العسكر للثكنات .. هل رسم أوشكور ورفاقه ملامح جديدة لشرق السودان ؟

بينما كانت زيارة حمدتي لمدينة بورتسودان تسير كما خطط لها الإنقلابيون استقبالات بالمطار , زبائح , ولائم وحشود جماهيرية مصنوعة ذات طابع عشائري كانت تنقصها فقط رقصة البشير الشهيرة لتكتمل الصورة .. وبينما زعماء القبائل يتصارعون فيما بينهم للظفر بدعوة حمدتي ووفده كل إلى مضارب قبيلته ( قبل ترسيم الحدود) وبينما الوضع هكذا بالغ القتامة والشرفاء من أبناء الشرق تعتريهم حالة من الزهول الممزوج بالألم وتتقطع أحشائهم حسرة على مستقبل بلادهم ومصير مجتمعاتهم .. وفجأة إذا بخيوط الأمل تتجمع من جديد لترسم لوحة بازخة الجمال وإذا بأرض سنكات وصخورها الصلدة تنشق تحت أرجل العسكر لينبلج منها شباب رائعون شاهرين هتافهم بحناجر قوية وقفت أمامها أنظمة الصوت ( الساوند سيستم ) خائرة ضعيفة معلنين بكل كبرياء وشموخ إنتهاء حقبة مظلمة من تاريخ الشرق سادت فيها القبائلية والعشائرية وتدشين حقبة جديدة ملؤها الأمل فالكلمات البسيطة والعبارات الواضحة التي صدع بها الترس سيدي أوشكور ورفاقه بسنكات (الثورة ثورة شعب .. والعسكر للثكنات .. ) والتقطها من بعدهم الترس آدم أبوبكر ورفاقه ليصدعوا بها في وجه حمدتي ببورتسودان ستظل ملهمة للقوى الجديدة وسترسم مستقبلا مشرقا لإنسان هذه البقعة من الأرض التي لطالما عانت الأمرين من مكائد العسكر ودسائس أتباعهم من زعماء العشائر

منذ تفجر ثورة ديسمبر العظيمة 2018 م ظلت اللجنة الأمنية لنظام البشير تنتهج سياسة اختزال إنسان الشرق بكل فئاته وتنوعه وعظمته وكبريائه في شخوص قيادات الإدارات الأهلية متوهمين أنهم إذا استقطبوا هذه القيادات دان لهم إنسان الشرق بالولاء ومطبقة عليه سياسة فرق تسد في أسوأ أنماطها

عقب تنفيذ البرهان وحمدتي إنقلابهما الأول بفض اعتصام القيادة العامة وما ترتب على ذلك من نتائج كارثية تلفت قادة الإنقلاب يمنة ويسرى لعلهم يجدوا جهة من الجهات أو قطاع من قطاعات الشعب السوداني العريض يؤيد مساعيهم لاستنساخ الإنقاذ (2) فلم يجدوا من قطاعات الشعب الأبي إلا النفور المقرون بالمقاومة الشرسة لمخططاتهم ولم يكن أمامهم من خيار سوى تجريب المجرب وذلك بنفخ الروح على زعماء الإدارات الأهلية من نظار , مكوك وسلاطين القبائل باعتبارهم قوى تقليدية ظلت على الدوام متحالفة مع الأنظمة الحاكمة أيا كانت توجهاتها الأيدلوجية علمانية كانت أو إسلامية .. وطنية أو أجنبية .. ومعادية للتغيير ومتمسكة دوما بكل ما هو تقليدي حفاظا على مصالح ذواتها وهو أمر متوارث فلم يجد الانقلابيون بدا من إنتشال زعماء الإدارات الأهلية من جحورهم التي دخلوا فيها عقب انتصار ثورة ديسمبر المجيدة والانهيار المدوي للنظام الذي لطالما ناصروه ودافعوا عنه ولطالما حشدوا له أتباعهم باللواري وعلى ظهور الدواب مستغلين جهلهم حينا ومسغبتهم أحايين كثيرة وفي النهاية لم يغنوا عنه شيئا أمام غضبة شباب وشابات السودان ومن يومها نشأ تحالف مبني على المصالح بين قادة الإنقلاب البرهان وحمدتي من جهة وبين زعماء الإدارة الإهلية ونظار القبائل بالسودان من جهة أخرى بالتركيز على الشرق ودارفور باعتبار أن الإدارات الأهلية ما تزال فاعلة فيهما نتيجة لعوامل كثيرة على رأسها الفقر وانتشار الأمية الأبجدية والتهميش الذي عانى منه إنسان هذين الإقليمين لعقود من الزمان والسياسات العرجاء لحكومة المركز وبتواطؤ من الإدارات الأهلية ذات نفسها

