العبادي (21) سبعة الحزّاز.. والرقبة قزاز !!
د. مرتضى الغالي
19 July, 2022
19 July, 2022
نَظْم العبادي له علاقة وثيقة بعلاقة (الشكل والمضمون) أو المعنى والمبنى..وهو هنا يدخلنا في (القصة الطووويلة) الخاصة بالعلاقة بين النص وقالبه..أو الشكل والمضمون...وهي مسألة صاحت بها الحناجر وسالت فيها المحابر وكتبت فيها الكتب وانعقدت فيه المنتديات وانفضت..واندلعت حولها المعارك الأدبية وتشاجر حولها القوم في مختلف الأزمان والمجتمعات..والشاعر الصوفي أو الصوفي الشاعر (ابن الفارض) يقول في إشارة عجيبة:
ولطف الأواني في الحقيقة تابعٌ / للطف المعاني والمعاني بها تسمو
من العسير الحديث عن البحور الشعرية ومجزوءاتها ومستدركاتها في الشعر الشعبي والأغاني الشعبية باللغة الدارجة؛ ولكن أوزان الشعر والقافية و الموسيقي الداخلية لا تغيب عن الشعر أياً ما هو الشعر.. والعبادي شاعر..! وقد ألمحنا كيف أنه اختار رواية من المديح عندما أراد أن يكتب أغنيته التي يتضرع فيها ويدعو إلى شفاء محبوبته (أمونة) من وعكة ألمت بها (حمى) ويستشفع بالأولياء والصالحين في أغنيته: (ناديت رجال الهِمّه/ تنجو آمونه من الحمّى).. فقد اختار العبادي رواية مديح شهيرة جرت بها كثير من الأمداح السودانية لعديد من شعراء ساروا في بحرها: فهي عند الحسن البصري السوداني:
شاشيت لي روح السُنّه / الهادي ريس الجنه ..شاشيت
وعند البرعي الكرفاني:
دوبيت لي سوح نور سيدو / ناوي القومه افوت لي مسيدو ..دوبيت
وفيها مثل هذه الضراعة التي يفسّرها اللحن:
عبدك ربي رافع ايدو ليك..ارفع مكانتو وزيدو
يوصل طيبه قُبّال عيدو ويحج يعتمر لي سيدو..!
ثنيت بي الإلاهو بريدو جبريل بوسطتو وبريدو (Post-Mail)
يوهب لليتامى ثريدو قايم للإله تجريدو
(الثريد فصيحة: وهي الفتّة المكللة باللحم)..!
*
نبياً ما كنّز ما صرّا للمال والجبين ما صّرا
يحلب شاتو ايضاً صّرا لاقدامو البعيد انصّرا
(صرار الشاة) عائق من خرقة أو نحوها يلف به ضرع الشاة لمنع رضاعته..والبعيد انصرّ أي البعيد دنا واقترب
ولا بد أن العبادي كان في وجدانه ذلك اللحن الخفيف في طقطوقة "ظبي العزاز":
ظبي العزاز ...الجيدو قزاز... يا عُزاز... انا نومي خزاز
ومصرع أبياتها الذي لا يتجاوز كلمتين:
سبعه الحزّاز / والرقبة قزاز../ حُق الابزاز../ بالمرّه لذاذ
أحور وافقل / من شوفتو وَقَل / طيّو مَرقّل/ شيش يتنقّل
وأيضاً الإيقاع السريع في أغنيته (يا موفورة النفل / يا الهيبه الكست الحِفَل) لكن في جرس مدوٍ كأنه قرع الطبول:
اتمايح مايس رتل رن في قلوبنا حجيلو تل..!
عام نهدو وكتفو الحتل يتوسد في فناديو تل..!
*
اتناعس مايح قدَل في الارداف رمّى الجِدل..!
في القامه الزاينه البِدَلشفنا الجور والعَدَل..!
العبادي يقصد (انفزار الصدر يقابله انجذاب الكفل..هذا هو العدل)..!
وهكذا..
وهناك أغنية لها موسيقى خفيفة ولكنها (رزينة) حسب أجواء الشكوى والالتياع لا الوصف ولا جو الابتهاج:
يا ليلي الوصل مرّه / الهَجُر ضوقني مُرّه
*
قلبي مجبول في رباكي / بين رماحك وبين ظباكي
ما اظن البي غباكي / ارحميني تملّي باكي..!
