العراق والسودان : مخاطر ومحن مع الانتخابات القادمة … بقلم: د. على حمد إبراهيم

 


 

 

تجرى انتخابات مهمة فى البلدين الكبيرين – العراق والسودان فى مارس وابريل القادمين على التوالى. وتعمر اشواق كبيرة نفوس شعبى البلدين لاستقرار حقيقى  يضع والى الابد نهاية سعيدة لحالات الشقاق والتفلت السياسى والاجتماعى التى سادت حياة الشعبين فى القطرين المتشابهين فى كثير من المزايا والبلايا . ولكن ، وبذات القدر ، تعمر نفوس شعبى البلدين  مخاوف جمة مما قد يحدث فيهما من تطورات سلبية محتملة اذا فشل البلدان فى اخراج انتخابات نزيهة تقنع المتنافسين والمراقبين والمحللين بنزاهتها مما يؤدى الى اعتراف الجميع بنتائجها . و قبول جميع الاطراف بما قسمه لها الصندوق الانتخابى عن طيب خاطر .وهذا بدوره سوف يؤدى  الى استقرار نفسى  لدى شعب وقادة البلدين. ويجعلهم ينصرفون جميعا الى بناء المستقبل الذى تأمل فيه الاجيال الصاعدة فى بلدين يزخران بخيرات طبيعية هائلة كفيلة بتحويلهما الى مرفأ آمن من كل الجوانب بالنسبة لشعبيهما اللذين هما عبارة عن شعوب كثيرة تدامجت عبر العصور فى شعب واحد  تتعدد لهجاته وتتطلعاته وامزجته وثقافاته ونوازعه الاجتماعية ولكنها تبقى فى مسار الامة الواحدة التى تؤسس قوتها فى التعدد المتماسك .

لقد اسس العراق ملكية دستورية يوم ظهرت دولته الحديثة فى عام 1921  . وكانت الدولة الناشئة دولة واعدة. ولكن المرض الثورى الذى  تفشى وتخلق فى احشاء الامة العربية حينها، وانتقل الى العراق بعد مولد الدولة الناشئة بقليل ، تمكن من جسم ومسام الدولة الوليدة ثم اطاحها  فى العام 1958 بانقلاب دموى مدمر ، كان فاتحة  لعهود من الانقلابات الدموية فى العراق التى اسالت ،  انهارا من الدماء العراقية. بينما صار شعب العراق مكلوما و فى بلية من امره. ولم يكن فى حوله ل ولا فى طاقته دفع ذلك البلاء العظيم عن نفسه .

 لقد ذرع الثوريون الكذبة فى العراق الحديث الوهن النفسى والانخزال والاستسلام للأمر الواقع. وثبتوا وصايتهم على الشعب العراقى ، يزعمون له أنهم يرونه ما يرون ولا يرونه الا سبيل الرشاد ، بزعمهم الكاذب ، مثل زعم فرعون موسى لقومه ، فاوردهم مورد الهلاك كما اخبرنا المولى سبحانه وتعالى ، عزّ من مخبر. وكانت كل فئة باغية من فئات الثوريين الكذبة حين تاتى بليل على ظهر دباباتها ، كانت تلعن اختها السابقة ، وتقول فيها مالم يقله مالك فى الخمر. وتستحوز هى على كل الشرف الوطنى . ولا تترك لمن سبقها ، او لمن يأتى بعدها حتى بعضا من خشاش السياسة . قد تصعب  امام اى محلل سياسى الموازنة  بين  فظائع الثوريين الكذبة العراقيين ، الذين بطشوا بشعبهم ، وقتلوه وسحلوه باسم الوطنية والثورية قتلا وسحلا وترويعا لا هوادة فيه ، وبين فظائع الجنون الطائفى والمذهبى الذى خرج من بطن القمقم  بعد صدام حسين. واحدث دمارا مهلكا على كل الجبهات . وجعل الشعب الذى كان يئن من اوجاعه على عهد صدام حسين. جعله يقارن بين محن ماضيه القريب ومحن حاضره المعاش ، فلا يرى فرقا بين القاتل الثورى ، الذى كان يقتل على الهوية السياسية ، وبين القاتل الطائفى المجنون ، ظل حتى اليوم  يقتل  على الهوية المذهبية والطائفية.