وقد تم تدشين هذا التحالف غير المقدس بين العسكر وقادة الإدارة الأهلية بتلك التظاهرة التي سميت بمؤتمر الإدارة الأهلية الشهير الذي احتضنه معرض الخرطوم الدولي في أغسطس 2019 م وقد أشرف عليه حمدتي بنفسه وصرف عليه أموال طائلة كانت مثار سخرية وتهكم الشعب السوداني حينها وحتى عندما اضطر العسكر الإنحناء للعاصفة وتوقيع الوثيقة الدستورية مع قوى الثورة والتي قضت بتقاسمهم السلطة مع المدنيين لم يفكروا قط بالتحلل من اتفاقاتهم مع نظار القبائل بل وسعوا نطاقه ووظفوا الإدارة الأهلية هذه المرة لإضعاف وتشويه مظهر الحكومة الإنتقالية التي رأسها الدكتور عبد الله حمدوك فعمل العسكر ليل نهار ومن خلال مخالبهم في الإدارة الأهلية على إضعاف الحكم المدني الديمقراطي وإظهاره بمظهر العاجز وتكسير قراراته وقد تمثل ذلك في المتاريس التي نصبت أمام الأستاذ صالح عمار حتى لا يمارس مهامه واليا مدنيا لولاية كسلا وكذلك الإعتراض على تعيين ولاة آخرين لأسباب قبلية وأخرى مبنية على النوع وتمثل ذلك في رفض الإدارات الأهلية تعيين الأستاذة آمنة واليا لنهر النيل ووضع العراقيل أمامها بحجة أنها إمرأة وكذلك التنمر على زميلتها والي الولاية الشمالية والتضييق عليها وكل ذلك بتشجيع وحماية من الشق العسكري وتارة أخرى بفرض مسار الشرق في المفاوضات التي أشرف عليها العسكر رغم تحفظات البعض عليه ومن ثم الإيحاء لبعض حلفائهم من النظار برفضه والمطالبة بإلغائه وفي ذات الوقت تشجيع شق آخر من النظار بتبني المسار والدفاع عنه في مسرحية هزلية بالغة السزاجة
ثم جاءت الطامة الكبرى بإستخدام الإدات الأهلية في التمهيد لإنقلاب 25 أكتوبر 2021م عندما أوحوا لهم بإغلاق الميناء وخنق البلاد والحشد لاعتصام القصر
هذا التحالف غير المقدس نتجت عنه في الأعوام الثلاثة الماضية أحداث دامية أزهقت فيها أرواح بريئة وأريقت فيها دماء طاهرة وشردت أسر آمنة وتمزق فيها النسيج الإجتماعي حتى أصبح الأمل في عودة السلم الأهلي في الشرق كسراب يحسبه الظمآن ماء

والناس غارقون في هذا الواقع الأليم أطل الأمل من أوسع أبوابه في هتاف الترس سيدي أوشكور ورفاقه بسنكات ومن بعدهم بهتاف آدم أبوبكر ورفاقه ببورتسودان .. هذه الحناجر القوية أسست لعهد جديد ملؤه التفاؤل بأن هنالك جنينا بدأ يتخلق في رحم الواقع السياسي والإجتماعي بالشرق .. وأن جيلا جديدا يكابد لتسلم الراية من أبرز سماته أنه متحرر من القيود القبلية والكوابح العشائرية التي كبلت إنسان الشرق لعقود من الزمان .. جيل مصادم ,يستفيد من التراث التليد لقبائل الشرق دون أن يصبح أسيرا للماضي .. ويتطلع أن تسود قيم الحداثة والتقدم شرقنا الحبيب وتتسع لتشمل أصقاع سوداننا الكبير تمهيدا للنهضة الشاملة لمجتمعاتنا التي نحلم بها جميعا
//////////////////////////