هذه مختلفة عن قوافي ورواية أغنية العبادي التي تبدأ:
حبيب ألم البعاد حشّش كلاي واجرى..
دمعي.. انا شوقي طايل لي ظبيات وجرَه
ولا رواية بحر:
شيخ ريا حسبك من فَخُر/ ليك البدور طايعات تخُر
و(البدور التي تخُر طواعية) هي الحسان اللواتي يملك العريس (شيخ ريا) أن يأمرهن بالرقص فيستجبن وينكعن تجاهه بالشبال..وهذه النكعة وميلة الراقصات بالشبال هي التي شبهها العبادي بالبدور أو الكواكب التي تخُر في جانب السماء..!
أما نظم أغنيات السيرة والأجواء المرحة الاحتفالية فهي ما يصوّرها العبادي في أغنيته: (من فروع الحنه وزهرة التفاح/ هاج بلابل فكري النسيم الفاح):
خلي امعن شوفا وقولي ايه يا النور / هل رأيت لك صيده أم دا جام بنور..؟
جل من انشاها وصاغا شُعلة نور / هل دا جيد وقلاده؟ أم نجوم وصباح..؟!
وهكذا..
ويختلف نظم برضي ليك المولى عن كل هذا حيث يحمله التوشيح لأن يجعل في المقطع الواحد من القصيدة ثمانية أشطار أو أغصان مع تنويع القافية : قافية المقطع مع قافية المطلع الأساس:
يا مناي ظروفي العصيبه حايله دونك وما لي صيبه
قال لي هاك اقوالاً مصيبه كل نفساً توجد نصيبا
والبيصيبا المولي اليصيبا ....بالقدر كم عز الذليل
كم ربوعا اجدب خصيبا وما في فجراً ما عقبو ليل
وهكذا...
ولك أن تقف كثيراً أو قليلاً على أغنية (ببكي وبنوح وبصيّح) لأنه يُقال إنها استهلال الأغنية الجديدة أو بداياتها الأولى على اقل تقدير انتقالاً من الطمبره و(الحومبي): فالجديد ليس فقط تسهيل الاندراج اللحني وتمهيد الطريق وموارنة (الدراب) بل في الغنائية المتدفقة والأخيلة الجديدة:
فرع النقا المميّح / منّو المسك بفيّح
قبال صباحو يبيّح / بلبل قلوبنا يصيّح..!
*
يا جنة الطبيعة / أياك زهرة ربيعا
صحّت شراها وبيعا / عينيك (سيوف ربيعه)..!
ثم لولا أن اللحن كان يعتمل في وجدانه قبل صياغة أغنية (تذكارا أحرمني الهجود) لما جعل مطلعها من ثلاثة مصاريع على خلاف أبياتها الرباعية:
تذكارا احرمني الهجود / ومسّخ عليَ كل الوجود
بي ليما يا باري جود
وهكذا...
**
أما في نظم الشعر المسرحي فلا ندري هل سار العبادي على بنات أفكاره وعبقريته وبراعته و(بصارته) أم إنه اطّلع على مسرحيات (أحمد شوقي) مثل مجنون ليلى وعنترة مصرع كليوباترا وعلي بك الكبير وقمبيز والست هدى؛ ومسرحيات عزيز أباظة مثل شجرة الدر وقيس ولبنى والعباسة؛ أو روميو وجوليت التي نظمها الحضرمي المصري (على احمد باكثير) وباكثير هو شاعر اغنية "البحيرة" التي غناها عبدالدافع عثمان (إن رأيتِ الصُبح يبدو لك سحرا/ فاذكريني واذكري يوم البحيرة)..!
ولكن تبدو مهارة النظم عند العبادي في مسرحيته (المك نمر) عبر تقطيع بيت الشعر الشعبي وتوزيع مفرادته بين شخوص الرواية...ولك من هذا مجرد أمثلة:
عبدالله : هيا جايهو الزُمَل..
شيخ العرب: خليهو يا عبدالله
غرضي إن ما انقضى أنا زملي ما بدلّى
طه: كدي شوف الطعام شيخ العرب بسم اللَه..!