لقد ذهب الثوريون الكذبة الى مزبلة التاريخ  وبقى العراق المنكوب. ولكن المرضى الطائفيين لم يذهبوا ولم يتعافوا من امراضهم . ما زالوا يرتادون الوهاد الضالة ، وما زالوا يصنعون الموت ، ويكتبون تاريخا جديدا اسودا  فى عراق ما بعد  صدام حسين ، يرتكبون الفظائع ، وينشرون الموت والدمار باساليبهم الخاصة المبتكرة ، التى توزع الموت والدمار على الابرياء على قارعة الطريق ، حتى صار البرئ  لا يدرى  بأى موقع يموت ، وفى اى لحظة .فقد اصبح الموت الطائفى يختبئ فى الاركان  ، والزوايا ، يأخذ ضحاياه خبط عشواء .وهرب  العراقيون من بلدهم ، كل يصيح بوجه اخيه ناصحا ، انج سعد فقد هلك سعيد.

 لقد دفع شعب العراق ثمنا باهظا لكى يتخلص من  صدام حسين وزبانيته القتلة الآخرين.   ولم يكن ثمنا مستحقا. فقد علم الشعب المنكوب كيف كان صدام حسين وزبانيته ، كيف كانوا نمورا من ورق . لقد كانوا اسودا  على شعبهم وجيرانهم . ولكنهم كانوا نعاما فى الحروب التى اشعلوها فى جنون . لقد ذاب النظام الهمبول الذى اوهم الجميع بقوته الظاهرة، ذاب  فى سويعات ، بين غمضة عين وانتباهتها  كما يذوب فص الملح فى الماء الساخن ، فلا يبقى منه اثر او مذاق . لقد كان ذوبان النظام  السريع سببا كافيا لأن تتوقف الآلة الحربية الامريكية عن جنونها ، وهى تتوهم انها تطارد خصما لجوجا يتجهمها من وراء الحجب والاكمات. لقد صنعت لنفسها عدوا متوهما . واورثها ذلك الوهم  الخبال والجنون العسكرى ،  الذى  اهدر الانفس ودمر الممتلكات والمقدرات فى عراق الحزن التليد. لم تتوقف  الآلة الامريكية  العمياء عن جنونها الا بعد فوات الاوان.

لقد دفع شعب العراق ثمنا باهظا لاطاحة نمر من ورق . و ما زال يدفع الفواتير  المتعددة الهويات والمصادر . ولم يعد احد فى العراق يدرى  متى تقدم آخر فاتورة ، ومتى يقفل الخساب .

 الآن اصبحت  الانتخابات العراقية على الابواب.  وهى الانتخابات التى يكبر ازاءها امل الشعب العراقى ، وتكبر ازاءها  ايضا مخاوفه المبررة . فالشعب العراقى يأمل فى انتخابات تعيد له كينونته وسيادته ، وزمام امره. وتغلق الى الابد الملف الامريكى فى حياة هذا الشعب الملغوم  بالكبرياء والشهامة الوطنية. فاذا نجحت الانتخابات القادمة فى كتابة هذا السطر الاخير فى حياة الشعب العراقى ، تكون قد ادت الغرض المنشود منها . و يبقى على الشعب العراقى ان يمضى فى سد الثغرات المتبقية هنا وهناك مثلما يحدث فى اى بناء جديد . اعادة بناء دولة العراق الحديثة التى  ولدت فى عام 18921 ثم انهارت ، اعادة ذلك البناء  هو عمل جديد بكل المقاييس. وسوف يكون مكتظا بالتشققات هنا وهناك . وقد تتطلب عملية التشطيب  والتزويق النهائى المزيد من الجهد والصبر .

اما اذا استمرأ الطائفيون المذهبيون الاستمرار فى العبث بحياة ومقدرات الشعب العراقى. واستمروا فى جنونهم ، من نشر للموت والدمار ، ومن تخريب متعمد لمعنويات شعب العراق، وتسفيه احلامه فى حياة جديدة  آمنة ومستقرة ، وحولوا الساحة العراقية الى حريق ملتهب ، ودمروا الانتخابات القادمة ، فان نطاق الفتن العشوائية سوف يتسع . وسوف يتسع حينها الفتق على الراتق. وسوف يعود البوم الحزين  ينعق فى ليل الحزانى العراقيين بلا توقف. والله وحده يعلم ما سيؤل اليه حال مهد الحضارات الانسانية الذى سيذكر التاريخ ان اسمه كان العراق البابلى ، مسرب الخليل  ومسرى عظماء التاريخ البشرى.

