شرم) و(مطط)، والنحت في العربية هو دمج كلمتين للحصول على كلمة جديدة، (وهو في الاصطلاح ان ينتزع من كلمتين او أكثر كلمة جديدة تدل على معنى ما انتزعت منه ومن ذلك البسملة من بسم الله الرحمن الرحيم، والحمدلة من الحمد لله، وبعثر من بعث وأثار، وجلمود من جَمُد وجَلُد) ( )، ودحرج من دحر ودرج.
ورد في لسان العرب:
والشَّرْمُ: الشَّق، شَرَمَهُ يَشْرِمُه شَرْماً فَشَرِمَ شَرَماً وانْشَرَم وشَرَّمَهُ فَتَشَرَّم. والشَّرْمُ: مصدر شَرَمَهُ أَي شَقَّه؛
ومَطَّ الشيءَ يَمُطُّه مَطّاً: مدّ.
والمد لغة في المط، وابن دريد يقول: المد والمت والمط متقاربة في المعنى بينما يرى اميل يعقوب أن (فعل المط اقوى لأنه مد وزيادة جذب؛ فناسب الطاء التي هي أعلى من الدال) ( ).
ووجه مجيء الكلمة على هذا النحو هو أن اللحم الشرموط لا يُقطَّع قِطَعاً صغيرة؛ بل يكون في نسق طويل اشبه بالسلسلة أو الحبل، والغرض من ذلك تسهيل تعليقه ليجف، ولمنع تعفنه، كما أن في تعليقه حفظ له من النمل والحيوانات آكلة اللحوم مثل الثعالب والكلاب والقطط. لذا جاء الوصف في الكلمة من الشرم أي الشق وليس من القطع، فهو يُشقق ويُمد، أما إذا قُطِّع قطعاً صغيرة فلن يكون بالإمكان مده.
تعتبر الكلمة المروية خادشة للحياء، ويتم تداولها في أضيق نطاق ممكن في السودان؛ إلا أن التعامل مع الكلمة العربية (شرموط) يجري دائماً بتسامح شديد؛ ودونما أي حرج أو خجل؛ وعلى مختلف مستويات المجتمع، وأنى يأتي الحرج وملاح الشرموط (أي إدام القديد) وجبة تقليدية في بعض مناطق السودان؟
ربما كان هذا نابعاً من إحساس داخلي أن جذور الكلمة العربية نفسها بريئة ولا غبار عليها؛ ولا تُشير إلى أي شيء مشين. ومن امثلة عدم التحرج في تناول الكلمة بمعناها العربي ما جاء عن الشيخ فرح ود تكتوك ( )، فقد خرج الشيخ بابنته (ضوة) الى الطريق حينما بلغت مبلغ النساء، ولما تكاثر الناس حوله صاح بهم:
مِن داير الحمامة
قبال تحصل ندامة
النسوان شرموط الكرامة
زوجوهن يا وهامة.
والكرامة وليمة احتفالية تقام في مناسبات دينية أو اجتماعية كالشرافة، أو المولد النبوي، أو برء مريض، أو عودة مسافر وما إلى ذلك، ويصنع طعامها من مواد بسيطة، كاللوبياء أو الذرة، وقد يصحبها لحم طازج، وأحياناً تصنع من الذرة مع اللحم المجفف (الشرموط)، والمعنى المقصود من (شرموط الكرامة)؛ هو أن هذه الكرامة لن تكون طيبة ومستساغة من غير وجود هذا الشرموط. وكأنه يريد القول إن الحياة من غير امرأة لن تكون مستساغة. لذا انفوا عنكم الأوهام أيها القوم وبادروا إلى تزويج بناتكم.
وفي مجال آخر وفي مجلس سُكْر صاخب يغني فيه الندامى وهم يتتبعون خطى الحان المدائح النبوية) ).
يا مجلساً مكنوسا لينا مزخرفا
يا زيراً ساقطاً هو بالطين ملبخا
وشرموطاً على الجمر السريع توشوشا
وسجاراً بالكبريت لينا تولعا.
فهنا يتمنى المعربدون مجلساً مكنوساً، وزيراً ساقطاً أي جرة بها ماء بارد ساعد الطين على تبريده، وشرموطاً تُلقى شرائحه ممدودة على الجمر، فإذا به (يتوشوش)، وآخر أمنيات المعربدين سيجارات يكتمل بها الكيف، وأن يتولى حامل الكبريت مهمة أن يشتعل رأس كل سيجارة لوناً أحمرا؛ فلا يكلف الندامى أنفسهم بالذهاب للجمر واشعالها من هناك.


nakhla@hotmail.com

 

آراء