.....
وددكين: جاييكم نسيب تدوني بطحانيه
عبدالله: خير سميّـها...
ود دكين: في بت أب كبس لي نيّه
...
طه: محال يخلف محال قال جايبو غرضاً عندي
ريا: كان غرضاً صعب..؟
طه: كان راس نمر في شندي..!
وهلمجرا...
murtadamore@yahoo.com
///////////////////////////
ولطف الأواني في الحقيقة تابعٌ / للطف المعاني والمعاني بها تسمو
من العسير الحديث عن البحور الشعرية ومجزوءاتها ومستدركاتها في الشعر الشعبي والأغاني الشعبية باللغة الدارجة؛ ولكن أوزان الشعر والقافية و الموسيقي الداخلية لا تغيب عن الشعر أياً ما هو الشعر.. والعبادي شاعر..! وقد ألمحنا كيف أنه اختار رواية من المديح عندما أراد أن يكتب أغنيته التي يتضرع فيها ويدعو إلى شفاء محبوبته (أمونة) من وعكة ألمت بها (حمى) ويستشفع بالأولياء والصالحين في أغنيته: (ناديت رجال الهِمّه/ تنجو آمونه من الحمّى).. فقد اختار العبادي رواية مديح شهيرة جرت بها كثير من الأمداح السودانية لعديد من شعراء ساروا في بحرها: فهي عند الحسن البصري السوداني:
شاشيت لي روح السُنّه / الهادي ريس الجنه ..شاشيت
وعند البرعي الكرفاني:
دوبيت لي سوح نور سيدو / ناوي القومه افوت لي مسيدو ..دوبيت
وفيها مثل هذه الضراعة التي يفسّرها اللحن:
عبدك ربي رافع ايدو ليك..ارفع مكانتو وزيدو
يوصل طيبه قُبّال عيدو ويحج يعتمر لي سيدو..!
ثنيت بي الإلاهو بريدو جبريل بوسطتو وبريدو (Post-Mail)
يوهب لليتامى ثريدو قايم للإله تجريدو
(الثريد فصيحة: وهي الفتّة المكللة باللحم)..!
*
نبياً ما كنّز ما صرّا للمال والجبين ما صّرا
يحلب شاتو ايضاً صّرا لاقدامو البعيد انصّرا
(صرار الشاة) عائق من خرقة أو نحوها يلف به ضرع الشاة لمنع رضاعته..والبعيد انصرّ أي البعيد دنا واقترب
ولا بد أن العبادي كان في وجدانه ذلك اللحن الخفيف في طقطوقة "ظبي العزاز":
ظبي العزاز ...الجيدو قزاز... يا عُزاز... انا نومي خزاز
ومصرع أبياتها الذي لا يتجاوز كلمتين:
سبعه الحزّاز / والرقبة قزاز../ حُق الابزاز../ بالمرّه لذاذ
أحور وافقل / من شوفتو وَقَل / طيّو مَرقّل/ شيش يتنقّل
وأيضاً الإيقاع السريع في أغنيته (يا موفورة النفل / يا الهيبه الكست الحِفَل) لكن في جرس مدوٍ كأنه قرع الطبول:
اتمايح مايس رتل رن في قلوبنا حجيلو تل..!
عام نهدو وكتفو الحتل يتوسد في فناديو تل..!
*
اتناعس مايح قدَل في الارداف رمّى الجِدل..!
في القامه الزاينه البِدَلشفنا الجور والعَدَل..!
العبادي يقصد (انفزار الصدر يقابله انجذاب الكفل..هذا هو العدل)..!
وهكذا..
وهناك أغنية لها موسيقى خفيفة ولكنها (رزينة) حسب أجواء الشكوى والالتياع لا الوصف ولا جو الابتهاج:
يا ليلي الوصل مرّه / الهَجُر ضوقني مُرّه
*
قلبي مجبول في رباكي / بين رماحك وبين ظباكي
ما اظن البي غباكي / ارحميني تملّي باكي..!
هذه مختلفة عن قوافي ورواية أغنية العبادي التي تبدأ:
حبيب ألم البعاد حشّش كلاي واجرى..