وبعد : هل يرتفع شعب العراق فى مارس القادم الى مستوى عظم  المسئولية التاريخية الملقاة على عاتقه بالعودة ببلده الى الحياة المستقرة ، وبناء جسور الثقة المهدمة بين طوائفه المتعددة. وتجسير امكانياته المادية ، والبشرية لحياة الانسان العراقى  . و لحياة انسان الجوار الجغرافى الشقيق الذى ظلمه طغاة العراق باسم الشعب العراقى ذات يوم . ذلك هو المرجو . وذلك هو الأمل. و منذ القدم ثبت فى مكانه الراسخ القول الماثور القديم:

 ما أ ضيق الخياة لولا فسحة الامل

* اما البلد الآخر الذى يتطلع الى اجراء انتخابات مفصلية  قريبا ، فهو السودان.لقد ابتلى الله شعب السودان ، هو الآخر، بنوع  آخر من الثوريين الكذبة . نصف قرن من الزمن الا قليلا قضاها شعب السودان تحت ضجيج جنازير الدبابات.ووسط اكاذيب انبياء الحقيقة الغائبة الذين يزعمون  امتلاك الحكمة وفصل الخطاب . فى آخر الانقلابات قيل لنا انهم خطفوا السلطة فى جنح الظلام  جاءوا حتى لا يصل سعر الدولار فى السوق السوداء الى عشرين جنيها سودانيا. وكان سعره قد وصل يوم وقوع الانقلاب الى اثنى عشرة جنيها. اما  سعره اليوم  فيقارب الثلاثة الف جنيه سودانى  ولا مدعاة للضحك و لا قدرة عليه. فعلى ماذا  نضحك الناس وعلى ماذا نبكى . وقيل لنا ايضا انهم جاءوا لأن قوات المتمرد جون قرنق اصبحت على مشارف الخرطوم . متى حدث هذا  ، واين حدث ، و أين تلك المشارف التى اصبحت عليها قوات قرنق ، فلا احد علم ولا اجد رأى. لقد طردت قوات العقيد قرنق من مدينة الكرمك  فى ظرف اسبوع واحد . والكرمك ليست من ضواحى الخرطوم .ولكن قوات قرنق احتلت الكرمك مجددا فى غهد الانقاذ ومعها احتلت كل جنوب النيل الازرق وجنوب كردفان وطلت فى اماكنها تلك حتى ضمتها رسميا الى الاقاليم الواقعة تحت سيطرتها الى يومنا هذا. يضاف الى هذا ان قوات الجيش السودانى قد اجليت تماما من كل الجنوب الا منة قوات مشتركة حسب نصوص اتفاقية السلام الى وضعت الجنوب كله على طريق الانفصال الفعلى. واصبح قرنق ليس فى ضواحى الخرطوم ( التى لم يكن فيها فى يوم من الابام)  ولكنه اصبح فى قلب القصر الجمهورى  . 

 الآن ، وبعد عشرين عاما حسوما ، قبل الانقلابيون بالدخول فى انتخابات محسوبة ومحسومة سلفا بخسب تصريخات  الدكتور نافع على نافع ، مساعد رئيس الجنهورية والمنافح الشرس عن نظام الانقاذ.

وينتظر السودانيون بقلق مبرر ليروا  ان كانت انتخابات ابريل القادم  سوف تقرر بقاء السودان بشكله الجغرافى الحالى ،  ام يتشقق الى اشكال جديدة متعددة قد لا يفقد معها شعب السودان فقط دولته الموحدة ، انما يفقد كذلك امنه واستقراره الداخلى بصورة قد تشيع فيه فوضى عارمة قد يصعب معها لملمة اطرافه  المترامية اصلا.اما لماذا صار لانتخابات ابريل القادم فى السودان هذه الخاصية الحساسة ، ولماذا اصبحت  تهدد وجوده الوحدوى ،  وامنه واستقراره الداخلى ، وتبعث فى نفوس شعبه وفى نفوس جيرانه الاقليميين كل هذا القدر الهائل من القلق والخوف على مصيره . فمبعث هذاكله هو ان اتفاقية السلام التى انهت الحرب الاهلية فى السودان ذرعت فى احشائها وفى زواياها المفصلية ، عن قصد او عن غير قصد ، ذرعت فى احشائها وزواياها المفصلية قنايل موقوته كثيرة ، تكفى اية واحدة منها لنسف الاتفاقية من اساسها اذا خارت الارادة السودانية فى اى لحظة من اللحظات وضعفت امام مستحقات تنفيذ تلك الاتفاقية الكثيرة النصوص ، والمعقدة  بما لا مزيد عليه من التعقيد. والمغلفة بكثير من الغموض ، المقصود حينا و غير المقصود حينا آخر. فقد التف الوسطاء الدوليون والاقليميون والمتفاوضون السودانيون على كثير من الموضوعات التفاوضية الشائكة والمعقدة ، التفوا عليها بكثير من النصوص الغامضة والملتوية والمعممة  والنصوص حمالة الاوجه المتعددة ،  بحثا عن فسحة يوفرها الزمن والانتظار ،  مثل ذلك  الحكيم الذى انتظر فرجا قريبا يأتى به الزمن  اما بموت الجمل او الجمّال.

 لقد ترك الوسطاء مسائل فى غاية الخطورة بلا حلول فاصلة. او بحلول مموهة او بلا حلول البتة. وكان على رأس  القضايا التى لا تقبل الانتظار ومع ذلك لم تحسم قضايا ترسيم الحدود  فى بلد ذاهب جزء منه الى صندوق الاستفتاء فى ظرف عام واحد لكى يقرر هل يبقى فى البلد الكبير هذا ام يتخذ له بلدا واسما جديدا . عمليا يصبج الامر مجرد مخاطرة غير محسوبة ومدعاة لنشؤ نزاع مسلح جديد واكثر عنفا اذا اجرى الاستفتاء  قبل جل كافة القضايا المعلقة مثل ترسيم الحدود القومية وحدود اقليم  ابيى ومناطق انتاج البترول .

 منطقة أبيى ، من كل القضايا المعلقة هى القنبلة الموقوتة الحقيقية التى قد ياتى منها خطر جسيم على كل اتفاقية السلام لأنها قضية عاطفية بالنسبة للطرفين المتنازعين . لقد تساكنت القبيلتان على مدى قرن من الزمن فى هذه المنطقة فى مودة ووئام . ولكن ظهور الذهب الاسود فى المنطقة ، وظهور العرقية والقبلية فى قالب سياسى جديد  واجه الانسان السودانى بمحنة جديدة لم تكن لتخطر على باله فى العقود القليلة الماضية .و بقيت شوكة ولغما فى خاصرة الاتفاقية الملغومة اصلا بعشرات الالغام الفاتكة .  واصبحت بحق قنبلة موقوته سوف تنفجر فى اللحظة التى  يقرر فيها الجنوبيون الانفصال عن الشمال  واقامة دولة جديدة فى الجنوب ستنضم اليها منطقة ( أبيى ) ولكن الشق العربى فى المنطقة سوف يرفض انضمام المنطقة الى الدولة الجديدة فى الجنوب.  وسوف تكون تلك هى اللحظة التى سوف يهدر فيها السلاح بقوة. والله وحده يعلم متى وكيف يتوقف . قنبلة  موقوتة اخرى  فشلت الاتفاقية فى التعامل معها حتى الآن هى مسألة تحديد الانصبة البترولية العائدة لكل  طرف فى مناطق الانتاج المشتركة بين طرفى البلد. تحديد تبعية هذه المناطق الغنية بالبترول يجب ان يسبق  اجراء استفتاء تقرير المصير ، فالنار التى قيل انها تندلع من مستصغر الشرر ، قد تندلع من مستكبر الشرر الذى هو الذهب الاسود الكامن فى باطن هذه  الارض التى كانت ذات يوم ملاذ محبة واخاء بين ابناء القبيلتين .

لكل ما تقدم من الاسباب يدخل الشماليون والجنوبيون انتخابات ابريل القادم بنفوس مشبعة بالشك والظن . كل طرف يعتقد فى قرارة نفسه أنه على صواب  والطرف الآخر على حطأ. وسوف تكفى اصغر بادرة عنف من اى طرف من  الطرفين اثناء الحملة الانتخابية  لتفجير الموقف برمته . هل  يحتاج المراقب لكى يذكر بالانباء التى ظلت ومنذ شهور تتواتر وهى تتحدث عن شحنات كبيرة من الاسلحة  الحديثة التى تتدفق على جنوب السودان- جزء منها يصل الى مليشيا مسلحة معادية لحكومة الجنوب الشرعية والجزء الآخر والاكبر والاحدث يصل الى حكومة الجنوب. قطعا الذين استوردوا  هذه الاسلحة لم يستوردوها للالعاب النارية فى عيد رأس السنة. ولا لعروض الاحتفالات البروتوكولية. ينظر كل طرف من الاطراف الى انتخابات ابريل القادم فى السودان بانها  وسيلة لاسباغ الشرعية الدستورية على ما هو قائم بالفعل.الانفصاليون الجنوب ينتظرون منها ان تقرر فصل الجنوب عن الشمال. والشماليون ومعهم الاقلية الوحدوية من الجنوبيين ينتظرون منها ان تحافظ على الوضع القائم كما هو. ولا احد يستطيع ان يجزم بالغلبة لأى اتجاه قبل يوم فتح صناديق الاقتراع والاستماع الى قرارها .

حفظ الله العراق والسودان من الفتن النائمة والقائمة.

       نقلا من  الوطن القطرية)

Ali Hamad [alihamad45@hotmail.com]

 

آراء