دمعي.. انا شوقي طايل لي ظبيات وجرَه
ولا رواية بحر:
شيخ ريا حسبك من فَخُر/ ليك البدور طايعات تخُر
و(البدور التي تخُر طواعية) هي الحسان اللواتي يملك العريس (شيخ ريا) أن يأمرهن بالرقص فيستجبن وينكعن تجاهه بالشبال..وهذه النكعة وميلة الراقصات بالشبال هي التي شبهها العبادي بالبدور أو الكواكب التي تخُر في جانب السماء..!
أما نظم أغنيات السيرة والأجواء المرحة الاحتفالية فهي ما يصوّرها العبادي في أغنيته: (من فروع الحنه وزهرة التفاح/ هاج بلابل فكري النسيم الفاح):
خلي امعن شوفا وقولي ايه يا النور / هل رأيت لك صيده أم دا جام بنور..؟
جل من انشاها وصاغا شُعلة نور / هل دا جيد وقلاده؟ أم نجوم وصباح..؟!
وهكذا..
ويختلف نظم برضي ليك المولى عن كل هذا حيث يحمله التوشيح لأن يجعل في المقطع الواحد من القصيدة ثمانية أشطار أو أغصان مع تنويع القافية : قافية المقطع مع قافية المطلع الأساس:
يا مناي ظروفي العصيبه حايله دونك وما لي صيبه
قال لي هاك اقوالاً مصيبه كل نفساً توجد نصيبا
والبيصيبا المولي اليصيبا ....بالقدر كم عز الذليل
كم ربوعا اجدب خصيبا وما في فجراً ما عقبو ليل
وهكذا...
ولك أن تقف كثيراً أو قليلاً على أغنية (ببكي وبنوح وبصيّح) لأنه يُقال إنها استهلال الأغنية الجديدة أو بداياتها الأولى على اقل تقدير انتقالاً من الطمبره و(الحومبي): فالجديد ليس فقط تسهيل الاندراج اللحني وتمهيد الطريق وموارنة (الدراب) بل في الغنائية المتدفقة والأخيلة الجديدة:
فرع النقا المميّح / منّو المسك بفيّح
قبال صباحو يبيّح / بلبل قلوبنا يصيّح..!
*
يا جنة الطبيعة / أياك زهرة ربيعا
صحّت شراها وبيعا / عينيك (سيوف ربيعه)..!
ثم لولا أن اللحن كان يعتمل في وجدانه قبل صياغة أغنية (تذكارا أحرمني الهجود) لما جعل مطلعها من ثلاثة مصاريع على خلاف أبياتها الرباعية:
تذكارا احرمني الهجود / ومسّخ عليَ كل الوجود
بي ليما يا باري جود
وهكذا...
**
أما في نظم الشعر المسرحي فلا ندري هل سار العبادي على بنات أفكاره وعبقريته وبراعته و(بصارته) أم إنه اطّلع على مسرحيات (أحمد شوقي) مثل مجنون ليلى وعنترة مصرع كليوباترا وعلي بك الكبير وقمبيز والست هدى؛ ومسرحيات عزيز أباظة مثل شجرة الدر وقيس ولبنى والعباسة؛ أو روميو وجوليت التي نظمها الحضرمي المصري (على احمد باكثير) وباكثير هو شاعر اغنية "البحيرة" التي غناها عبدالدافع عثمان (إن رأيتِ الصُبح يبدو لك سحرا/ فاذكريني واذكري يوم البحيرة)..!
ولكن تبدو مهارة النظم عند العبادي في مسرحيته (المك نمر) عبر تقطيع بيت الشعر الشعبي وتوزيع مفرادته بين شخوص الرواية...ولك من هذا مجرد أمثلة:
عبدالله : هيا جايهو الزُمَل..
شيخ العرب: خليهو يا عبدالله
غرضي إن ما انقضى أنا زملي ما بدلّى
طه: كدي شوف الطعام شيخ العرب بسم اللَه..!
.....
وددكين: جاييكم نسيب تدوني بطحانيه
عبدالله: خير سميّـها...
ود دكين: في بت أب كبس لي نيّه
...
طه: محال يخلف محال قال جايبو غرضاً عندي
ريا: كان غرضاً صعب..؟
طه: كان راس نمر في شندي..!
وهلمجرا...
murtadamore@yahoo.com
///////////////////////////